الواقع العربي بين إدارة المستحيل وإهدار الممكن / محمد ولد أحظانا
لا علم لي منذ استطعت التمييز بين الممكن والمستحيل، بفسحة من الواقع العربي، ولا من الزمن العربي المعاصر، يمكن تخصيصها للتفكير المتأني دون شواغل صارفة، ذلك أن الواقع العربي من حينها، يعاني من وطأة الانفعال الدائم، إما بهم داخلي داهم، وإما بإرادة خارجية غاشمة، حتى أصبح واقع الطرف الخارجي ثابتة في التعاطي العربي البيني.
واليوم فإن فسحة التفكير في الواقع العربي بالتروي الكافي أضيق مما كانت عليه في أي وقت سابق، لأن إحراج الانفعال، ووطأة المصائب المتهاوية على رؤوس الأمة جميعها، والمآسي، والتمزق، وما ترتب عليها من خور، وفقدان وجهة، وغياب رشد، وميل للانتحار الذاتي.. مما يمكن أن نسميه إجمالا العمى الجمعي؛ هي نواظم لحزمة الواقع الشاخص في الرقعة الترابية الناطقة باللغة العربية.
فهل ننتظر بالتفكير حتى “تتحسن الظروف” أو “نرى ضوءا في نهاية النفق المظلم”؟ لكن إذا كانت ظروفنا تمارس هواية الإيغال في السوء؟! وإذا كان النفق الذي ندلج فيه مسدود النهايات؛ فما ذا ننتظر؟! أسئلة أطرحها على المثقفين العرب، وأصحاب الرأي، والدراسات الاستراتيجية، إذا كان لدينا مثقفون وأصحاب رأي ودارسون استراتيجيون يمكنهم تحرير فسحة افتراضية للتفكير، ليفكروا لنا، سواء وجدوا الوقت الكافي لذلك أم لم يجدوه. أما أنا فإنني لم أجد بدا –رغم سيل الوقائع المستفزة للانفعال -أينما وجهت وجهي- من التعاطي مع شغب التفكير في واقع هذه الأمة، التي تملك أسباب السيادة والتميز الضمنية، ولكنها تفتقد شهية السيادة أوتقعد عن التميز، فتتفادى تحويل ضمنيات السيادة إلى واقع.. في انتظار.. الانتظار! سأنطلق نحو مقاربة التفكير في واقعنا الحالي من روح إجابة محلية جدا، تنتمي للحكمة المحلية؛ بل الأهلية: لدي خال حكيم، جبل على حب الأرض، والشغف بزراعتها، وكان لديه حقل قد أنبت زرعه، لكن الأعشاب البرية تكاثفت فيه، مما سيخنق الرزعات الصغيرة، فوقف متأملا الحقل المترامي، ثم حدث ولده الأكبر، الذي لم يكن معه غيره للمساعدة، ولم يكن بحوزتهما إلا سكك يدوية بدائية؛ قال الفلاح الحكيم لولده: -لقد استنتجت رأيا جيدا بخصوص هذا الحقل. فسأله الولد متلهفا وقد توقع أن يكاري والده على الحقل، أو يدعو من يساعده فيه: هل نزارعه، أو نكاري عليه؟ فأجابه الوالد: لا هذا ولا ذاك. الرأي أن نشرع في اجتثاث هذه الأعشاب الكثيفة حتى نزيلها جميعا بهمة لا تكل، قبل أن تختنق زرعات الذرة البيضاء فلا نحصل على طائل من زراعتها أصلا. وقد أقبل الفلاح وولده على العمل، فحصد غلة وفيرة من حقله في تلك السنة. إن واقعنا اليوم تجاه التحديات الهائلة في رقعتنا العربية شبيه بواقع حقل الفلاح الحكيم، وأيا كان ما بأيدينا من سكك بدائية أو غيرها لإزالة الأعشاب الضارة عن حقلنا، وأيا كان اتساع أرجاء الحقل، فلامناص لنا تجاهه من أحد خيارين: تنقيته من الأعشاب الضارة، أو ترك زروعه تختنق تحت رحمة النباتات الوحشية المتغولة، الزاحفة من كل الجهات. هل نعقد “صفقة خبرة” لإصلاح الحقل مع بعض الخبراء من الأمم الأخرى، حتى يفكروا نيابة عنا، وأصالة عن أنفسهم، في أنجع الطرق والخطط لتصحيح مسار أمتنا المنكوبة على جميع المستويات والصعد؟ أم أننا جربنا بعد، تلك الوصفات الكسولة –في أحسن حالاتها- فلم تغني عنا شيئا، وضاقت علينا الأرض بما رحبت؟! أم الصواب أن نكلب سواعدنا من وراء ركبنا حتى لا تحلم أرجلنا بالتمدد غير المأذون، ثم نتلو الفاتحة على أرواح الزروع الحميدة بعدها؟ أم نختار بإخلاص سبيل الفلاح الحكيم؟
