قطيع النعام ..!!/ بقلم : حبيب الله ولد أحمد
منذ نشأتها على الأرض، تسير النعامات زرافات ووحدانا، على شكل قطيع أحيانا يبدو منسجما، غير أن تشابه الألوان، وظروف النشأة، والاشتراك في عدم القدرة على الطيران، لم تكن يوما من الأيام لتمنعه من التنافر .
قطيع يسير على غير هدى، قد يقوده الضعيف، أو العاجز، تماما كما قد يسوقه القوي المتغطرس الأرعن، فأن تكون نعامة في المقدمة، أو متخلفة عن الصفوف، فهو أمر متروك للصدف، لا دور فيه لقوتها ولا لضعفها ولا لمكانتها.
إن أصول القطيع متذبذبة ومثيرة للجدل، وغير مجمع عليها، فبعضه يعتقد أنه قادم من صحراء العرب،بينما يعتقد أن أصول بعضه تعود لإفريقيا الدافئة المشمسة،ولا أحد يعرف حتى بالتخمين أصولا لبقيته.
بعض النعامات حاولت دائما الطيران تمردا على بقية القطيع، واستعلاء على طريقته في حياة عبثية “سيزيفية” لا تؤمن سوى بالعودة إلى كومة الرمل، فليس لدى النعام من كنز جامع مشترك يفهم قيمته، ويتدافع للركون إليه سوى تلك الكومة التي لا تصلح لأكثر من احتضان الرؤوس المرتجفة خوفا من العاصفة .!!
إن طموح بعض النعامات للطيران يصطدم بعجزها الوراثي عنه، وهو عجز أقعدها عن أن تصبح طيورا جارحة، تناطح السماء، وتهابها بقية الطيور، أو سباعا ضارية تجوب الفيافي منتشية بقوتها وقدرتها على اختيار الزمان والمكان المناسبين لحياتها، والدفاع ـ حتى آخر ظلف وبانسجام أسطوري ـ عن حوزتها “الغابوية”.
قدر النعامة أن لا تكون شيئا أكثر ولا أكبر من نعامة .
يملك القطيع موهبة فطرية مشاعة، ليدس رؤوسه جماعيا ـ أو انفراديا ـ عند بداية العاصفة.
لم يجن القطيع من تاريخه مع التيه سوى قدرة فائقة على التدافع باتجاه الكثبان لدفن الرؤوس لمواجهة أي شيء غير مألوف في حياته..!!
يسير تائها ، وقد فقد هويته، فهو ليس سرب طيور قادر على التفكير بأجواء الحرية، وصفو السماء، كما أنه ليس قطيع جمال ـ مثلا ـ ولم يحظ على الأقل بمنزلة بين منزلتي الجوارح والضواري، فلا الريش الكاذب جعله طائرا يعشق الحرية، ولا العنق الطويل منحه صبر الإبل وقوة تحملها، ولا المشية الوئيدة منحته أية صفة من صفات السباع المهيبة.
ليس قطيع النعام غبيا ، لكنه لا يوصف بالذكاء ، إنه لا يتقاسم الماء والحب بطيب نفس، ولا يفكر في أن له مستقبلا مشتركا مشرقا كان أو غائما.
يقضى حياته سائرا لتصنع له الصدف وحدها طريقه، ومرات عديدة لم تكن صدفه سعيدة، وربما كانت أسعد الصدف في حياته، هي أنه استظل ذات تاريخ بشجرة واحدة في غابة كانت تضن عليه حتى بجرعة ماء.
الشجرة التي لجأ إليها القطيع لم يخترها كل النعام لنفسه، بعض النعام آوى إليها طمعا في تجميع القطيع وحمايته من أن يتخطفه الموت، ووفاء لغريزة حب البقاء، في غابة لا تريده، ولا ترحب به، ولا تعترف به أصلا ولا فرعا.
فوضوية الشجرة التي جمعته كرها وعلى عجل ، جعلت بعض الأعشاش كبيرة وعالية، وبعضها أقل شأنا وأكثر انسحاقا،وأتاحت لنعامات القرب من الغلال والظلال والمنبع، تماما كما أبعدت نعامات أخرى عن الغلال والظلال والمنبع، ولذلك ظهرت الفوضى ـ من حين لآخرـ تحت الشجرة، فالبيض أخرج فراخا كبرت لتكبر معها أحلامها بأعشاش أفضل، وماء وحب أكثر، بعضها لم يستطع البقاء تحت الشجرة، ولم يكن طموحه يتجاوزها،فكانت الانتفاضات الخجولة التي نتفت ريشا هنا، وخلعت مخالب هناك، وأثارت غبارا و أصواتا كثيرة، مع أنها لم تحسم شيئا في أزمة الشجرة، كتقاسم الظل والأوراق ومنبع الماء والثمار.
