كفى مزايدة على الوحدة الوطنية
كلهم يزايدون أحيانا، بعض “البيظان”، بعض “لحراطين” وبعض “لكور”، وداخل حتى الفئة الواحدة، وعلى وجه الخصوص المحاولين طرح قضية معاناة مرتبطة بشريحة بعينها من البيظان، مثل “لمعلمين” ومن “لكور” مثل قضية “السوننكي” أو “الوولف”.
سبحان الله، من هذه الفسيفساء المتنافرة، الباغض بعضها لبعض، بغض يصل إلى الخلاف الحاد غالبا، والصدام الدموي نادرا!!!. فإلى أين نتجه؟!. غموض محير مستمر في مسألة الوحدة الوطنية المعقدة، رغم محاولات التهدئة، حتى بأقدس وأبلغ وأصدق العبارات، مثل العبارات والحقائق الدينية الشائعة، “لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى”، وإن لم يكن عندنا العجم، فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوصية المثال. ومثل القول، إن علاقة الأبيض بالأسود عندنا في نطاق الألفة النسبية القديمة، المبنية على الدين والتعايش، المزمن التاريخي والمصالح والآمال والآلام المشتركة، كعلاقة بياض العين بسوادها، وربما يكون سوادها أكثر حساسية من بياضها الغالب الأكثر، ولعل الوضع مشابه عندنا أيضا على أرض الواقع، سبحان الله. وكانت وستظل هذه الورطة الأتنية العرقية، محل استغلال وتجاذب مستمر خطير حساس إلى أكثر المستويات والحدود، ولاشك أن هذا الاستغلال لأغراض شتى، لا تخلو من المرامي الضيقة، التي لا تخدم إلا أصحابها المنشغلين بها، وليس المجتمع برمته، أو بعضه. إن الله سبحانه وتعالى ينهى المسلمين عن التفرقة بأي سبب، ويأمر بالإتحاد والتعاون والتآلف وصبر بعضنا على البعض الآخر “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون”. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى”. فهذا التنوع العرقي واللوني واللغوي والثقافي، رغم الانتماء الإسلامي الواحد، المتوحد حتى في المذهب السني والمالكي –فقها-، وحتى عند الأغلبية، في منحى الصوفية، الجنيدي مسلكا تربويا، مزكيا للنفس. فإلى أين نذهب إلا إلى الجاهلية –لا قدر الله-، وينبغي أن لا يهمنا كثيرا ويعوقنا الماضي الصعب المعقد، لأنه صعب بصراحة، والخوض فيه فتنة، لأن ما حصل فتنة، من كلا الطرفين. فلا نحن نقبل التجزئة وتقرير المصير على أساس ضيق عنصري، ولا نحن نقبل ما حصل من تصفيات جسدية وحشية جماعية، بحجة مفسدة لم تقع كلها، رغم جدية المدبرين المخططين لها، قبل وقوعها بكاملها، وإن تورط فيها بعض الزنوج، ضباطا أو جنودا أو مدنيين من مختلف المستويات، في نقاط محاولة أكتوبر الانقلابية سنة 1987، ذات الطابع العنصري الزنجي. وقد كانت ردة الفعل كذلك عنصرية أيضا في أغلب جوانبها، ومبالغ فيها وخارج القانون أحيانا وربما كل الأعراف والقيم الإنسانية الراشدة، مهما قلنا أو تعسفنا من حجج واهية، هي الأقرب للاشتراك في الجرم الشنيع، عبر تبريره وتسويقه باستمرار وبطرق ملتوية، لا تكفي لمحو آثار تلك الأحداث المروعة المثيرة للجدل. وأما التوقيف عنده –أي عند هذا الحدث الكبير- عقابا لمؤسسة عسكرية بكاملها وقتها، أو تحميل لون من المجتمع دون آخر المسؤولية عما وقع، فقد قال تعالى في هذا: “ولا تزر وازرة وزر أخرى”، أو محاولة ركوب الفاجعة، لتفجير المجتمع كله، أو وضع الإصر الثقيل والإرث الإنساني الدموي على برءاء، لم يشتركوا من قريب أو بعيد، وما وجد أي دليل كافي لتجريمهم!.