المشي على سلة البيض / الولي ولد سيدي هيبه
صحيح أن ثمة أصواتا في هذا البلد تريد أن تصدح بنغمة الزمن الحديث و لكن أوتارها نشاز تحمل فقط كل شجون الماضي، لا تمتلك برمجيات المطابقة مع تيار الحداثة و لا تريد في الصميم أن تبارح اغتراب ذاتها-السجن فابتكرت سباحتها ضد التيار بمنطق المراوغة و تحريك الظل في البؤر المضاءة.
و هي الأصوات التي تحمل كل سمات العصر و تسمياته من أحزاب و نقابات و منظمات مدنية غير حكومية و حقوقية و نوادي فكرية و علمية من جهة و تحاول مجاراة الحراك الديناميكي المنتج حولها من جهة أخرى. و لكن بينما يحرص العالم على حماية ثوابت هذا الحراك بالتجرد و الإرادة المؤمنة و باستنطاق مفرزاته تقوية لرؤية المستقبل من خلال الحاضر المُأَمن، فإن أصحاب هذا التيار يضعون كل بيضهم في سلة واحدة ثم يمشون فوقه اتقاء أشواك المسار المرتجلة كل خطاه إلى المجهول و لا يحسون بأنهم يكسرون بيضهم و قد مُنع من قبل الحرارة ليفقس. إن نظرة متفحصة لواقع السياسة و السياسيين من جهة و الثقافة و المثقفين و أصحاب القرار من جهة أخرى لا بد أن يقرأ في سلوكهم و تفكيرهم و عملهم ما يقوده إلى استنتاج أنهم جميعهم و كل من موقعه لم يُقَدِروا – من غفلة – في كل لحظة جادة مرت على البلاد و أهلها منذ الإعلان عن الاستقلال عام 1960 ، مُجملَ القضايا التي تخص الدولة في بنيتها الهيكلية و الأمة في تركيبتها المجتمعية و كذلك في أبعادها الثقافية و السياسية و تفاعلها مع محيطيها العربي و الإفريقي اللذين يتقاسمانها و يتصلان من خلالها ببعضهما البعض في كل الأبعاد و السياقات.. و هو سوء التقدير الذي أملته و أطرت له عدة عوامل من بينها: · ضعف الوعي بالدولة المركزية التي حلت محل “حالة الفلتان الأمني” المزمن الذي لم تستطع الإمارات التقليدية المتناحرة و الفاقدة على ما تمتع به بعض أمرائها من قوة و هيبة و حسن نية في تدبير أمور الحكم و استعانة بمشاهير رجال الدين من علماء أفذاذ و قضاة نبهاء و أهل فطنة نادرة، · و ضعف سطوة القانون رغم كثرة العلماء و إلمامهم بالشريعة و إدراك بقدراتها على ضبط العدل و نشره لو وجد إلى ذلك سبيلا، · و ضعف استثمار ما جاد به الاستعمار بعد دخوله من عوامل النظام و الاستقرار دون أن يكون أقل ذلك قيمة: * الحد من الفوضى العارمة التي كانت قائمة حتى دعيت بالسيبه التي عبرت بقوة عن كل معنى الاضطراب الحاصل؛ * و ما ساعد فيه من السيطرة عليها و ضبطها بالسلاح و المسطرة القانونية؛ * و ما تلا ذلك من وضع الأسس اللازمة لقيام الدولة المركزية متمثلا أولا في تمييزها عند قيامها بخصوصية أهلها، ثم رسم حدودها مع جاراتها التي طمع البعض منها في ضمها و اقتطع البعض الآخر من أراضها و مارس عليها ثالث إلى حين و من تلقاء نفسه وصاية أبوية ابتدعها. و إن هذه الوضعية، الموروثة عن طرفي معادلة “اللا مرجعية” و “اللا استثمار” لقيام الدولة المركزية، الشديدة الوقع على أي وعي يتشكل، قد أسست لانفصام كل