مشكلة القطيع هي أنه محكوم بالتعايش تحت الشجرة، مهما كان تباعد الأعشاش، ومهما كانت طموحات وأحلام مكوناته، ومهما كان حنين هذه النعامة لصحراء النشأة العربية، وحنين تلك لشمس الضفاف الإفريقية، والصدفة لا تصنع منتصرا ولا منهزما، وليس في القطيع من هو جاهز لمغادرة ظل الشجرة، ولا حتى للدفاع عنها.
إن طيورا وحيوانات وحشرات أخرى في الغابات المجاورة ، دفعت دائما ببعض النعامات لارتكاب حماقات ضد الشجرة والقطيع، ووسوست لها بإسقاط الشجرة، أو على الأقل تسلقها والتحكم فيها، أو اختطاف أغصان منها، لاستنبات فروع غير أصيلة، فللشجرة من يريدها لنفسه ،ويحوم حولها، ويحلم برؤية النعامات وهي تنتف ريش بعضها، وتلوى أعناق بعضها، لتتفرق في التيه، إذ لا موئل لها بعيدا عن شجرتها الأم.
كل النعامات بيضاء وسوداء قوية، وضعيفة، قادمة من الصحراء العربية، أومن الضفاف الإفريقية، تدرك أن التعايش بمرارة الجراح أفضل من “التناقر” الأعمى، فالشجرة في النهاية لن تكون ميراثا لأي من أفراد القطيع، والغابات المجاورة لا تسمح لأي غريب بالاقتراب من مائها ومرعاها.
يبقى القطيع هائما على وجهه طوال حياته ـ وإن لاذ بالشجرة ـ فلا القوي المسيطر قادر على التحكم فيه، ولا الضعيف المنهك قادر على التأثير في مساره.
حكمت عليه كل الصدف بالتعايش، حتى وإن تباينت مواقع أفراده وعناصره قوة وتمكنا، وقربا أو بعدا من الشجرة، وفخامة أو قذارة في العش، أو حظوة من الظلال والغلال..
تفضل بعض النعامات ركوب رأسها من حين لآخر،هي ليست سريعة حتى تبتعد عن البقية، ولا قدرة لها على الطيران حتى تعانق سماوات أخرى، ولا قبل لها بالهجرة عن الشجرة ففي كل اتجاه ـ وأينما يممت ـ ستلاقى نفسها أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وظروف كل الغابات المطيرة والجافة على امتداد الأفق ليست مشجعة، فذئاب تسحق ذئابا، وبغاث يستنسر، ونسور جريحة، وسباع صريعة ، وطيور كسيحة، وأشجار متهاوية لا ظل ولا حب، ولا عش، ولا مقام لطائر، ولا حشرة، ولا حتى لضرغام مكتنز قوة وتجبرا..!!
إن الغابات من حول القطيع وشجرته البائسة تشتعل، وسكانها يقتتلون في ظلام دامس، وأفقها كله ملتهب، ومستقبلها محترق، كما الماضي والحاضر..!!
كل الغابات مشتعلة، ولا أمان فيها لأهلها، فكيف بالغرباء..؟!!
أحيانا تقف بعض النعامات حائرة، تقدم رجلا وتؤخر أخرى، فحنينها لشيء ما هناك، يجعلها مندفعة للابتعاد عن القطيع، وواقعها على الأرض لا يغريها بأكثر من البقاء تحت الشجرة حتى في قطيع غير متجانس،إذ لا أصل لها ولا فرع ولاحق، خارج حدود الشجرة
إن نعامة جريحة عمياء كسيحة تحت ظل شجرة، أفضل من نعامة سليمة قوية لا ظل يؤويها، ولا قطيع يؤنسها حتى على مضض..!!
وفى كل مرة تتذكر كل النعامات شيئا واحد أصيلا وجوهريا ومشتركا في حياتها، وهو أن الدنيا كلها تهون مادام للنعام رمل يدس فيه رؤوسه هربا من العاصفة، لذلك ـ وبعد كل اهتزاز للشجرة أو نضوب لمائها أو تساقط لأوراقها أو تضائل لظلالها أو تهارش بين الفراخ ـ تتسابق كل النعامات، وفى انسجام تمليه الصدف، والصدف وحدها، إلى الرمل حيث تدس رؤوسها بحثا عن شعور ـ ولو عابر ومزيف ـ بالأمان وهروبا بأنفسها من أنفسها وعنها ..!!
ولكن إلى متى سيظل الرمل قادرا على احتضان رؤوس النعام..؟!!
ولماذا لا يفكر النعام في طريقة أخرى لمواجهة العواصف بصدق وقوة وانسجام وبرؤوس مرفوعة..؟!!
وإلى متى سيظل هاربا من ماضيه وحاضره، ومن مواجهة مشاكله وصراعاته، خائفا من عواصف مستقبل ستقتلعه مهما طال الزمن لتقتلع مع شجرته كل ما كان يعول عليه من رمل لا يرمز في الحقيقة سوى للهزيمة والإحباط والتولي يوم الزحف..؟!!
لا أجوبة لدى قطيع النعام، ولا حتى لدى قطيع البشر..ّ!!
بقلم حبيب الله أحمد