من أجل التفكير بالأصالة عن الذات ليس من السهل أن نغير عادة عدم التفكير أصالة عن الذات؛ خاصة بعدما تشربت الذاكرة، والعقل الجمعيان بعادة الاستقالة، وترسخ الكسل الذهني، والاتكاء على جهد الآخرين في حل المشاكل؛ لكن غزارة المشاكل وإلحاحها، وتزاحم الأزمات، وتراكم اليأس من حلها من خارج دائرة الكيان.. تضاعف الإحساس بألم وطأة الإنابة: الإنابة في استغلال الإمكانيات بالنيابة، وقول بالنيابة، وحياة بالنيابة، وسيادة بالنيابة، وشرف بالنيابة، وعدل بالنيابة، وتطور بالنيابة، ونيابة بالنيابة.. فكيف نعدل عن هذه النيابة عنا في كل شيء؟ النيابة المستشرية في جميع تفاصيل واقعنا، السارية في أوصالنا.. حتى نتحول إلى سلوك التفكير أصالة عن الذات؟ إن النفوس بفطرتها التي فطرت عليها أصلا، أيا كان الردم والصدأ الذي تراكم عليها، تميل في النهاية إلى التفكير في الخروج من المآزق التي تردت فيها.. وبما أننا نعمه منذ الأمس الأمس الاستعماري، إلى اليوم الـ.. في حلقة مفرغة من الكهوف المظلمة، فهذا مما يجب أن يحفز فطرتنا على التفكير أصالة عن أنفسنا. إننا نعمه فعلا داخل كهوف واقعنا، وهي كهوف متلاصقة الجدران، رغم أن بعضها دافئ، ناعم الطلاء، مفروش بالديباج، والوسائد والتكايا الوثيرة، وبعضها خشن، بارد، موحش.. إلا أنها كلها –بحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه- كهوف مظلمة، لا يميز ساكنوها، سواء كانوا مترفين أم بؤس: أهم عميان أم مبصرون؟ ولا فرق بين من يعيش أبدا في ظلام مدلهم، وبين من هو أعمى البصر حقيقة، فكل منهما لا يبصر.. ويكفى ذلك من تساويهما في النتيجة.
ما طبيعة تلك الكهوف المتجاورة مكانيا، المتباعدة فعلا؟ يمكن أن نطلق على هذه الكهوف دون تردد: “كهوف العمى الجمعي العربي”، فمن حيث التسمية يبدو الوصف مطابقا لواقع الحال. إن الإنسان العربي بواقعه منشطر إلى أغلبية أعماها الشقاء الوفير، وأقلية أعماها الترف المدقع. والنتيجة واحدة في الحالين، وهي العمى. فماهي أعراض العمى الجمعي العربي؟ لن نعدد مظاهر العمى الجمعي العربي هنا في هذا المقال بشكل مفصل، لأنها أكثر من التعداد، ولكننا سنضرب أمثلة لأنواع منها، ويمكن قياس البقية على تلك الأمثلة بتطبيق قياس الشاهد على الغائب الذي أتقنته تقاليدنا الفكرية على مدى قرون. من أمثلة أعراض ومظاهر العمى الجمعي: 1- فقدان الوجهة: أنا أسألكم أيها المثقفون، وأيها السياسيون، وأيها الاقتصاديون، وأيها النقابيون، وأيها الزعماء العشائريون، وأيها المواطنون العاديون، وكل “الأيهات” في مشارق الرقعة الترابية العربية ومغاربها، بعاقلكم وأحمقكم، بجاهلكم ومتعلمكم، بمترفكم وفقيركم: أيكم اليوم يمكن أن يجيب بثقة على سؤال مطروح عليه دائما وهو: إلى أين يتجه بي واقعي الفردي والجماعي، غدا؟ أتحدى أي صنف من أصناف المكونات النخبوية والشعبوية في العالم العربي أن يجيبني على هذا السؤال بالإيجاب، أي بأنه يعرف وجهته المستقبلية تماما دون أن يوصم بأنه يكابر بالمحسوس. فإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فهل نحن عميان أم مبصرون؟ ولا يقل لي أحد: إنه ليس أعمى فعلا، وما عدم إبصاره لمستقبله إلا لأن واقعه مظلم.. فقد أسلفنا أن العمى الذاتي يساوي عمى المحيط، لأن لهما نفس النتيجة. 2- تشتت الانتباه: إذا ألقينا سؤالا موازيا للأول على الإنسان العربي بصيغة: على أي إشكال عربي تركز انتباهك فعلا: الوضع في فلسطين مثلا؟ فسيجيبك: نعم، لكن لا، فانتباهي مشتت بين واقع فلسطين وبين الحرب الأهلية في العراق.. وهو لايني ينصرف إلى التفكير في الحرب الأهلية بسوريا، وليبيا، واليمن. ثم سيتدارك: لكن انتباهي مشدود أيضا إلى الأزمة المستحكمة بين مكونات الأمة المتناحرة، المتناهبة بأهواء لايمكن تصورها، فالشباب متناحر بينه شيعا، والكبار يحافظون على تناحرهم المتوارث حفاظهم على مدخراتهم، والدول متنابزة فيما بينها بالألقاب، متقاطعة الأرحام، تحارب بعضها بعضا من تحت الطاولة وفوقها، بضراوة وإصرار نادرين.. وسينتهي الإنسان العربي إلى خلاصة واحدة، وهي أنه لا يستطيع التركيز على كارثة عربية سواء على المستوى الأفقي أو على المستوى العمودي دون أن تصرف انتباهه كارثة أخرى أدهى وأمر منها. فما ذاك إن لم يكن هو تشتت الانتباه على أشده؟ 3- غياب المشروع: لو سألت النخب في العالم العربي، ما المشاريع التي تتبنونها لإصلاح حال الأمة، وإزالة واقعها الحالي؟ لما وجدت غير التلاحي والتلاوم، وتحميل المسؤولية للآخرين، بكل فصائلهم ونحلهم. فالكل بريء حتى ولو ثبتت إدانته بشواهد الأمور وما جره على أمته من جرائر ترجح بالأرض إن تجسدت في وزن، وتشغل كل فراغ إن تحيزت في حيز. من المسؤول عن حالة العمى الجمعي؟ رغم التبرؤ الجمعي والفردي من المسؤولية عن الواقع العربي الكارثي، فإن المسؤولية واقعة على جميع النخب، سواء كان السبب مباشرا بالخطأ الممارس، أوالتقصير العملي، أوالتقصد المرضي لإساءة الظروف بدوافع أنانية؛ وسواء كان لجهل ووهن ذهني، وسذاجة وعي، وخور عملي.. في أحسن الأحوال. لكنني هنا –خروجا على آلية التخاطب السائدة بين النخب العربية- لن أهتم كثيرا بالتلاحي الدائم حول براءة الجميع من جرم لم يرتكبه غيرهم، وإنما ارتكبوه: إما بالتمالؤ مع طرف خارجي غاشم، وإما عن نية سيئة، وإما عن عجز ذاتي.. فكلهم في الهوى سواء. إن الدخول في مهاترة تحميل المسؤولية والتبرؤ منها لا يفيد في تصور الحلول، ولا يساعد على تحقيق توازن نفسي ضروري للتفكير المطلوب في حلول من أي نوع كانت. لذا فإن المسؤولية عن الواقع الحالي متوزعة بين النخب، وحتى بين العامة.. كأن ليس في الأمة، نخبة وعامة، رشيد يرشدها ولا مأمون يؤمنها بصورة جماعية. فكنا بذلك في وجه عهد الخويصة. ما نستطيع تأكيده في المحصلة أيا من وقعت عليه المسؤولية، أن الكوارث المتلاحقة المتجددة ارتهنتنا إلى سلسلة من الكهوف المظلمة. هل تمكن إنارة الكهوف؟ إن الحكمة البالغة تميل -حسب رأيي- إلى التفكير في الخروج من الكهوف المظلمة بدل السعي إلى إنارتها، لأنها ليست مقاما محترما لمن يحترم نفسه.. ولن نخرج من كهوفنا إلا بالتحرر من انطوائيتنا على أنفسنا، وتفردنا بخصوصيتنا الذاتية، التي يجب أن نتخلص منها حتى نستطيع أن نخرج إلى العموم وأيدينا متحررة من التستر على الهنات والعيوب. عيوب الأنانية، والرغبة المرضية في التفرد، من خلال الثناء على ميزات الكهف الخاص بكل واحد منا، أو بكل فصيل أو نحلة، أو حيز ترابي كهفي السمات. إن الوحدة العميقة للوعي المشترك، أيا كانت طبيعته، تحتم أن تكون الحلول مشتركة، وأن يكون التواصل العملي قائما، لأن أي مرض يصيب أحد ساكني الكهوف سيصيب البقية، بحكم وهن الجدران التي يتحصن بها شاغلو الكهوف المتجاورة، إذ الجدران طارئة بعد اكتساب الصفات الوراثية لجميع سكان الكهوف. كما أي حريق يصيب كهفا ستنتقل عدواه ودخانه إلى كل الجوار، لأن الحواجز ليست سميكة ولا متماسكة بالقدر الذي يحجب دخان بعضها عن بعضها الآخر أو يدرأ الحرائق إن شبت في أحدها. وعليه فإنني أتصور أن الحل لابد أن يتصف بصفتي: الجمعية، والخروج على تقاليد الكهوف المظلمة، ولو رمزيا في مرحلة أولى. ولذا فإن مهمة التفكير تنصب على الخروج من المعازل، لا على بذل الجهود الطائلة في إنارتها، لأنها -مهما أضيئت- ستبقى كهوفا. فسؤالنا المطلوب يجب أن يكون بصيغة: كيف ننير دروب الخروج من الكهوف السياسية؟
تشخيص أولي للحالة العربية العميقة يمكن أن نلاحظ بصورة مجملة: أن مشاكلنا متوطنة في وعينا، وسلوكنا البيني، وتعاطينا مع العامل الخارجي، فوعينا –غالبا- غير متناسب مع طموحنا المشروع واستغلال قدراتنا الذهنية، وسلوكنا قاصر عن أداء المتطلبات الحضارية، وتصورنا لتأثير العامل الخارجي تصور مبالغ فيه تضخيما وتطفيفا. ولذا فإن حالتنا عموما حالة مختلة في تقدير أي مستوى من مستويات الأداء: التفكير، العمل، العلاقة مع المحيط البشري. إنها حالة من عدم التكيف. ولا تسأل كم من المشاكل ستترتب على عدم التكيف مع الذات و المحيط؟ لكن وجود أي حالة إنسانية مهما كانت صعوبتها لا تعني بالضرورة أنها أبدية، لذا فإن الفطرة السليمة تستدعي منا التسليم بأن واقعنا الحالي ليس واقعا لنا، حتى نحافظ عليه حفاظنا على أي مقتنى من مقتنياتنا الثمينة. لذا فإننا وفي سبيل إنارة درب الخروج من سلسلة كهوفنا فإن علينا أن نسلم -ولو إجرائيا- ببعض المنطلقات المهيئة للخروج من واقعنا: 1- الاقتناع بأن مشاكلنا قابلة للحل، لأن أمما أخرى أقل مؤهلات منا قامت بحلها. 2- أنه لن يحل مشاكلنا حلا جذريا سوانا، مهما كانت قدرته ومهما كان وهننا. 3- أننا لن نحل مشاكلنا دون تفكير يتجاوز التردي في واقعنا العاجز إلى أفق إمكانياتنا الكامنة. 4- أن أي حل جدي لابد أن يصاحبه تلازم بين التفكير والعمل: التفكير لتوضيح الرؤية، والعمل لتجسيد الرؤية على أرض الواقع. 5- أن الوعي بالترابط النفسي والعقلي والحضاري، بين مكونات الشعب العربي، واقع صلب، لا يمكن تجاوزه أو العدول عنه. ومن ثم فالتعاطي معه أمر لا محيد عنه لأي تجربة إصلاحية جادة. و كل خروج أو اختزال أو تجاهل لهذا الواقع سيكلف جهدا ضائعا، يؤول في النهاية إلى العود على بدء. 6- أن النقاء الأيديولوجي، أو المذهبي الذين نحلم بهما أحلام يقظة، مستحيلان في أمة بهذا التمدد والتباين في التركيبة السكانية، والعقلية، والتشظي التاريخي. 