فكل هذا سيظل صيدا في العكر الآسن الخطير، وهو طابع جل ما يتم من نقاشات، مسكونة بالبغضاء والكراهية وتحميل البريء وتجريمهم أحيانا عن قصد عنصري وسبق إصرار، من كلا الطرفين “العربي والزنجي”، وربما يكون من الأفضل تعميق حالة التعايش ومحاولة جبرها، رغم هذا الكسر الذي نعترف ونقر بخطورته، ولكننا في المقابل، لا نقلل من خطورة إقدام المتورطين من الزنوج، ولا من خطورة أيضا ردة فعل بعض المنساقين المبالغين في العقاب، من أزلام نظام ولد الطايع، الذين من بينهم زنوج كثيرون، ضرب بأيديهم رقاب بعض أهلهم، في إطار من خبث الأنظمة وشموليتها وراديكاليتها عندما تسرف في العقاب والاستئصال الإجرامي العنصري العفن، والذي ترك آثارا سلبية خطيرة هي الأخرى، وبحق على وحدتنا الوطنية، حاضرها ومستقبلها.ومهما حاولنا من تجاوز هذه المرحلة المؤلمة (التي اشتركت أطراف عدة داخل المجتمع والدولة في تكريسها) أقول مهما حاولنا تجاوزها، ستبقى مصدر خوف موضوعي على مصلحتنا الملحة، في العيش المشترك، على أساس الإسلام والمواطنة الجامعة.لكن التشبث بآلام وعثرات وأخطاء وملفات الماضي، مهما كان دور زيد البيظاني أو ممادو الزنجي فيها، أمر لا يدل على الرشاد ولا الوطنية وطلب مصلحة التعايش المصيري الحتمي بين الجميع على إختلافهم العرقي الشكلي. لقد كان معاوية حازما حين رفض العنصرية، بغض النظر عن مبرر حماية نظامه أو مجتمعه الخاص أو العام، ولكنه تجاوز العقاب إلى التصفية العنصرية، سواء كان مورطا من طرف أصحابه المدنيين أو العسكريين، المشاركين له في الحكم والتحكم، من العنصر العربي أو الزنجي أو غيره من خارج الوطن، ضمن خطة توريط وإرباك للدولة المسلمة والمجتمع المسلم الموريتاني، المتنوع المتماسك في أغلب مراحله وتاريخه، إلا ما يصيب ولو بمستوى يقارب الكثرة كل مجتمع أو مشروع دولة من هزات عنصرية، أو غيرها من أنواع الهزات المتنوعة، ذات الطابع الجمعي، الكثير الكلفة والانعكاسات. والمهم قوله في هذا المقام بصراحة، حتى لو فعل غيره دون علمه، أو دون الرجوع إليه، فذلك كله أمر يحتاج إلى التحقيق دنيويا وأخرويا، إن أراد ذلك ربنا، فمعاوية هو المسئول الأول عن هذا الملف الثقيل والجرم الدموي المدوي في الدنيا والآخرة على السواء، وينبغي أن يبادر إلى محاولة تصفية الملف الثقيل الذي ترك لنا جميعا. فليضحي وليفكر ويدبر، كما دبر في حماية نظامه أو مجتمعه من الخطر العنصري الداهم الذي روجت له مخابراته وأنصاره يومها على نطاق واسع، وليعلم الزنوج أيضا في المقابل، وخصوصا المشتركين منهم وقتها في لعبة التحريض الإعلامي السياسي، السر والعلني، الداخلي والخارجي بوجه