تعقيب على ما ورد في الحلقة الثانية من برنامج الصفحة الأخيرة / عبد الرحمن ولد سيدي حمود
لقد تابعت باهتمام برنامج الصفحة الاخيرة مع الاستاذ محمد المصطفى ولد بدر الدين ، لقد أعاد إلى الذاكرة بملكة سردية مشوقة فصول تاريخ نضالي خضنا غماره بكل ما يميز الشباب من مثالية وعطاء واندفاع. لقد أعجبتني قدرته على إعادة شريط الأحداث محترما تسلسل حلقاتها وعارضا بدون تهيب ولا تنازل قراءته الشخصية لها ولدلالات رموزها.
غير أنني أرى انه أراد أن يعرض تاريخ مرحلة حساسة ما زال شهودها والفاعلون في حقلها حاضرين من خلال مقاربة ذاتية تسلط الأضواء بعاطفية جياشة على المحيط الخاص للضيف ، وتحيل إلى سلة النسيان فصولا كاملة من النضال والمناضلين لا يغتفر إهمالها . إن حركة الكادحين هي وبدون شك أعظم وأوسع الحركات التي عرفها الوطن تأثيرا وانتشارا ، وقد لاقت تعاطفا منقطع النظير في صفوف الشباب والطلاب والتلاميذ والنقابيين مما شكل قوة ضغط جبارة يعود لها الفضل في نشر الوعي السياسي وتغيير العقليات ، كما يعود لها الفضل بالتأكيد بما عرفه البلد من إصلاحات ساهمت في تعزيز سيادته واستغلاله (تأميم ميفرما ، إنشاء العملة الوطنية ، ومراجعة الاتفاقيات مع فرنسا). إن هذه الحركة هي بالإضافة إلى ذلك من أحكم حركات الوطن تنظيما وأشدها انضباطا ، والتزاما بقواعد السرية ، الأمر الذي أكسبها حصانة في وجه الحملات البوليسية المتلاحقة ، فلم تخترق قياداتها ولم يعثر على أجهزتها السرية . كل هذا يدل على كثرة وتنوع الفاعلين في حقلها ، وصعوبة رسم لوحة كاملة عن كل أوجه نضالها، لوحة تفي بحق المناضلين الفعليين فيما ينبغي من ذكر وتمجيد . إن ضيف البرنامج لو كان تقصيره في هذا المجال عابرا ومحدودا ولكن يعتب عليه إن ظل حديثه عن الحركة مختصرا على هوامشها ومتحاشيا الدخول في صميم حياتها النضالية والفكرية . إن الحديث عن حركة الكادحين من زاوية نضال نقابة المعلمين العرب مفرط في الاختزال ، لاسيما أن تلك النقابة ما لبثت أن انقسمت على نفسها وأن أفقها النضالي ظل مطلبيا وإلى حد ما طائفيا . لا أريد هنا أن أقلل من شأن النضال النقابي ولا من فاعليته لأنني خضته بإيمان وعانيت من كل تبعاته : ” سجنت ثلاثة اشهر متوالية في ألاك, وابعدت سنتين إلى مدينة تيشيت ، وفصلت عن العمل ولم استعد وظيفتي إلا بعد قرار العفو العام سنة 1976 “. إن من وراء هذا النضال النقابي والطلابي والعمالي قفير لا يكل من الشباب , شباب هجر الدراسة والوظائف والأصحاب ليتفرغ للعمل الثوري, شباب يحلم بتحقيق الثورة الحقيقية ثورة تقضي على البؤس والتخلف، ثورة تزيل كل مظاهر التفاوت الطبقي ، ثورة تنزع السلطة من اصحابها ليحل مكانهم الممثلين الحقيقيين لطبقة العمال والفلاحين. ثورة كما يصفها أحمد ولد عبد القادر حيث يقول : قولي لنا وإنها والدهر يثبت ذا — ليست ميزاحا ولا لهوا ولا