أزمة المصطلح و صدمة الاختلاف / الولي ولد سيدي هيبه

نظم المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الإنسانية  المعروف اختصارا بـ (مبدأ) مساء يوم الأحد المنصرم ندوة قيمة استقطبت كوكبة من المحاضرين و المعقبين الجامعين و عصارة من السياسيين في المعارضة و في الموالاة و من المجتمع المدني في طيفيه الحقوقي و النقابي  وجوه بارزة من الوسط الإعلامي و جمهور نوعي من طلبة الجامعة و عدد من الأطر الوطنية، أثروا بمداخلاتهم المتنوعة كل محاور الندوة التي حملت عنوان “موريتانيا بين واقع التنوع الثقافي و مطلب المواطنة” الذي يبرز جوانب الإشكال في الشكل و المقصد.

و لما أن عنوان الندوة كان بهذه الصيغة فقد وقع من نفوس المحاضرين و المعقبين و المتدخلين موقع الماء من الظمأ، فإنه منح قاعة المحاضرات في فندق “موريسانتر” أن تغص بهم و أن تهيئها نفوسا متلهفة إلى محتوى صريح يكسر تقليد التمترس الاعتيادي وراء القناعات الجامدة، و يفتح الآفاق على تناول صريح و جريء لكنه هادئ و مسؤول لموضوع شائك و لكنه ضروري من أجل العبور إلى منطق بناء الصلح و السلم الاجتماعيين المتخلخلين في بلد ليس ما يجمع مواطنيه على اختلاف أعراقهم و إجحاف الطبقية فيهم بأقل شأنا و أبلغ وزنا، و من بعيد، مما يفككهم و يعرضهم للتنافر و الصدام. على المستوى الأكاديمي لم يكن أي من المحاضرين و الذي عقب عليهم دون المستوى العلمي الذي تطلبه محوره الذي أوكل إليه، إحاطة من حيث التأطير و السياق و المنهجية و التقديم، و لكنهم وقعوا في شراك الأكاديمية و صرامتها في بعدهم عن الشكليات و انصرافهم عن اللغة الشعبوية حيث أن المستهدفين بالنهاية هم أولو المكانة و الحظوة في فهم و استيعاب شعبوية الخطاب هذه و قدرتها على التوصيل و ملامستها في الصميم خطوط كينونتهم من داخل واقعهم المادي و في عمق وجدانهم. و هو أيضا الشراك الذي أحاط بشباك العلمية نفسها و حساباتها في كل المحاور حتى أبعدها عن بسيط الاستنتاجات التي تحمل مضامين و جزئيات حلحلة الإشكالات التي تتضمنها كل محاور الموضوع، و تسبب في تغييب مستويات عقول أهلها و إقصاء إمكانية أن يدلوا بدلائهم في حيز التبادل فيما افترض أنه مطلب المواطنة على ضوء واقعية التنوع الثقافي في حقيقة أمر البلد ضمن الحيز المشترك لجميع أهله. و لما كان العرض الأول الذي ألقاه الدكتور ددود ولد عبد الله ” موريتانيا بين واقع التنوع الثقافي و مطلب المواطنة” قد أماط اللثام بإضافات غير ممجوجة عن واقع الإثراء الثقافي المتبادل و المتناغم بين المكونات الزنجية و المكون العربي، و أطر لمفهوم المواطنة محاولا أن يربط بينه و بين واقع التنوع بأن أبان، في مستهل العرض و بعدما فكك بعلمية و رصانة عنوان العرض، عن عدم ذهابه إلى أو تناص أو تماهي أو مقابلة واقع الثقافة مع مطلب المواطنة لعدم حتمية أو فرضية أو حتمية ذلك. و قد أسهب الدكتور في التعليل و التبرير بمنطقية تستقي قوتها من المنهج الأكاديمي الرصين. و أما المحاضر الدكتور البكاي ولد عبد المالك فقد تبع هو كذلك في عرضه  القيم عن “المواطنة و الثقافات الوطنية و آليات الاندماج و محددات الهوية الواثقة” مجرى نهر الأكاديمية الموغلة في الطرح المصطلحي بأبعاده العالمة و نزعاته الفلسفية. و لم يبد كبير قلق لما قال إنه السير حثيثا إلى ضبط الأمور باتجاه تحقيق مطلب المواطنة و تحديد محددات الهوية الواثقة و تفعيلها رغم العثرات التي ما زالت ماثلة و لكنها المطاردة من مواد الدستور. استطاع الدكتور عبد الله مامادو با، الذي حَمًلَ هو نفسه، بإتقان و حنكة سياسية بارزة، محور عرضه “المقاربة السياسية لمسألة التعددية الثقافية بموريتانيا” قراءتين لكل منهما أبعادها و أهدافها، أن يفصح عن بعض هذه الإشكالات التعددية الثقافية التي عاب غيابَها الملحوظ في عموم المحاور الأخرى، كأن ذكر في معرض الكلام بأن الحضور و بنسبة قال بالحرف الواحد إنها فاقت 99.9 بالمائة كان من العنصر العربي. و لكنه قال بعد ذلك مستدركا و منبها إنه في أماكن أخرى قد تكون النسبة هي ذاتها من الزنوج دون