مقومات أهلها النفسية التي كانت قائمة بالأساس لكنها مطمورة تحت ركام النفسية الجمعوية المذبذبة. كما أنها المعادلة التي سحبت منذ أمد البساط من تحت أي توجه عملي يرمي إلى بناء الدولة المؤهلة لتصحح المسار و تغربل محطاته من كل العوائق و تنقيته من الأشواك و الوضع بدلا عنها لبنة فوق أخرى لتشييد الصرح القوي على الأساس المتين. و ما مستوى التعثر البادي في مسار التغيير المطلوب بإلحاح رغم وجود كل هذه الطاقات البشرية المتعلمة و الفنية و السياسية و رغم الذي تظهره ساحة الحراك العام من ديناميكية وهمية و من اهتمام نظري بالدولة في دائرة السيادة، إلا من باب وُجود تُعينُ و تَحرصُ عليه الأطماعُ في الثروات الطائلة للبلد و المنافذ المائية المميزة. و ليس الدليل على هذه الحقيقة المرة ببعيد عن افتقار البلاد إلى كل أنواع التطور و هو ماثل بكل جلاء في ضعف أو على الأصح غياب كل علامات التحول التدريجي إلى آفاق الانصهار مع الحراك الأممي في تطوره و رقيه المادي و الإنساني. في الوقت الذي تعاني فيه البلاد و سكانها من القمامة و الأمراض و البطالة على خلفية الأمية و غياب المهارات و ضعف إرادة روح المبادرة و غياب الإنتاج الميداني، تتصارع الأحزاب على الزعامات بشراسة و تقف عند هذا الحد تحسب حظوظها في سجل يغيب عنه الشعب و يتلاشى أمامه الوطن، و تتباهى النخبة المتعلمة بمقدراتها العلمية في حلقات نظرية لا تسع الجميع و لا يخرج منها للمواطن إلا المفردات التي لن يتأتى له فهمها أو الاستفادة منها إلا أن يصرف عليها عمر من قدموها إليه، و يزداد تيه المواطن في ردهات المتاهة هذه ذات الثلاث شعب في رحلته الغيلانية أو السيزيفية مع أغنية الوطن الغير مكتمل. كما أنه في ظل هذا الواقع الغير سوي والذي لا يبدو أن أحدا يكترث له بدافع كبرياء الترفع و الإدعائية، تختلط كل قضايا الوطن الملحة: – كلحمة أبناء مكوناته و تسوية قضايا الرق و مخلفاته، – و الضرب على أيدي المفسدين و ركاب موجات المفاهيم و الاعتبارات الإقطاعية و الرجعية و روافدها من إقصائية و تهميشية بتواطئ و تمالئ كل جهاتها في دائرة عمل توافقي يهدف إلى الإبقاء عليها نهجا تسلطيا ثابتا، – و انتشال خيراته من براثين المؤسسات العملاقة المفترسة و دول أهلها و المرتشين في البلد الذين يسهلون ستوطها مقابل فتات زهيد يتسلمونها صاغرين من تحت طاولة الغش و بيع الوطن و غدر مستقبله بعيدا عن حضور طافح لأبناء صالحين يمتلكون الخبرة و المهارة و القدرة التسييرية و يتحلون بروح حب الوطن و الغيرة على مصالحه. و لكن عوضا عن التفكير السليم و السعي إلى وضع منهجية لمعالجة هذه القضايا الكبرى تشترك فيها كل الأطر الحاضنة لمعنى الوطن، بروح يكون أولُ من يحس حرارتها و نبل سعيها و مقصدها هو المواطن البسيط عند قاعدة الهرم، فإن الذي يبدو قائما في وجه أي تغير يراد هو أن الجميع قد وضعوا البيض في سلة واحدة و مشوا عليها بلا اكتراث و لا ندم و إنما اتقاء فقط لتعثر مسار الرداءة.