7- ضرورة التخلي عن فكرة الصفاء المطلق، بما يترتب عليها من عصمة أيديولوجيا بعينها وتملكها للصواب كله، والخير كله، والرشد كله، مقابل أيديولوجيا ملعونة لأنها مخالفة، ولذلك لاتملك سوى الخظأ كله، والشر كله، والسفه كله. إن أطروحة “الفرقة الناجية” التي تحولت مبكرا (القرن الثالث الهجري) من توجيه للتمسك بالمنهج السليم دينيا إلى أيديولوجية إقصاء للرأي المخالف في أي مجال من مجالات الحياة، وآلية للتلاعن، وتسويغ الانقسام الأسموزي لمكونات الأمة.. ليست أرضية صالحة للانطلاق نحو ثراء التنوع وجوهر التكامل، وخصوبة العطاء والتبادل، التي هي أساس التجربة الحضارية لأمتنا. هذا زيادة على أن الفرقة الناجية، قد لا تكون من بين كل الفرق والنحل الحالية، لأن كل هذه الفرق تؤمن بفكرة النقاء التفتيتية. وتفريق الأمة إخلال بمبدأ شرعي اتفاقي هو: درء المفاسد وجلب المصالح. 8- الاقتناع بأن للإنسان قيمة ذاتية مكرمة خارج قناعاته وواقعه المعيش، وتصوره الشخصي للأمور، وأنه مسؤول دينيا وأخلاقيا عما يقوم به، والوصاية عليه تخرصا هي نوع من سلبه صفة الإنسانية، والرشد، والسيادة.. في غالب الحالات. 9- إعادة توزيع القيم المضافة ذات الراجع الوفاقي على الفرد والمجتمع، من إبداع و إتقان، وعلم، وتنظيم.. والعدول عن مسار التكالب على القيمة المادية وحدها (ثراء+ تحكم سياسي). ولا يكون هذا إلا بتوعية النخبة الفكرية للمجتمع العربي النشط، من أجل تغيير وجهته الحالية الطاغية، ولو بالتدريج. 10- أن السياسة بمعناها العصري شأن لكنها ليست كل الشأن، لأنها مشتق واحد من مشتقات التدبير و العمل الإصلاحي الاجتماعي والفكري والإنتاجي. فإن كانت هذه المقومات صالحة صلحت السياسة وإن فسدت فسدت السياسة. إننا نختزل السياسة في حكم الرقاب، رغم أن الحكم هو أحد مشتقات السياسة فقط. وما دام محور الصراع حاليا بين نخبنا منصبا على القيمة الثانوية (المال+ الحكم) وليس على القيم المحورية الأسية بما فيها القيم السياسية البانية نفسها: كالتداول، والتشاور، وقبول الرأي الآخر، والتطوير والتقويم، وإشاعة الرشد، وتحرير الإبداع الاجتماعي، وتصور الحلول، وبناء الإنسان الصالح للتكيف مع نفسه ومحيطه؛ فإننا نهتدي إلى قطب الصواب بذيل إبرة البوصلة الحضارية لا برأسها. 11- أن ترشيد الثروة العربية الفائضة (نظريا) حتى تفيض عمليا، عبر إعادة ربطها بالحيز الترابي العربي أمر ملح. ولا يتحقق ذلك إلا بتبديد أحلام الثراء الانعزالي، فهو وهم كبير، وطفح لا جدوى منه في النهاية. لذا فإن مبدأ “ما خرج من الأرض العربية يجب أن يستثمر فيها” مباشرة أو بصورة غير مباشرة، مبدأ مناسب للخروج من دائرة الضياع الدوري في وهج المال السرابي المهجر، الذي ينتهي به الأمر بعد رحلة في زوارق الموت عادة، داخل أحشاء ثقوب سوداء في مكان مجهول من مجرة المال العالمية، تحت أي عنوان: التجميد، الإفلاس، التأميم، والمصادرة.. 12- تحلي النخب الفكرية بالمسؤولية الحضارية. ويبدأ ذلك بالتخلي عن الدفاع المستميت عن قيم التخلف وعادات الكهوف المظلمة، مهما كانت استفادة البعض من إفرازات واقعنا ذاك، فالاستفادة من واقع التطور أزكى وأنمى وأكثر إشراقا. 13- التحلي بالشجاعة لمقارعة عقليات التخلف والانعزال، وأيديولوجيا العمى الجمعي، والتشظي، وكلما يستظل براية النقاء الأيديولوجي المطلق، وتملك كل الحقيقة وجميع الصواب. 