خاص، ومن داخل المؤسسة العسكرية الحساسة نفسها، ولو دون المشاركة المباشرة الفعلية الميدانية في الأحداث المروعة في رمضان89 والمحاولات الانقلابية المشار إليها. أقول هؤلاء أيضا ينبغي أن يعترفوا بأنهم حملة مشروع حاقد عصري دنيئ لن يقبله أحد، مهما تستروا بحجة تقرير المصير وظلم البيظان لبعض المكونات الأخرى، فكل ذلك لا يصل إلى مرحلة القتل وتغيير هوية الدولة الجامعة إلى فصيل عنصري، قد لا توجد مقومات وجوده أولى بقائه، ومهما حقد هؤلاء العنصريون من الزنوج وهم أقلية داخل المجتمع الزنجي، ولكنها أقلية مؤثرة وفاعلة، ولو نسبيا، فنحن البيظان بصراحة، من أكثر من أحب هذه الأرض ودون تمييز أحيانا، في أغلب الأوقات والأزمنة والأمكنة، وقد كرس أجدادنا واقع التعايش رغم الاختلاف العرقي والتنوع في الثقافة والتقاليد إلى جانب أجدادكم سواء بسواء. واليوم لا وجه لأسلوب آخر، بتحريض من الصهاينة وغيرهم من الجيران أحيانا، ممن يكرهون بقاء موريتانيا متنوعة مسلمة متماسكة، وقد وقع هذا الجهد الجامع من طرف أشراف البيظان وأحرارهم ومختلف مستوياتهم، قبل بروز شوكة بعض الحراطين الجدد، إثر موجات التحرر والوعي والإنعتاق الإيجابي، والذين هم جزء منا، وإن رفض بعضهم من أمثال بيرام أو الساموري ولد بي العنصري، المبتغي لتفجير المجتمع ولو تفجر فلن يخدم أحدا، والحرب الأهلية التي يندب إليها حماقة وجهالة وسفاهة بعض متطرفي البيظان أو الزنوج أو الحراطين، إن افترضنا إمكانية إنفصال “الحراطين” عن العنصر المكون العربي، فإنها لا تخدم أي أحد في النهاية. وأقول مجددا للجميع، “بيظان”، زنوج وحراطين، إرضوا أو أغضبوا أو تقبلوا هذا أو أرفضوه، ولكن إن لم تقبلوا نصيحتي وبسرعة، فستتحولون يوما قريبا لا قدر الله ولو بحادثة واحدة، ممثلة القشة التي قصمت ظهر البعير إلى حرب الزقاق والشارع والفلوات، لينطلق الحريق العنصري القاصم المدمر للوطن، وسيكون أخطر من أحداث ماضية وقعت زمن معاوية أنتم معشر الزنوج أول السبب فيها، لأنكم تجاوزتم المظلمة المحدودة إلى مشروع تفجيري غير مدروس ومتهور، لم يخدمكم ورجع عليكم، ومازلنا وإياكم جميعا ندفع ثمنه جراء ردة فعل النظام العسكري الإستثنائي القائم حينها، وما معاوية إلا واحد من فريق عسكري متهور منا ومنكم. فلنوسع دائرة التزاوج والشراكة المالية والزراعية والإقتصادية والثقافية والدينية والروحية والعاطفية الإيجابية، عسى أن نبني مجتمعا رغم مخاطر العنصرية، والتنوع الفاتن، الذي هو في صميمه ليس إلا إختبار من الله. وإني أرجو من صميم قلبي، أن تنجح نخبنا وعامتنا، في كسب امتحان التنوع العرقي، فقد حان وقت التراحم الحقيقي والتعاون الكامل في أوسع المعاني والساحات والميادين الظاهرة المتهورة، المعمقة للوحدة الوطنية الهادمة لجدار الجفاء والكراهية وإلى الأبد، مهما كانت أخطاء الماضي ونواقص الحاضر، من أجل غد موريتاني إسلامي جامع بإذن الله.
عبد الفتاح ولد اعبيدن المدير الناشر ورئيس تحرير صحيفة “الأقصى”