هيبة الدولة رهن ازدواجية الواقع / الولي ولد سيدي هيبه
من المعلوم بداهة أن هيبة الدولة لا تحصل على حين غرة أو بالعصا السحرية بل و إنها على العكس من ذلك تراكمية، تبدأ من احترام قانون المرور و تنظيم الطرق، إلى أن تصل أعلى درجات القانون الذي هو الدستور وعدم الاعتداء على بنوده، مهما كانت المسببات علما بأن الاعتداء عليه هو تجاوز لكل الخطوط الحمراء، في الدول التي تحترم نفسها و تعتبر قدرها و أهمية دورها.
و إن نظرة متمعنة إلى واقعنا لا بد ستعطي الانطباع بأن القانون في مجمله و في روحه يعاني غياب التطبيق، بدءاً من مسطرته المعنية بتنظيم المرور و ضبط الطرق و حماية مردوديتها العالية لأن الاعتداء على حرمة الطريق من قبل التجار و أصحاب الخدمات القاعدية و السائلين دون رادع أو منظم هو على غير ما لا يرى البعض مؤشر بالغ على المساس بهيبة الدولة، وعدم قيام شرطي المرور أو شرطي المراقبة الأمنية بدوره كما يجب، مؤشر آخر على خدش الهيبة، وغض الطرف عن الذين ينهشون أراضي الدولة من ساحات عمومية و أخرى اقتطعت لجهات و مصالح و مرافق عمومية خدمية و اجتماعية و رياضية، ضعْف، وعدم ملاحقة المفسدين و الفاسدين، وهن، والسكوت عن الأوضاع و الحالات الشاذة و المخلة بالنظام كأزمة المرور الخانقة، التي تشل العاصمة نواكشوط مؤشر على اهتزاز هيبة الدولة، وأوضاع المدارس المادية و التربوية السيئة، في كل أرجاء البلاد، مؤشر على غياب هيبة الدولة، و وضْع الشرطي، في مواجهة المجتمع، بعد كل حادث يقع، أثناء فك مظاهرة أو مطاردة أو دهم، مؤشر على وضْع هيبة الدولة المهزوز. و إنه مما لا شك فيه أيضا أن غياب أو ميوعة الاستقرار التشريعي، هو نوع متقدم من ضياع هيبة الدولة، وكثرة التغييرات الحكومية ضياع لها، و كثرة التصورات للبرامج التي تُطرح، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، دون تنفيذها، مؤشر بارز و قوي على تراجع هذه الهيبة و عدم قدرة التعليم العالي و الفني على الاستجابة للحاجات الضرورية للخروج من عنق الزجاجة و حلقات التخلف المزمن، والسكوت على ذلك، هو أيضاً، مؤشر على ضعف هيبة الدولة، ومعالجة العنف المجتمعي «بالمهدئات» فشل للدولة وضياع لهيبتها. و إن وضعية البلاد الجامدة على هذا النحو منذ عقود بعمر استغلالها تجعل من الصعب على الموريتانيين الشعور بهيبة دولتهم، لأنهم باتوا يعتقدون، أن الذي يشتِم، والذي يجاهر بالاعتداء على هيبتها، باللسان والقلم أو بالتصرف الأرعن، له الصدارة و يحرز المكتسبات و يفرض الاحترام والاسترضاء في الوقت الذي يتراجع فيه و إلى الصفوف الخلفية الصادقُ المتلهف على حصول التغيير و بلوغ مراقي الإصلاح، الأمر الذي يشعر معه الموريتانيون بالمرارة، عندما يتحدثون عن ضيقهم و قد تغلغل في إدراكهم شعور بأن الدولة الضعيفة هي التي تقوم بعمليات الاسترضاء لتسيّر أمورها بعشوائية دون القدرة على تصور سياسة ناجعة و ثابتة أو عمل بمبادئ راسخة، في التعاطي مع الرعيِّة، وتسيير شؤونها. و يتنزل حراك “إيرا” الأخير و ما تلاه من ردة فعل الحكومة و السجالات الفكرية البالغة التناقض في القراءات و المعالجات و الاستخلاصات في صميم هذه الوضعية التي تتقاسم المسؤولية فيها جهات الكيان الثلاثة: الدولة و الطيف السياسي و الشعب. أما الدولة فقد هيأت عن قصد كما يتهمها البعض أو عن غير قصد كما يصر البعض الآخر، الأسباب الموضوعية لتصاعد وتيرة المطالب التعجيزية لحركة “إيرا” الغير مرخصة رغم استقامة و شرعية أسباب نضالها و قيام حراكها. فإن سياسات الدولة حول مسألة الرق و مخلفات