14- وآخرا وليس أخيرا؛ إذا صحت العبارة: الاقتناع الفكري بأن ثنائية ما هو منزع إسلامي نقي، وما هو منزع عربي نقي، وما هو منزع علماني نقي، وما هو منزع سلفي نقي ليست سوى ظلال باهتة من ظلال نظرية النقاء النظري الزائفة من أساسها. وهنا لا بأس في توضيح معالم هذه الفكرة المحورية الأخيرة مساهمة في تصور أي نهوض ممكن لأمتنا، عبر خروجها من كهوف ظلامها وتظالمها المتبادل. لقد جربنا عمليا –وبغض النظر عن التفاصيل المتفرعة- وجهتين كبريين في أيديولوجيات الحداثة العربية وتقاليد التدبير السياسي. الوجهة الأولى: وجهة قومية عربية، دعت إليها بعض السياقات التاريخية في الشام والعراق ومصر، حيث كانت النخبة العربية حينها مؤلفة من روافد دينية مختلفة، لم يكن بالإمكان توحدها داخل بوتقة دينية واحدة، فاختارت العنوان القومي لأنه هو الذي يجمعها، وقد واءمتها الظروف لتطبيق اجتهادها في شروط النهضة العربية. ولقد جربت الحكم، وسادت في أغلب البلدان العربية، أغلب عمر دولة الاستقلال، أيا كان قالبها التنظيمي. الوجهة الثانية: وجهة إسلامية إحيائية، دعت إليها بعض السياقات التاريخية، التي جمعت بين علماء ومصلحين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، فتفرعت عنها مختلف التنظيمات الإسلامية، تحت راية الأمة الإسلامية. ولم تواتيها الظروف لتطبيق اجتهادها في أي من البلدان العربية. توطنت الفكرة في مصر أولا، مع محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، لتتجدد ثانيا في جماعة الإخوان المسلمين مع حسن البناء، وتتسرب بتحويرات مختلفة بعد الانشطار الداخلي في النخبة المصرية الثائرة على الملك عمر الفاروق، إلى بقية الدول العربي مع تهذيب ليبرالي واضح المعالم ذي وجهة اقتصادية إعلامية بالأساس. ولقد نشطت طموحات هذا المنزع الإسلامي ليعود إلى الموطن الأصلي للفكرة بعد صراع مرير مع الدولة القومية، التي تحورت كثيرا، وتمترس نظامها طويلا –كغيره- وراء عناوين: تحرير الأرض، والاشتراكية، والنهضة الحضارية العربية. وكانت التركيبة الاجتماعية سندا لما سمي على مدى خمسين سنة بالدولة الوطنية، إلى أن عادت حركة الإخوان أخيرا وحكمت مصر لفترة وجيزة، استعادت بعدها الدولة العميقة حكم مصر من جديد، وما تزال التفاعلات المترتبة على ذلك في حمأتها. لم تشذ عن هذا التوازي الأيديولوجي سوى بلدان محدودة. عموما، ودون الخوض في تفاصيل أكثر، فقد انطبعت التجربة السياسية في العالم العربي بطابع التناحر الأيديولوجي والتنظيمي بين نخبة عروبية ونخبة إسلاموية. ولا يزال هذا هو طابع الواقع الحالي دون منازع. فماهي نتائج هذا التناحر: على الأرض والعرض والإنسان والحضارة، وكرامة الأمة؟ أيا كان الصواب أو الخطأ، أيا كانت الإصابة والخطيئة، أيا كان المسؤول عن النتائج القائمة، فإنها في المحصلة نتائج مريعة، مفزعة، مخجلة، مما يجعل الآية القرآنية الكريمة تجري على لسان حالنا: “فهل لنا من شفعاء فيشعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل؟” وللأسف فإن الآية وردت على ألسنة رواد النار يوم القيامة. لكن ألسنا فعلا، والآن من رواد النار، وإن كانت نار الدنيا؟ نار الواقع العربي المتهالك، المتهاوي، الأعمى؟ واقع الكهوف المظلمة رغم اكتوائنا فيها بلفح نار لاتبقي ولا تذر أيا كان الكهف الذي نعمه فيه، من المحيط إلى الخليج؟
