قضية الصحراء ومفهوم الحكم الذاتي وجهة نظر مغربية
ذ.محمد بوبوش*
تعد مشكلة الصحراء الغربية واحدة من أكثر مشكلات تقرير المصير في عالمنا المعاصر تعقيداً واستعصاءً على محاولات الحل، قياساً إلى الجهد الدولي الذي بذل في سبيل إنهائها ولم يفض إلى تسوية حقيقية في هذا الصدد، نتيجة لطبيعة التعقيدات المرتبطة بنزاع الصحراء ذاته، التعقيدات التي أطاحت بمشاريع الحل التي طرحت تباعاً خلال 35 عاماً الماضية لإنهائه.
وفي كتاب “قضية الصحراء ومفهوم الحكم الذاتي”، يستعرض مؤلفه محمد بوبوش الجذور التاريخية لهذا النزاع (من وجهة نظر مغربية)، ويحلل مفهوم الحكم الذاتي وأصوله في القانون الدستوري، ثم يبرز “أهميته كحل سياسي توافقي ونهائي” لنزاع الصحراء، وأخيراً يستعرض مواقف الأطراف المختلفة إزاء خيار الحكم الذاتي.
ففي مؤتمر برلين (1884-1885) أقرت الدول الأوروبية بسيادة إسبانيا على منطقة الصحراء الغربية التي ستعلنها مدريد فيما بعد محافظة إسبانية لتقيم بها سلطة محلية، ولتقسمها لاحقاً إلى ثلاثة أقسام إدارية بعد أن سيطرت على مساحتها كاملة لتشمل الساقية الحمراء ووادي الذهب عام 1934. وبعد استقلاله عام 1956، قام المغرب بتحركات واسعة للإعراب عن “قلقه من الخطوات الانفرادية التي تتخذها إسبانيا في الصحراء، وعزمه معارضة كل عمل من شأنه تهديد وحدته الترابية”. وكانت الحلقة الأساسية في ذلك التحرك، وبالتنسيق مع موريتانيا، عرض الملف على محكمة العدل الدولية بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974. ومع التطورات الدبلوماسية والميدانية على الأرض، اضطرت إسبانيا لتوقيع اتفاقية مدريد الثلاثية مع المغرب وموريتانيا عام 1975، حول خروج إسبانيا من الصحراء وتقسيمها بين الدولتين (الساقية الحمراء للمغرب ووادي الذهب لموريتانيا). لكن المغرب أعلن خلال القمة الأفريقية بكينيا عام 1981 قبوله تنظيم “استفتاء تأكيدي” في الصحراء، مما مهد لخطة أفريقية تقضي بوقف إطلاق النار، وإنشاء إدارة مؤقتة تشرف على تنظيم استفتاء لتقرير المصير. لكن اثر فشل الخطة الأفريقية في حل نزاع الصحراء، عينت الأمم المتحدة مبعوثاً خاصاً قام في عام 1991 بوضع خطة تفصيلية لتنظيم الاستفتاء. بيد أن المخطط الأممي للتسوية لم يتقدم هو أيضاً، بسبب الخلاف حول تحديد هوية من يحق لهم المشاركة في الاستفتاء، وما إذا كان سيقتصر على السكان الأصليين للمنطقة المسجلين في الإحصاء الإسباني لسنة 1974، أم سيتضمن أيضاً 165 ألف نسمة ينحدرون من الصحراء. ورغم ذلك، واصلت الأمم المتحدة جهودها وعينت في مارس 1997 جيمس بيكر مبعوثاً خاصاً مكلفاً بقضية الصحراء، فأشرف على سلسلة من المحادثات بين أطراف النزاع، تمخص عنها اتفاق هيوستن بين الحكومة المغربية وجبهة البوليساريو حول معايير تحديد هوية الناخبين الذين يحق لهم التصويت في استفتاء تقرير المصير. لكن أمام الصعوبات العميقة التي لاحظها المبعوث الأممي، أعلن دعوة الطرفين المتنازعين إلى حل تفاوضي يستبعد خطة الاستفتاء، ما دفع بالأمم المتحدة إلى تقديم “الحل الثالث” كي ينضاف إلى خياري الاستقلال والانضمام للمغرب. وعلى ضوء ذلك قدم بيكر في عام 2003 مقترحاً جديداً “يقضي بأن تظل الصحراء الغربية جزءاً من المغرب، وأن تتمتع بحكم شبه ذاتي لفترة انتقالية بين 4 و5 أعوام، ثم يخير سكان الإقليم، في استفتاء بعد ذلك، بين الاستقلال واستمرار الحكم شبه الذاتي أو الاندماج مع المغرب”، وهو المقترح الذي أيدته الرباط مستبعدة الفترة الانتقالية وخيار الانفصال.
