ابَّامِينْ… عبقرية منسية
ولد المرحوم ابَّامِينْ “لمرابط” ولد عبد السلام ولد الأمين “ابَّامِينْ” ولد المختار ولد أحمد ولد محمد الكريم، سنة 1946م في “اگرَاندْ كيصْ” في السينغال، حيث نشأ، ونهل من معين معارف والده عبد السلام الذي عرف بالعلم والكرم والفصاحة، كان عبد السلام يتكلم الفرنسية، وإن لم يدرسها! وكان من متقدمي قومه، الذين قطنوا السينغال، ورعوا أمجاد عشيرتهم..
نشأ ابَّامِينْ في هذا الجو، نجيبا، فحفظ القرآن صغيرا، وتضلع من علوم اللغة، والشريعة، قيل إنه كان يحفظ الكثير من مقامات الحريري، كان يحفظ أي شيء سمعه من أصدقائه السينغاليين!
التحق المرحوم ابَّامِينْ بقسمنا الدراسي، “مستعمعا حرا” مطلع السنة الدراسية 1959/1960 ونحن – يومها – في “التحضيري الثاني” CP2، كان – رحمه الله – مثابرا جدا، إذ يسبقنا جميعا في حفظ الدروس، وعينٌ أخرى ععلى دروس المتوسط الأول، أيان انطلاقة السنة الدراسية 1960/1961، طلب ابَّامِينْ من المدير أبن ولد أبن عبدم، الالتحاق بالمتوسط الثاني، فقبل بعد تقييم لمستواه، كان ابَّامِينْ طوال تلك السنة منكبا على الدروس لا يشغله شيء عن ذلك، سوى الصلاة، وبعد انقضاء السنة نجح في امتحان الشهادة الابتدائية الفرنسية، وحاز على المرتبة الأولى في مسابقة دخول التعليم الثانوي (COUNCOUR) وذلك على مستوى مقاطعة المذرذرة، التي لم تكن وقتها تفتقر إلى العباقرة، وهي التي خرجت أمثال: اباه ولد اكاه، والخليفة ولد الحسن، ومحمذن بابه ولد امينْ، والمرحومين سيدي ولد الشيخ، ومحمد ولد الشدو “بمب”، التحق ابَّامِينْ بثانوية نواكشوط، مطلع اكتوبر 1961 بعد أن اختزل تعليمه الأساسي في سنتين!، من ثم انطلقت رحلة الامتياز، فكان يتسلم – نهاية كل عام دراسي – حائزة الامتياز من يد الرئيس الأسبق الأستاذ المختار ولد داداه – رحمه الله – كما كان ابَّامِينْ يحصل على الجوائز الأولى لكل المواد، أما في الأقسام الثانوية فكان يتنافس أخويا على الامتياز مع صديقه محمذن بابه ولد امينْ، وكان كل منهما ينصف زميله، ويقول إنه إن الجائزة من حظ الآخر، نجح ابَّامِينْ متفوقا في باكلوريا الرياضيات، وحصل على الدرجة الأولى في الفيزياء في دورة 1969، تم توجيه ابَّامِينْ إلى قسم الفيزياء والكيمياء في جامعة تونس، ليحصل منها على “الليصانص” “المتريز” فكرم بجائزة الحبيب بورقيبة، لم يكن ابَّامِينْ طالبا عاديا، يستوعب الدروس النظرية فقط، بل تعدى ذلك إلى التطبيق!!، كان – رحمه الله – فكرا متوهجا، وباحثا مبتكرا! لقد استطاع ذات مرة أن يركب جهاز تلفاز، وبعد نجاح العملية، صرخ قائلا:
“جاء الصوت الآن، ومازالت الصورة”، بعد عودته إلى الوطن أرادت شركة “سنيم” SNIM اكتتابه، لكن عوائق حالت دون ذلك، فانخرط في سلك التعليم، ليصبح أستاذا لمادة الفيزياء والكيمياء في ثانوية البنات، قبل أن يلتحق بالمدرسة العليا للتعليم، كان ابَّامِينْ – رحمه الله – على صلة وطيدة بكثير من الأندية، والجمعيات العلمية، فقد حضر مؤتمرا للفيزياء النووية في بغداد، وعلى إثره وجه له الرئيس الراحل صدام حسين رسالة يدعوه فيها إلى العمل في العراق، عاد ابَّامِينْ مرة أخرى إلى تونس ضمن بعثة أرسلها معهد تكوين أساتذة الإعداديات، وذلك لتيلقى تكوينا في مجال تحليل وتقييم البرامج، في المعهد العالي للتربية والتكوين في تونس، أما في المغرب وفي