أطروحة للتفكير مستقبلا لن يذهب بي التشاؤم ولفح الواقع مذهبا يبعدني عن حكمة الفلاح الحكيم، لذا فإن لدي أطروحة أولية يمكن التفكير فيها أصالة عن أنفسنا، ولو في وقت إضافي، سعيا لفك التشابك الانتحاري بين طرفي المعادلة السائدة تحت طائلة النقاء الأيديولوجي، نظريا على الأقل، والتي تفيد: 1-أن لا حل سينقذ الأمة العربية من واقعها المتردي باتفاق الكل، حسب النزعة الإسلاموية إلا “بتبني أيديولوجيا إسلاموية بحتة” تقطع الصلة بأي تفكير قومي عربي (لا تنسوا أنني قلت أيديولوجيا إسلاموية، ولم أقل إسلامية). و داخل هذه النخبة، وانسجاما مع روح التشطي الأسموزي، فلا حل إلا مع التأويل الأيديولوجي الفلاني لا غيره. وداخل التأويل الأيديولوجي الفلاني، لا حل إلا مع الاجتهاد الأيديولوجي لفلان بعينه.. وهكذا يستمر التشطي حسب متتالية هندسية داخل التيار الإسلامي أو الإسلاموي إذا شاء القارئ. 2-أن لاحل سينقذ الأمة العربية من واقعها المتردي باتفاق الكل، حسب النزعة القومية، إلا “بتبني أيديولوجيا قوموية عربية بحتة” (لاتنسو أنني قلت: أيدلوجيا قوموية عروبية ولم أقل: قومية عربية). وداخل هذه النخبة القومية العربية، وانسجاما مع روح التشظي الأسموزي، فلا حل إلا مع التأويل الأيديولوجي الفلاني لا غيره. وداخل التأويل الأيديولوجي القومي الفلاني، فلا حل إلا مع الاجتهاد الأيديولوجي لفلان بعينه. وهكذا يستمر التشظي حسب متالية هندسية داخل التيار القومي أو القوموي إذا شاء القارئ. -هل لاحظت أيها القارئ الكريم هذا التطابق المذهل بين الخطابين وبين السلوكين، رغم اختلاف الحشوات الأيديولوجية لكل منهما؟ إن ذلك التطابق يدل على أن أي عيب في أحد الخطابين من حيث الأداء، والأثر، والمنهج، موجود في أخيه، لأنهما خاضعان لنفس البنية الذهنية. فلو نزعنا مصطلح إسلاموي من النسق الأول، وأثبتناه في النسق الثاني والعكس، لما وجدنا غير التطابق الكامل. فإذا نظرنا إلى الخطابين من حيث الأثر على الواقع العربي، فنحن لسنا بحاجة إلى حشد الكثير من الطاقات الذهنية للحكم عليهما بما يجب أن يحكم عليهما به. هل هي نتيجة تناحر الخطابين، أم نتيجة كل خطاب على حدة.. هذا لا يحدث فرقا يذكر.. إنني أرى –وهذا مجرد أطروحة واسعة الصدر لكل انتقاد- أن علينا أن نفكر تفكيرا يتصف بالنسقية، والتكامل، واستحضار التنوع، وإمكانية إبداع الحل الجدلي بمعناه الإيجابي، مهما كان واقعنا داهما، قاسيا. وعليه فإنني أقترح على النخبة في العالم العربي، أيا كان مذهبها، أن تفكر في حل جدلي قائم على تصور ثنائية قائمة، يجب تجاوزها إلى حلها. وحلها هو البحث عن أساس فكري مشترك، قائم على ثلاثة أبعاد:
– البعد الأول: بعد إسلامي منفتح على المكون البشري واللغوي والمعرفي للعالم العربي.
– البعد الثاني: بعد عروبي منفتح على الرؤية الإسلامية، باعتبارها أساسا ومكونا عقديا وتراثيا، وقانونيا عمليا للأغلبية الغالبة من سكان العالم العربي.
– البعد الثالث: بعد الإبداع في تأليف المكونين حتى يشكلا لحمة حضارية، تخرج من إكراهات الواقع، وتقاليد التناحر الثنائي. ومن نافلة القول أن نذكر بأن فترات الإبداع الحضاري لأمتنا كانت بالضبط، في الحلقات التاريخية التي تراجع فيها الخطاب التناحري الثنائي، وساد الخطاب التكاملي البناء.