تيها وأنها روضة غناء وارفة —- تضاحك الشمس والأندى روابيها ودونها مسلك وعر ومنعرج — فكيف نقطعها حتى نلاقيها روح الكفاح وأنات العبيد ودو — رات الزمان وما تخفي لياليها ستطحن الشوك عن منهاج ثورتنا — ويطلع الفجر رقراقا يباريها إن هؤلاء الشباب هم الذين يقضون أوقاتهم في توعية الجماهير وإقامة الخلايا الثورية وتعبئة كل الجهود ليظل الإستياء متصاعدا والروح النضالية متوهجة ، إنهم وراء كل وقفة احتجاج .أو تظاهرة ،او كتابة على الجدران ، او منشور يوزع ، لا يجوز أن تنثر الزهور على رؤوس النقابيين دون ذكر نزر من أسماء هؤلاء المناضلين . لذا سأسمح لنفسي بذكر أسماء بعض شباب قريتي مقطع لحجار الذين قادوا العمل الثوري في اماكن متعددة من الوطن ، والذين تعرضوا للمضايقات والاعتقال في سجون السلطة ، وهنا أذكر إسلمو ولد سيد حمود الذي تولى قيادة النضال في ولايتي لعصابة وكركل . والأخ مدلله ولد بلال الذي قاده حقبة من الزمن في مدينة كيهيدي ، والمرحوم يحيى ولد عمر الذي يمكن وصفه بأنه اوفى وأثبت المناضلين ، وكذلك محمد المختار ولد محمد ولد أحمد ، وإنجيه السالم ولد بلال ، وولد أحمدو ، والناج ولد محمد ولد احمد وواه ولد محمد باب ، كل هؤلاء ظلوا مرابطين في الخطوط الأمامية للنضال وباشروا أصعب المهام الخاص منها والعام . وأذكر من نزلاء السجون حمزة ولد سيد حمود الذي أمضى الشهور في سجن الاك وهو ما يزال في سن الرابعة عشر من العمر . وابراهيم ولد سيد المصيوب ، والشيخ ولد سيدي ولد عبد الرحمن ، وسيد محمد ولد محمد السالم من معتقلي سجن بيل ، ومن سجناء شباب مقطع لحجار في نواذيبو اسمعيل ولد اطفيل ومحمد محمود ولد العيل ، ومن قادة النضال الطلابي أذكر عبد الله ولد كبد والكارزمي الشهير محمد شين ولد محماد رحمه الله . وبعد ذكر بعض من شباب قريتي أتحول إلى اقصى الشمال حيث أمضيت سنوات اربع مع كوكبة من الرفاق ، قادت النضال هنالك دون ان تظهر في صفوفها حالة ضعف أو كلل أو تململ ، من هؤلاء اذكر قادة لجنة العمل الثوري في الشمال وهم على التوالي : يب ولد البشير المنسق العام ، والسالك ولد الحاج المختار عن مدينة انواذيبو والقاسم ولد بلاّلَ عن أطار وشداد عن اكجوجت وأنا عن ازويرات. وأخص كذلك عناصر تميزوا بالشجاعة والحماس والإندفاع وهم رفيقي وحميمي الشيخ ولد محمد لمام ومحمد الامين الملقب (Petit rouge) الذي عارض فيما بعد بشدة خط الحركة الداعي إلى التصالح مع حزب الشعب . وذهب ليخوض النضال المسلح مع ثوارالصحراء . ومنهم أيضا أخي أحمدو السالم ولد أحمد ، ومنهم حامد الذي ما إن خرج من سجن انواذيب حتى أعيد إليه بعد ذلك بأقل من أسبوع حيث داهمته الشرطة وهو يكتب على الجدران إحياء لذكرى أحداث ازويرات ، ومنهم قادة آخرون بارزون اذكر من بينهم سدن وميلود ولد أكحل …. ومن الوارد أيضا أن أخص بالذكر شباب تجكجة ذلك الشباب الذي لا يقهر، والذي أفرز شخصيات قيادية فذة وأذكر من بينها محمد ولد مولود، الطالب محمد ولد لمرابط ، الداه ولد عبد الجليل ، سيد ولد اخليف ..