العرب علما بأن الموضوع المطروق قد يكون بالإختيارهو نفسه من حيث قوة العنوان و نبل القصد الذي يبحث عن استغلال التنوع الثقافي بوصفه مغنما و ثراء لتوطيد اللحمة و تعزيز الوحدة و تحقيق مطلب المواطنة؛ و لكن الأمر بهذا الانفصام و البعد إنما هو ذر للرماد في العيون أو هو حتى الشجرة التي تحجب الغابة عن الأنظار. و أما المحاضر الدكتور سيد ألمين بن ناصر في عرضه “الالتزامات التعاقدية بين المواطن و الدولة من منظور إسلامي” فإنه قد سحب المعطى الديني على كل أوجه معادلة الواقع الثقافي موحدا في اختلافات أصبحت معه جانبية و مطلب المواطنة ليخلص إلى أن أهل الثقافات، المستمدة عطاءها و إشعاعها و تميزها من نفس المشكاة، مطالبون من منطلق المواطنة التي أضفى عليها الإسلام منذ أيام الرسالة لأولى صبغة وحدة العقيدة و الشرعة بعيدا عن اعتبارات اللون و العرق و الموضع الجغرافي، بالتقيد بالالتزامات التعاقدية بين المواطن و دولته في مفهومها الجديد و ضمن حيزها الترابي الذي يتعايش فوقه الجميع. و توقف المعقب الدكتور الحسن ولد أعمر بلول مليا عند العنوان الذي رأى فيه و في بعض توافق مع الدكتور ددود  ضعفا في الصياغة من حيث أنه وضع الواقع الثقافي في مقابلة غير موجبة مع مطلب المواطنة و قدم حول ذلك و من وحي الأكديمية جملة من الشروح و المقاربات حول المصطلحات و قيمها و كيفية استخدامها في سياقاتها المناسبة حتى تضمن للموضوعات انسيابتها التي تحقق الغاية دون تناقض أو تكلف أو تعارض مع المضمون. و أما المتدخلون فعلى الرغم من إجماعهم على قيمة الندوة رصانة العروض و تكامل محاورها فإنهم قد انقسموا حول الندوة بكل دون أية تزكية معلنة لمحتوياتها الفكرية و مستوى إسهامها في تشخيص الواقع بما أملت المعالجات. كما وقف أغلب المتدخلين عند المصطلحات التي عمرت العروض و اختلفت في الصياغات و الأبعاد من محاضر إلى آخر بحسب خلفيته الأكاديمية و زاويته التحليلية و مشربه الفكري أو السياسي. و لما كان البعض قد توقف عند المصطلحات فإن قسما آخر توقف عند ما أسماه ضعف التوازن في الحضور حيث ركزوا على غياب متحدثين و معلقين و مشاركين في الندوة التي اتهموها في ذلك بأنها كانت أحادية الجانب في الطرح و التحليل و الاستنتاج في حضور غالب لمكونة واحدة و به غياب تام الأخريات المعنية بنفس الدرجة. كما لم يفت السياسيون الذين سجلوا بشجاعة مداخلات معقبة على الندوة، أن يذكروا بأهمية الموضوع و جوهريته. و لكنها المداخلات أيضا التي تترك فرصتها للقفز على المصطلحات و من لتقرأها من منظور رؤاها السياسية و في سياقات اختلفت أشكالها و أخذت مدارات لامست خطاباتها، ممعنة بذلك في تكييف الموضوع مع الرؤية الحزبية دون غيرها. و ذهب قسم رابع إلى أن الطرح الأكاديمي على أهميته البالغة في التشخيص و المعالجة و إبراز الفلسفات و تصور الحلول لا يجدي نفعا إذا لم يوازيه الطرح الشعبوي و المنطق القاعدي لتكون النتائج على قدر المطلوب في نفس المقام و على ذات المنابر. و هي المعادلة بهذا التصور التي إن عرفت دالاتها فإنه بكل المنطقية التي تفرضها المعالجة العلمية سيعرف المجهول فيها و تتم الحلول بالمنطق الرياضي إذ ذاك و هو المنطق الذي لا يقبل الخطأ و لا يكون في غياب أي من مجموع عناصر المعادلة. أما و أن الصدام و الاختلاف حول المصطلحات و الدلالات و جدوائية المعالجات العالمة قد حصلت في غياب تلك الشعبوية الجامعة عند القاعدة التي تمتزج فيها كل دواعي المعالجات و تشكل أرضية التطبيقات المخبرية، فإن الحضور الذي بقي حتى أزف وقت الندوة ظل متعطشا إلى سقاية سَلم بأنها لم تُكمل مسيرها إلى المقاصد التي جاء لأجلها في زحام التنافر و التقاطع و اختلاف و تنوع المدارس التنظيرية لنداءات التشرذم. و مع ذلك فقد طالبت أصوات بالنظر إلى الموضوع من زاوية المعايشة و المساكنة في سياق المواطنة عسى أن تتصالح حولها المصطلحات و تتقلص الخلافات باتجاه القواسم المشتركة التي تصلح أن تكون لبنات الصرح و أسمنته المتين.    

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى