رسالة مني: عبد الرحمن ولد بوننه
طفلا كنتُ ألعب الكرة في الشارع ككل الأطفال في هذا الوطن الحزين! أذهب إلى المدرسة بمعدة خاوية غالبا و في محفظتي قطعة من الخبز الحافي دستها جدتي الحنون كزاد أقتات به بعد الخروج إلى الساحة الساعة العاشرة..
لم أكن من أطفال الشوكولاته و الزبدة و لا الساندويتش و لا الآسكريم و الهامبرجر و لا النعومة و الوزن الزائد بل كنت أسمع دوما عن هذه الأشياء و أراها في أيدي و عيون أطفال العالم عل التلفزيون في قنوات الأطفال أو في أفلام الكرتون التي طالما أحببتها و إن كان عدم امتلاكنا لتفاز بالألوان ظل حائلا بيني و بين هوايتي في متابعة أفلامي المفضلة… بالكاد أتذكر ملامح وجه أمي فقد فرقت بينا الأقدار..كانت ذاكرتي حينها طرية و لم تكن بذلك النضج بحيث يمكنها الاحتفاظ بكل تفاصيل تقاسيم الوجه و نبرة الصوت و نظرة الحنان و إن كانت جدتي لم تبخل علي بشيء من هذا فإذا كان هناك من يعرف أن “الذي فقد أمه يرضع جدته” فهو أنا!
أما أبي فإنني فقدته منذ نعومة أظافري و قد تعلمت مع مرور الوقت عادة حزينة اسمها “الحياة بدون أبوين” ..كنتُ أتضايق و أحس بحزن عميق حينما يتحدث الأطفال من أقراني عن أمهاتهم و آبائهم و يحكون قصص التحايل عليهم للخروج من أجل اللعب و أنا أثناء حديثهم أنزف بصمت و أتعذب بصمت لقد كنت أشبه ما أكون بلوحة الوجع و القلق “غرنيكا” الشهيرة أو كنت “كمصباح الطريق…أبكي و لا أحد يرى دمعاتي” إلا أن وضعيتي الحالية جعلتني أجتر الماضي بلذة و نشوة غامرتين لأن بعض الشر أهون من بعضه..
مع كل هذه المآسي لم تخلُ حياتي من لحظات سعادة بريئة و دافئة في حضن جدتي الفقيرة الغنية ولم تخل من تشبث آمل بالآتي مهما كان الواقع مأساويا لأن جرعة الأمل التي أطعم بها انكساراتي و أرتق بها ما فتقته يد القدر من نسيج الروح كانت بلسما لجراح الحاضر الغائرة فرغم تعودي على الأحزان و الأوجاع و تعودها علي إلا أنني ظللتُ أهرول خلف لحظة ضائعة بين رمال المستقبل أزعم أنها لحظة سيتحول معها البصيص الذي يغازلني في آخر النفق إلى ضياء ساطع يبطش بحالك الأيام و هذا ما كان كافيا بالنسبة لي لأعيش السعادة الذهنية.
المستقبل!!.. آه المستقبل!! ذلك المجهول الذي نظل نلهث خلفه و قاطرة الزمن تقلنا إلى محطاته التي نعتقد أنها ستكون أفضل مما نحن فيه لكن الأمر ليس دائما بهذه الرومانسية الوردية التي نرسمها في مخيلاتنا الحالمة…
لقد حل ذلك المهدي المنتظر المدعو “المستقبل” و قد كان زمنا موجعا يحمل في طياته الألم و المرض و الموت و هي ثلاثية أراها اليوم أنى التفتُ تذكرني بنفسها بإلحاح و إصرار لا أستطيع أمامها صمودا.
لقد كانت بثرة عابرة حسب تفسيرات جدتي الحنون حينها و ربما كانت تعبر عن أملها بما تريد أن يكون عليه الواقع أكثر من التعبير عن الواقع نفسه ثم تطورت البثرة مرورا بمراحل عدة لتصبح سرطانا يزحف على جسدي النحيل في رحلة خبيثة ما لها من شواطئ غير الموت و الذبول!! ليس فقط موتي أنا بل أيضا موت عشرات الأحلام المؤجلة و التي بقيت طي الكتمان مدفونة في أعماقي كما سيدفن جسدي الآن في أعماق الأرض إن لم يمن علي الله بمعجزة, ذلك أن الشفاء من هذا المرض الخبيث يتطلب رحلة استشفائية إلى سويسرا تكلف ملايينا لم أسمع بها أنا و لم ترها جدتي قط و لا سائق عربة حمار بيع المياه خالي الغالي و الصامد في وجه الأعاصير بنبل و صبر أسطوريين!
منذ ولادتي و أنا في رحلة اتراجيدية بين المآسي,من ضفة حزن إلى ضفة حزن و من مرسى وجع إلى مرسى وجع أكبر منه حتى أصبحت الأيام القادمة بالنسبة لي مجرد تجل من تجليات رحلة المآسي و الآلام الطويلة على سكة الزمن السيزيفي…
لا مدرسة بعد اليوم و لا جوع بعد اليوم و لا لعب على ناصية الطريق ولا كوخ بعد اليوم و لا ضمة لجدة عاجزة و هي تراني أتعذب أمامها و أذوي كالوردة و ليس لها من حيلة لأن هذا العالم-و هذه حقيقة مرة مرة- لا يعبأ إلا بالأصحاء و الأغنياء و المولد الاستهلاكية..اليوم لا صوت يعلو فوق صوت الموت و الموت فقط كأنني لعنة تتقاذفها الأقدار في بحر من النسيان!
قد أسلم الروح إلى بارئها لكن روحي ستظل تذكر أبدا أن خير أمة أخرجت للناس تركت طفلا من أطفالها تنهش جسدَه الآلام و يزحف الوجع على أعضائه و هي قادرة على إيقاف ذلك و شتان بين القدرة والإرادة..و سأظل- رغم صفرة الموت التي تغزو سمرة بشرتي و رغم نداء القبر الذي أسمعه كل لحظة- واثقا في الله العلي القدير و متشبثا بأملي في هذه الأمة خاصة أصحاب النوايا الحسنة و المحسنين منها.
في النهاية أعتذر لكل الأطفال عن عدم قدرتي على اللعب معهم..على مقابلتهم و الدراسة معهم و أعتذر لمقعدي المفترض في الجامعة فالأمر أكبر من مقاومتي و إرادتي و من صمتي الصارخ في وديان الصمم…