تأمل حول الدرس الإنتخابي التونسي
ضمن معركة وجود حقيقية خاضت الديمقراطية التونسية، معركة صعبة متعددة الدلالات أبقت الإسلاميين في الساحة، دون أن يسلموا من زحام العلمانيين عموما وأنصار النظام الاستبدادي خصوصا، مما أثار السؤال المشروع، هل تستمر التجربة الديمقراطية التونسية في التقدم أو الوجود على الأقل أم تتراجع نحو مهاوي الصراع العقيم؟!.
ويبقى الخطر الأكبر على الخيار الديمقراطي التعددي التونسي هم أنصار النظام القديم، فهل يفلحون في الرجوع بالبلاد إلى عهد الحزب الواحد في صورة إقتراع ديمقراطي، استغل فيه تاريخ العهد القديم وأدواته كلها، من المال والنفوذ المتنوع واستنهاض همم الرافضين لما يسمونه “الإسلام السياسي”؟!.
كلها أسئلة سيجيب عليها العامل الزمني، فمما لاشك فيه أن “النهضة” أثبتت حرصها على توازن اللعبة، ضمن مسلسل التنازل والحوار، ثم القبول السلمي لنتائج الانتخابات البرلمانية المنتهية للتو، والتي لم تخل من تجاوزات طبعا، قد لا تمنع في النهاية من قبول الإسلاميين النهضويين بالملخص الرسمي لحصيلة الاقتراع البرلماني، والذي قد يسعف بعد شهر باقتراع رئاسي قد يمثل نفس التوجه نحو أجواء الحكم الاستبدادي المنهار، والذي يبدو أن انهياره مؤقتا، قد لا يمنع من إعادة بنائه، ولو على شكل آخر، يكرس العداء للطابع الإسلامي المباشر، ويشجع باستمرار على المزيد من الإضعاف الانتخابي للإسلاميين، إن لم يستعمل معهم العنف عمليا، كليا أو جزئيا، ضمن مخطط عربي ودولي متناغم، إن لم تمثل تونس حالة الاستثناء، نتيجة وعي نخبها الإسلامية والعلمانية على السواء، وترجيحها السلم على العنف والتمزق، وإن لم تحبذ هذه النخبة في شقها العلماني النفوذ الإسلامي، المزعج لديهم، رغم قبول الإسلاميين النهضويين بالتعايش الكامل، بغض النظر عن طبيعة النتائج، ولو شابتها بعض التجاوزات الصريحة، حرصا واعيا على الإستقرار والديمقراطية وأمل التنمية والنهوض، الذي يرنو إليه الشعب التونسي، عسى أن يكون قدوة على الأقل في الوطن العربي، الذي يتخبط في الحكم العسكري والعشائري ومختلف صنوف الاستبداد والغبن الصريح الواسع المتزايد، للأسف البالغ.
إنه جدير بالعلمانيين العرب قراءة درس الربيع العربي والحريق العربي المتزايد من بعده، أن رفض معاينة رفض الإسلاميين المعتدلين، لا بديل له إلا ظهور تيارات إسلامية غاضبة من الظلم الغربي والصهيوني التاريخي والمستمر المتواصل حتى اليوم ورديفه من الاستبداد وسوء التسيير المحلي، أفلا يكون التعامل مع حكماء التيار الإسلامي خير من مواجهة قدر الصدام الدموي الممزق مع إخوة آخرين من أبناء السلفية الجهادية، لهم خصوصياتهم، التي قد يكون بعضها ناجم عن رفض كثيرين داخل الوطن العربي مجرد الاستماع للمشروع الإسلامي الشامل، مما قد يكون أضطر بعض أنصار ما تسمونه بالإسلام السياسي للجوء إلى العنف الصريح، هروبا من مضيعة الوقت وانتصار الخصم المحلي والدولي، الذي يصر على العنف ضد أهل السنة خصوصا، وتصفية قضاياهم ومجموعاتهم، في سياق من الظلم الغربي والعربي الممنهج، الذي تشترك فيه الدوائر الغربية المتصهينة مع أرباب وأنصار الأنظمة الاستبدادية الفاشلة.
إن ما نرى من تعايش في تونس خير مما تعيش بلدان عربية كثيرة من ظلم الإسلاميين، عبر الإنقلابات والتصفية الجسدية الجماعية والفردية.
ومن الأفضل للتونسيين جميعا والعرب جميعا والعالم أجمع دعم تجربة التعايش في تونس وفحصها وسبر غورها، للإقتباس والاستئناس، طلبا للاستفادة منها والعمل على دفعها إلى الأمام، وعدم تعويقها أو التآمر عليها، ظاهرا أو باطنا أو ما بينهما.
ولقد برز فعلا دور القائد الناصح من خلال اللعبة التونسية في أهمية تحقيق مقصد الاستقرار أو النجاح، ولو كان نسبيا.
فراشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وغيرهم من رموز النخبة التونسية استطاعوا تقديم الإسهام الكبير لإبعاد مخاطر توريد النموذج المصري في الانقلاب على صناديق الإقتراع وزرع الفتنة بين مكونات المسرح السياسي الواحد.
وهو ما نرجو بصدق التأمل فيه بعمق وجدية، لتحقيق انتقال سياسي سلمي بعيدا عن الإقصاء وحكم العسكر ونماذج الحكم الإستبداد كلها، مقدمة لتنمية وخروج الشعوب العربية والإسلامية من الفقر والغبن السياسي والاقتصادي على السواء، وتوجه السفينة -ولو تدريجيا- نحو شاطئ الأمان، ولا يشترط في ذلك طبعا، هيمنة فريق أو تقدمه أو تأخره، وإنما القبول بالنتائج الانتخابية- ولو مع نقص في شروط الشفافية المطلقة المستحيلة أحيانا- تمهيدا للتعايش والتماسك، من أجل هدف أكبر، هو الصالح العام باختصار.
ومن الأنسب لمبادئ الإسلاميين والوطنيين عموما أن يكونوا كلهم إلى جانب بعضهم متآزرين لتحقيق الإستقرار وكسب المعركة سلميا ضد الإستبداد، بغض النظر عن النسب الحزبية الضيقة، التي لا قيمة لها، بالمقارنة مع هزيمة جبهة الظلم وفتح أفق التعايش رغم الاختلاف.
فالإختلاف لا يفسد للود قضية، وسيعلم المغاربة قبل المشارقة، أن تونس بإذن الله ستكون سباقة، لينضاف إلى جانب تراثها وتاريخها العربي الإسلامي العريق، تاريخ معاصر متنوع الدروس والدلالات في ساحة التعايش والتفهم والتعقل والسير نحو الأفضل والأنجع، تونسيا وعربيا وإسلاميا وعالميا، إن شاء الله، وما ذلك على الله بعزيز.
حفظا لأوطاننا من دوامة الاستبداد والغبن والتآمر، لتأمين خروج آمن، من نفق طويل مل ظلامه الدامس وظلمه المرهق الجميع دون استثناء، فلم يعد لهم من خيار إيجابي مفيد، إلا التعايش والتفاهم والبناء لمصلحة الجميع، داخليا وخارجيا.
قال الله تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”.
عبدالفتاح ولد اعبيدن المدير الناشر ورئيس تحرير صحيفة “الأقصى”