ملاحف الصحراء: خرائط الفتنة والغواية والإيروتيكا ..الجسد واللباس

 

عنوان الإعلام الإستتيقي للجسد.. ’اللباس عبارة عن نسق عام من العلامات،

وأن دلالات هذا النسق غير ثابتة، وأنها تتطور على مرّ التاريخ’.

رولان بارث(1).

يكتسي الارتداء دلالات ومعاني كثيرة، فهو بشرة ثانية للجسد وعنوان هويته ووجوده. في ثقافة البشر، تنصهر الأجساد لاسيما الأنثوية منها داخل تلافيف نسيجية..ومنسوجات ملفوفة ترتديها النسوة على نطاق طقوسي واسع..

 أبدان نحيفة، وأخرى مكتنزة وممتلئة، تتململ..تتمطط وتنثني، داخل أردية تقليدية وعصرية، فضفاضة وضيقة تمتد لجغرافيا الجسد ولشساعتها الكبيرة والواسعة. وبقدر ما هي أبدان، هي أيضا كيانات لحمية (من اللحم) ترسم علنية نداء الجسد، حيث تمسي التضاريس والنتوءات عناصر إلهام ومتعة وتحريض للرجل على التشهي..كيانات معرّضة للتلصص Voyeurismeوالنظر المسروق والكثير منها يمارس لعبة التكشف والظهور عبر اللباس الشفاف..عبر العري Nudismeالذي يرمز إلى التمرد على الخالق، مثلما يرمز إلى الشيطان.

ولا شك أن للارتداء رمزيته التي تنطلق مرجعيتها من قصة خلق آدم عليه السلام وزوجه حواء، حيث كان لباس الجنة رمزا للرضى الإلهي، وبمجرد ارتكابهما للخطيئة تحوّل ذلك إلى عري!!(2).

إن العري هو الحالة الإنسانية التي تشير إلى عدم ارتداء أية ملابس، وأحيانا تستخدم الكلمة للإشارة ثقافيا إلى حالة ارتداء ملابس، ولكنها أقل بكثير مما تقتضيه تقاليد وعادات المجتمع أو مما يقتقضيه الموقف، إلا أنها على العموم أيضا تشير إلى ظهور الإنسان عاريا تماما، وكذلك عورته. وتشير كلمة عاري إلى نوع من الفن التصويري يصف الرسم أو النحت الذي يصوّر البشر من دون ملابس، وإذا كان العري هو الحالة الإنسانية السائدة قبل اختراع الملابس، فقد أصبح العري نادرا في حضور الآخرين(3). والعري، أو العريية نزعة سياسية تمارس العري الاجتماعي، وتدافع عن ممارسته في الأماكن الخاصة والعامة على حد سواء. وهذه النزعة معروفة في أوروبا باسم ’النزعة الطبيعية’. للعري ما يبرره، إذ أن الاشتهاء الإيروتيكي هو الذي يدفع إلى التمرد على اللباس. وقد تقوَّى هذا الشعور والحاجة إلى العريية كرد فعل عن بذخ الحضارة الغربية المعاصرة التي راكمت زيفها على الإنسان، فأضحى اللباس واحدا من الفواصل السميكة التي تعمق الفوارق بين البشر، وتمحو ما هو طبيعي فيهم. وقد كان الموقف متطرفا لدى بعض شوارع أوربا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية مع مطلع السبعينات. ولا زال الجسد هناك يسلب الذات البشرية كثيرا من الحرية والتلقائية(4).