هذه الأبعاد الثلاثة، مجتمعة في نسق جدلي، هي ما أراه مصبا مشروعا للاهتمام الاستراتيجي الحضاري النبيل والأصيل لأي تفكير جاد في تجاوز واقع العمى الجمعي، والتناحر الذاتي، والانقسام الأسموزي، بين مكونات حضارية نراها متنافرة لأننا متنافرون، بينما قد لا تكون كذلك إن أعدنا إليها النظر كرتين. إن أصالة الحل المبدع تكمن في ثلاث مقومات ذات تفريعات عديدة، حسب ما أرى:
1- الإحساس الصادق، غير المشوش بالواقع لاستقرائه استقراء متبصرا من خلال نتائجه، لا من خلال وسائطه البشرية والنظرية. 2- المسؤولية الكاملة، والشجاعة في إبداع الحلول التجاوزية، ومواءمة شقها النظري مع شقها العملي. ولا يكون ذلك إلا بأن نفكر أصالة عن أنفسنا، إذ لو كانت الحلول بالوكالة تفيد لأفادتنا آلاف الوصفات الخارجية البراقة.
3- استلهام الإجابات المتاحة، والمتناسبة مع المنطلقين السابقين، بشأن:
أ- سؤال التنظيم بشقيه:
-التصنيفي التطبيقي (بناء السلطات التشريعية، والقضائية، والإدارية، وفك وصاية السلطة الإدارية عن سابقيتها.. وإضافة سلطة رابعة إليها، تكون هي الوصية، ألا وهي السلطة الأدبية، أو سلطة الضمير الجمعي الذي يجب فكه عن الوسيط الأيديولوجي التجزيئي)؛ -التعبيري وهو المتعلق بالحق في التعبير تنظيميا أو كلاميا عن القناعات الفردية والجمعية للإنسان، حتى تتجاوز مشاركته متلازمة القهر ورد الفعل عليه.
ب- سؤال التحديث بشقيه:
-التطبيقي الاجتماعي: وهو المتعلق بتنسيق النظم الاجتماعية والاقتصادية والقانونية، عبر مشاريع إصلاح تسعى لربط الإنسان بمحيطه وتصالحه معه، وإعادة ثقته في نفسه، وإقناعه بأنه قادر على التأثير في المحيط البشري والطبيعي إيجابا.. بل وأخذ زمام المبادرة تجاهه.
-المعرفي: وهو المتعلق بنشر العلم الحديث، واحتضانه اجتماعيا، بإشاعة حلوله النظرية والتجريبية، واعتبارها أفقا لاستيعاب واقع الموجودات، وإعادة التعرف عليها، واستخدامها في حل المشاكل المستحكمة في مفاصل الواقع العربي. فالخطاب الذي يشيع “عجز العلم عن استيعاب حقيقة الكون”، هي أيديولوجيا تجهيلية، فقبل أن نسلم بهذه الكلية التي هي كلمة حق أريد بها باطل، علينا أن نتعرف على كلما عرفه العلم يقينا، ونستفيد منه كما استفاد منه الآخرون قبلنا. عند ذلك فقط نستطيع أن نخرج من دائرة الصوارف الواقعية إلى التشخيص، والتشخيص الصحيح هو بوابة الحل المبدع.
جـ- سؤال القيم بشقيه:
-التأهيلي: وهو المتعلق بإعادة تأهيل قيمنا العربية الإسلامية، وذلك بفصل مفاهيمها الكبرى، وصقلها من أدران العادة المشوبة بتراكمات التخلف، ومتلازماته، حتى يصبح المفهوم القيمي قابلا للتطبيق.
-الالتحام بين النظري والتطبيقي: ويتعلق الأمر بإعادة ربط الإنسان بما يدعي الإنسان أنه قيمه. فإلى حد الآن تبدو العلاقة سيئة بين الدعوى الخطابية بتبني القيمة الأخلاقية والعمل بها. هذه خلاصة تفكير ما، في واقعنا الحالي الذي لا تعدو عيناك مكونة منه إلى مكونة أخرى دون أن تتمنى أن تكون قد عشت في حقبة سابقة، أو ستعيش في حقبة لاحقة، حتى تتجنب الحرج الثقيل أمام جوارك الحضاري أيا كان.
إننا في واقع غير عادي، ولذا لا يمكن أن نخرج منه إلا بتفكير مبدع. فدعونا نفكر أولا بأنفسنا لأنفسنا، كي تنفتح لنا بوابة الإبداع لاحقا. دعونا نتخلى عن التورط في إدارة واقعنا المستحيل، لنخلو للتفكير المبدع في إدارة الممكن.