ممارسته ما زالت دون المطلوب و إن النهج المتبع بشقه الاجتماعي و العقائدي ناقص وضوح المعالم من ناحية و ضعيف الوقع و التأثير على واقع الحال في المعالجة و البحث عن الإنصاف و المساواة من جهة أخرى؛ حقائق لا تجوز استمرارية المكابرة بشأنها لما تسببه من احتقان داخلي متنامي قد ينفجر في أية لحظة. و هي بهذا إنما تشكل مطايا لفرسان المتاعب و المنادين بتحدي كيان الدولة المشترك و في هيبتها التي لا سبيل إلى قوتها و منعتها بدونها. و لا شك إطلاقا أن الأحزاب السياسية هي جوهر الديمقراطية و صمام أمانها. حقيقة تجعل النظام السياسي في أية دولة، هو انعكاس لتوجهات التشكيلات السياسية الفعالة في الصراع الاجتماعي فيها؛ فإن كانت كيانات حزبية غير مؤسسية تحتكم إلى منطق الخلاف و للعنف والاستبداد فيما بينها فإن توجهاتها تنعكس على شكل النظام السياسي. وإن كانت أحزاباً سياسية مؤسسية تحتكم للحوار وصناديق الاقتراع في صراعها الاجتماعي فإنها تعكس حتما الوجه الحضاري، للنظام الديمقراطي الذي يحتكم للتصويت الشعبي لأية غاية كالوصول إلى السلطة السياسية. من هنا فإن تصرفات بعض الأحزاب و ردود أفعالها لا ترقى غالبا إلى هذا المنطق الرفيع في معالجة أوجه بعض الإشكالات التي تصب، إن هي لم تُؤطر بما يكفي و بما يجب، في خانة الدفع إلى الأبواب الموصدة و منطق المواجهات النهائية. و هي الأحزاب التي يبدو أصحابها خلال هذه المواقف المتسرعة أو المتعمدة و كأنهم يسكبون الزيت على النار و لا يبالون بالعواقب التي يمكن أن تكون وخيمة. و لأن الشعب الموريتاني ما زال بعيدا عن استيعاب مفهوم “الدولة للجميع”، فإن موقفه وتعامله مع القضايا الكبرى ما زال في معظم أحواله منحسرا في الزاوية الضيقة للنداءات المنبثقة عن قنوات اختلط عليه فيها الحقوقي الصادق المنادي بحزم و إنصاف لإعادة الاعتبار لكل فئات و شرائح المجتمع التي وقع عليها ظلم بالماضي و التي ما زالت تعاني مخلفاته من ناحية و بين الداعين من داخل التنظيمات الحزبية من خلال الخطاب الملتهب الحاد و النزعة الميالة في الحراك إلى الطرق المتسمة بالعنف و عدم الاكتراث بزعزعة الاستقرار، من ناحية أخرى. و هي الوضعية التي خلقت لديه بالنتيجة “شيزوفرينا” أثرت بعمق في توازنه النفسي و خلطت في ذهنه أوراق الوطن الممزق بين العجز عن الخروج من حيز التخلف و بين استحالة إتباع السلوك المدني الذي يضمن استقرار البلد و يؤسس للعدالة الاجتماعية و يوفر مظلة الديمقراطية لدوام الدولة. إن هيبة الدولة هو الشرط الأول و الأخير لبقاء كيانها القوي المتماسك و العادل، و لكنها الهيبة التي لا يمكن أن تقوم و ترسخ إلا في ظل فاعلية القانون المطلقة باحترام جزئياته تدرجا إلى سقفه حتى تكون من ثم قادرة على توفير العدالة بوثوق وجرأة و فعالية، بعيدا عن منطق ازدواجية المعايير و تكريس مفاهيم ولى زمانها و ثبت تناقضها مع روح العدل و المساواة في ظل دولة القانون. و من أجل أن يتم ذلك لا بد لدولة القانون هذه أن تكون حازمة تضرب بيد من حديد على كل من يتجاوز القواعد المنظمة و المسيرة لشؤونها و تلك المتخذة أيضا لضمان توزيع العدالة و توفير الحماية للشعب من ناحية و منع تجاوز الخطوط الحمراء المتعلقة بالأمن و الاستقرار من ناحية أخرى. و لما أن يتم احترام القانون بفعل الحزم و الإنصاف بعيدا عن الأهواء و الشطط فإن حلقات العدل ستأخذ مداها إلى التمدد في أوصال الكيان و تبدأ المعالجات لكل القضايا الشائكة في نسق يكشف العيوب و يؤمن الحلول و يدفع إلى التصالح مع الذات و روح الوطن الموحد و الواعي.