اللباس عنوان الإعلام الإستتيقي للجسد، فهو بمثابة لغة ذات تأثيرات خاصة ومتميّزة في الآخر. إنه على حد تعبير فيشر Fischer’جلد ثان’ يعبّر بشكل رمزي عن تنشئة الجسد الإنساني من خلال خضوعه لبعض الشفرات الاجتماعية(5). وقد بيَّنت بعض الدراسات الأنتروبولوجية بأن اللباس يؤدي ثلاث وظائف تتلخص في الوظيفة الوقائية، والوظيفة التجميلية، ثم الوظيفة المرتبطة بالستر والحياء. ولم يختلف الباحثون في إعطائهم للوظيفة الجمالية مركز الصدارة، بينما اختلفوا في تصنيفهم للوظيفتين الثانية والثالثة على اعتبار أن الاهتمام بتزيين الجسد وتجميله، ممارسة صاحبت الإنسان عبر التاريخ’وعبر تتابع الحضارات والثقافات. فحتى عندما يتعلق الأمر بالمجتمعات التي يستعمل اللباس في نطاقها، فإننا نجد أعضاءها يزيّنون أجسادهم بالرسوم والألوان، أو بإضافة ديكورات معينة على الجسد (ريش، حزام، جلد، عقد..إلخ)(6). هو بلا شك نوع من الاحتفال بالجسد عبر الإكساء والتلفيف المادي الذي اهتمت به أنتروبولوجيا اللباس منذ العقدين الماضيين..اللباس في هذا الإطار، يغدو لغة ونسقا وكتلة من الرموز التي تجسد ثقافة الحجب والستر..

إن اللباس صورة مكثفة للثقافة ونسيج من الرموز، وليس مجرد نسيج من العقد والخيوط. وإن تنوّع صور وأشكال الزي أو الثياب يعني صور وأشكال الستر(7).

ومن منظور كونه وسيلة تعبيرية ذات مضمون إنساني، فإن اللباس يعد بنية رمزية تتغير وتحبل بدلالات تعكس تعقد العلاقات البشرية في سيرورتها. وكثيرا ما ينطق بعداء حيال النساء، يترجم في دعوى دنس أجسادهن، وهي رؤية تفتقد أساسا دينيا برغم انتشارها في المجتمعات الإسلامية، إذ يصرح الكلام الإلهي بأن المرأة والرجل من نفس واحدة، وهو قول يدل على قمة التماثل، والمساواة بينهما، كما يقول الحق: ’لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم’(8)، من دون تمييز بين المرأة والرجل، لكن هناك من يصرّ على جعل العلاقات الأنثوية مرادفة للشهوة الحيوانية مبرّرا دعواه بالدين، فحرمت المرأة من التصرف حتى بصوتها(9).

فمن ينكر ما يحبُل به جسد المرأة من علامات هي في الأصل مواطن فتنة وغواية..جسد المتعة والاستلذاذ ومسرح للرؤية والشم واللمس حتى وإن كان هذا الجسد ’يتنكَّر’ وراء لباسه ويؤكد على أن جوهر الأنثوي يظل (أحيانا) هو الخفاء، من منظور إيمانويل ليفينياس..اللباس والجسد عنصران متلازمان، لكنهما كثيرا ما تفصلهما الحاجة إلى التعري ولو للحظات (ممارسة الجنس، الاستحمام، التداوي بالتعزيمات المائية..)، والعلاقة بين الجسد واللباس لا تخلو من سرائر ومعلومات، قل لي ماذا تلبس أقول لك من أنت!!

2- الجسد وثقافة الارتداء

الجسد ثقافة..واللباس أيضا ثقافة. إنهما يعبّران عن سؤال الخصوصية والانتماء، إذ كثيرا ما نحكم على الجسد ونحدّد هويته من خلال ما يرتديه. الجسد/ اللباس..أو اللباس/ الجسد إشكالية فلسفية وثقافية ودينية تنطلق من كون الجسد كيانا اجتماعيا يكتسب صفة العرف، أما اللباس فهو تعبير جمالي ومادة إثنوغرافية بصرية مساعدة على فهم آليات السيطرة التي تمارَس على الجسد، أو ضده..