تلك هي، وباختصار شديد، أهم حلقات المسار التاريخي لنزاع الصحراء الغربية، كما يعرضها الكتاب، والتي وصلت محطة المقترح المغربي حول الحكم الذاتي، فما هي الملامح العامة لذلك المقترح؟ وكيف بدت مواقف الأطراف منه؟ وفقاً للمؤلف فإن المقترح المغربي هو حل سياسي توافقي “يتجاوز مفهوم الغالب والمغلوب”، أما صيغته العامة فتتلخص في “بقاء الصحراء تحت السيادة المغربية لكن في نطاق نوع من الاستقلال الذاتي، قائم على الوحدة الوطنية والمشروعية الدولية واحترام خصوصيات المنطقة”. وفي هذا الإطار يقدم المؤلف تفاصيل قانونية وسياسية واسعة، مقارناً البناء القانوني للحكم الذاتي، كما جاءت به الخطة الأممية، وكما تضمنته المبادرة المغربية بشأن التفاوض من أجل منح حكم ذاتي للصحراء. وهنا يتطرق المؤلف إلى مؤسسات الحكم الذاتي، بما فيها الهيئات التشريعية والهيئات التنفيذية والهيئات القضائية، والاختصاصات التي تتمتع بها هذه الهيئات مجتمعة ومنفردة، وسلطات الدولة داخل مجال السيادة، لاسيما الأمن الوطني والدفاع الخارجي والوحدة الترابية والعلاقات الخارجية، وباقي مقومات السيادة مثل العلم والعملة والنشيد الوطني، وبعض الاختصاصات الدستورية والدينية للملك.
وفي محور آخر من محاور الكتاب، نطالع عرضاً مفصلاً حول مواقف الأطراف المختلفة، خاصة المغرب والبوليساريو والجزائر، من الحكم الذاتي. وبالنسبة للمغرب الذي طالما دعا إلى “حل سياسي وسط”، يرى أن من شأن الحكم الذاتي أن ينهي مسألة تقرير المصير، وأن يعزز الاستقرار الإقليمي لدول المنطقة. أما جبهة البوليساريو فقد رفضت جملة وتفصيلاً مبادرة الحكم الذاتي معتبرة إياها “مناورة ومحاولة للالتفاف على الحقوق الوطنية للشعب الصحراوي”. كما رأت الجزائر، وهي الداعم الرئيسي للبوليساريو، أن مقترح الحكم الذاتي “يخدم مشروع الإدماج مع المغرب، ولا ينسجم مع عمل الأمم المتحدة في تصفية الاستعمار وتقرير المصير”.
وهذا فإنه فيما ترى كل من البوليساريو والجزائر أنه لا تقرير للمصير إلا بالاستفتاء، أي الهدف الذي بينت الممارسات الأممية السابقة استحالة إنجازه… يتضح أن تباعد المواقف إزاء التحديات التي يطرحها نزاع الصحراء، يستدعي تجاوز المقاربات المتنافرة، وذلك بمزيد من النقاش والمشاركة الواسعة لكافة الأطراف الفاعلة، سعياً إلى إنهاء نزاع طال أمده.
* باحث في العلاقات الدولية والقانون الدولي-جامعة محمد الخامس-الرباط
نشر في صحف مغربية