مهمة مماثلة فقد حصل ابَّامِينْ على ديبلوم الدراسات المعمقة DEA في علوم التربية، وخصوصا في مجال تقنيات تدريس العلوم الدقيقة. لم يكن ابَّامِينْ باحثا علميا فقط، بل أيضا كاتبا مبدعا ومترجما مجيدا، تجاوزت كتاباته حدود الوطن، فقد ترجم قصة “أبناء نزار” إلى الفرنسية، وهو إذ ذاك يدْرس في الثانوية، كما ترجم مقطوعات من أدب امحمد ولد أحمد يوره منها: حدْ ابْغانِ نرعَ لَمْــگادْ :: افْبَغْيُ وانْزوزْ المــــعتادْ وحدْ اكْرَهْنِ منّ نبْعادْ :: اعلَ حالَ مــــــــاهِ غَجْرَ وانْواسِ لَمّاسينِ زادْ :: رِيحَتْ حجرَ رِيحَتْ حجرَ حصل ابَّامِينْ على جائزة أحسن قصة في مسابقة “الفرانْكوفونية” وسلمت له الجائزة في المركز الثقافي الفرنسي، ترجم ابَّامِينْ كذلك دوانا شعريا لسفير سابق للكويت في موريتانيا، وقيل إن الترجمة كانت أحسن من النص الأصلي، كان – رحمه الله – يجيد قرض الشعر باللغتين العربية والفرنسية، وكان أسلوبه يسمو إلى مستوى الشعراء والكتاب الكبار من أمثال: LA MARTIEN لامَرْتينْ” VICTOR HUGO “فيكتور هيكو” وذلك ما جعل دار “فيرناند ناتهان” FERNAND-NATHAN تدمج خمسة عشر استشهادا من ترجمة قصة “أبناء نزار” في كتب النحو والصرف المقررة في مدارس فرنسا، وعندما احتج ابَّامِينْ على ملكيته الفكرية للترجمة ادعت دار “فيرناند ناتهان” بأنها اشترت الاستشهادات من دار “لاكازيل” LA GAZELL التي أجبرت على تعويض حقوق المؤلف للمرحوم ابَّامِينْ، كان الدكتور محمد المختار ولد اباه ينوي ترشيحه للمشاركة في ترجمة القرآن الكريم، كان ابَّامِينْ رغم مكانته العلمية شخصا متواضعا في المظهر، عميقا في البحث والتصور، كان يقضي جل أوقاته في المقاطعة الخامسة، بين رفوف الكتب العلمية، والأجهزة الدقيقة التي كان يقوم إما بإصلاحها أو بإجراء تجارب علمية عليها، روي لي أن المرحوم أحمد ولد الزين – هو من محبي النوابغ – كان يزور ابَّامِينْ في ورشته، ويناقش معه المسائل العلمية على جلسة شاي. كنت أزوره أنا أيضا في تلك الورشة، وكان يستقبلني ببشاشة، ويكرمني، ويذكرني بوشائج الأخوة والمودة التي ربطتنا، ونحن صبية في معاهد ليلى. عرف ابَّامِينْ بمحبته الخير والإحسان، فكان يؤوي الأجانب الذين تقطعت بهم السبل، في ملحق ورشته، حيث يضيفهم ويعلمهم تعاليم الإسلام أحيانا. أيضا كان وطنيا مخلصا يعمل على أن تبقى العلاقات متينة بين مكونات الوطن، وكذا مع الدول المجاورة، بعد أحداث 1989 بين موريتانا والسينغال، اختفى فترة، فلم يعرف الأهل والأصدقاء أين ذهب؟! وبعد ذلك عاد من السينغال، فسأله أحد الأصدقاء: كيف تذهب إلى السنغال في مثل هذه الظروف؟ فأجاب: ” هاذَ هوَ الِي وسَانِ انْكِيسُ، ايَاكْ نِوكِلْ تَيْبُ دَنْ تحتْ مَنْكْوايَ، ونتْكَلّمْ بَكْلَامْ لَكْوَرْ” بعد معاناة طويلة مع مرض السكري، وفي مساء 18 مايو من عام 2000 اختفى ابَّامِينْ عن عمر ناهز أربعا وخمسين سنة، كرست أيامها للتحصيل والبحث والعمل، ولئن غاب عنا مجلسه فإن عبقريته الفذة ومساره الفريد، وأعماله الرائعة مازالت ماثلة بيننا، فعار علينا أن ننساه ولا نعرف به، سيما وأنه يمثل نموذجا ينبغي أن تحذو حذوه الأجيال الحاضرة والقادمة.
رحم الله ابَّامِينْ برحمته الواسعة، وبارك في ذويه.
ابَّامِينْ… عبقرية منسية/ اباه ولد عاون ـ يظهر في الصورة المركبة
المصدر:”موقع التاگلالت”