إلخ. ومن شباب واد الناكة يتعين ذكر أولاد عابدين، واولاد زين ، وأولاد الحي، وأولاد لبات ، وأولاد حماد … ومن مدينة المذرذرة أذكر : مال كيف ولد الحسن، وباكاه، والحسن ولد الطالب ، واسرة أهل خبّا رجالا ونساء . وما هذه إلا أمثلة لإعطاء صورة عن قوة المد الثوري في تلك الفترة ، وعن مدى تجاوب الشباب مع الخطاب السياسي الذي كانت تحمل الحركة الوطنية الديمقراطية . اما فيما يتعلق بما تقدم به ضيف البرنامج من ملاحظات في الشكل والمضمون حول الاستقلال فلا يمكن لأحد أن ينكر صحتها. إن موريتانيا شأنها في ذلك شأن أغلبية الدول الخاضعة للاستعمار الفرنسي ، حصلت على الاستقلال بقرار من الحكومة الفرنسية . إن هذا الاستقلال وإن كان في ظاهره ممنوحا. هو في جوهره ثمرة نضال الشعوب والطلائع الثورية لكل من آسيا وإفريقيا والمغرب . ولم تتخلف الطلائع الموريتانية عن ذلك الركب . إن الاستعمار الفرنسي لم يتصرف بدافع من الكرم والتعاطف مع شعوب المستعمرات بل أراد أن يستبق العاصفة ، في خطوة تكتيكية تحاول تفادي القطيعة التامة مع المستعمرات وسقوط السلطة في ايدي الجماعات الأكثر تطرفا ونفورا من المستعمر ، وهكذا كانت السلطة في موريتانيا من نصيب الفئة الاكثر تآلفا وانسجاما مع الأطروحات الأجنبية في ظاهر الامر . واقول في ظاهر الامر لأن الأيام أظهرت بعد ذلك أن المختار ولد داداه رجل وطني في الصميم , رجل لم يضيع فرصة يمكن ان تقربه من استكمال سيادة البلد ، وتخلصه من وطأة الوصاية الاستعمارية ، لقد أظهر ذلك عندما فضل سياسة التقشف والاستغناء عن المساعدة المالية التي كانت تمنح من طرف الدولة الفرنسية ، وأظهرها فيما بعد بجلاء عندما أخذ قراراته الجريئة المتمثلة في: “تأميم ميفرما وإنشاء العملة الوطنية ومراجعة الاتفاقيات مع فرنسا” ، وأتذكر أننا حينها في حركة الكادحين لقبناه “نوردوم سهانك”ودعونا إلى الإلتفاف حوله ودعمه . إن المختار ولد داداه لم تزل به خطواته حتى اصبح في أعين الجميع وحتى ألد أعدائه من أبرز قادة العالم الثالث . إن المختار ولد داداه رجل إصلاحي مستنير لم يتوقف لحظة عن تجذير السيادة الموريتانية بتمهل ومثابرة منقطعتي النظير . أما محمد المصطفى ولد بدر الدين فهو الثوري الذي لا يرضى بأنصاف الحلول ، الثوري الذي يطمح إلى التغييرات الجذرية والحاسمة . ولا يتحمل سياسة الخطوات البطيئة . فخطابه خطاب لا يعرف التلميح ولا المراوغة ، خطاب لا يخضع حتما لمقتضيات الأعراف التقليدية، إنه خطاب تجديد ومراجعة ، غنه خطاب قد يزعج البعض ولكنه ضروري جدا في مجتمع كمجتمعنا ميال إلى الجمود وتقديس القادة . وخلاصة القول هي أن كلا من الرجلين لعب ويلعب دوره بجدارة ولكل منهم يستحق التقدير والإجلال .