يقوم اللباس، باعتباره لغة، بالإخبار والتبليغ بواسطة اصطلاحات مفهومة ومتعارف عليها من طرف جميع الفاعلين الاجتماعيين، فلا يمكن أن يختزل اللباس في مجرد وظيفته المادية وحدها. فالوظيفتان معا الوقاية والتواصل مترابطتان، لأن اللباس/ الرداء لا ينفلت كليا، رغم أهميته، من مجموع الإكراهات الاجتماعية، لأنه يتطور. والحال أنه يبدو صعبا أن نؤكد مع بول يونيل P. Yonnelبأن ’الوظيفة الوقائية للباس هي الذريعة Pr’texteالتي تختفي وراءها الرغبة في ارتداء الملابس’(10). إن وظيفة التواصل لا تستبعد مع ذلك وظيفة الوقاية: فكلتاهما يتعايشان أحيانا، بحيث يمكن لنفس اللباس أن يحمل دلالة تختلف من حالة إلى أخرى، إذ يمكن معاينة انزياح في هاته الوظائف، بل وقلب معين للمعنى من وجودها، وذلك تبعا لكل وظيفة على حدة. ’فالذي يلبس ثوبا ما، شيئا ما، إنما يصبح إشكاليا. يغدو اللباس نفسه وضعا سيكولوجيا، وقبلئذ سوسيولوجيا، وسوسيوثقافيا وتاريخيا، فكل لباس يفصح عن لبس فيه، عن ثقافة مرئية ومستنبطة- اللباس يرتقي إلى مستوى الكلام، بينما الجسد يصبح لغة مقننة. يرتبط اللباس بالجسد بعلاقة دلائلية، ما في الجسد جنسائيا يتجلى لباسيا. الجسد نفسه التباس ولٍبْس، فهو يلبس ثقافة، ويتلبس في موقف، ويتلبس عليه الوضع الذي يعيشه، فهو ليس ما يبوح به، إنما ما لم يبح به- ثمة فكر في علاقة الجسد بما يلبسه، طيّات خفاء وتجلٍّ! قد يحل كل منهما محل الآخر- حيث يمسي الجسد لباسا، بكل عمقه الدلالي، واللباس جسدا بكل تجلياته العلاماتية’(11).

واللباس بما هو تعريف للذات، هو أيضا شاهد على تطور الجماعة التي تنتجه. إنه عنوان الحضارة ودليل التغيرات التي تطرأ داخل المجتمع، بل هو امتداد للجسد في بعد التجميلي. من تم لعب اللباس في تاريخ الإنسانية وظيفة إيروتيكية تزيينية جعلته يحمل تناقضاته في ذاته لكونه يخفي ليجذب، كما يقول أولديدورف A. Oldedorff (12). كما أن أسلوب الارتداء يسمح للجسد بإبراز جسديته Corpor’it’ والتعبير عن مثالية الكائن الإنساني الذي يحاول الابتعاد عن جنسه الحيواني ما أمكنه ذلك(13).

يعتقد رولان بارث R. Barthesبأنه من الصعب علينا الحديث الجسم الإنساني دون طرح مسألة اللباس، لأن الثياب- في ما يقول هيغل- هي التي يصبح فيها المحسوس دالا، أي أن الثياب هي ما يصبح به الجسم دالا وبالتالي حاملا لعلامات خاصة(14). كما أن اللباس يلعب دورا ’إشهاريا’ للجسد من حيث انتماؤه الجنسي والعمري والطبقي، ماديا كان أم معنويا، لاسيما في المجتمعات التقليدية القديمة التي كان فيها للباس وظيفة إشهار ووظيفة الإشارة إلى إحالات مختلفة وظروف مختلفة، أي اختلافات طبقية(15)..

ولأن بناء الهوية يتطلب بالضرورة تأسيس الاختلاف أو التمايز على حد تعبير بورديو Bourdieuالذي ذهب إلى أن الثياب تمثل نسقا تمايزا يعتمد على التقابل الثنائي بين النساء والرجال وبين الثقافة المحلية وثقافة النخبة(16)، فإن اللباس والجسد يشكلان معا نصا بصريا متحوّلاً Mutatifحاملا لمعان ورموز كثيرة تعبّر عن حالة مدهشة من الاندماج..

داخل بنية هذا النص يلجأ كثيرون إلى زخرفة الجسد بتمائم Amulettes’لدحر أذى العين والحسد (أكسسوارات الجسد) بالقدر الذي يراود آخرين حنين العودة إلى العهد الأول، حيث لا شيء يكسو الجسد، أي حالة العري الأولى التي عرفها الجسد الإنساني وهي تشبه الدرجة صفر في الثقافة..

3- الملاحف: أيقونات النساء البيضانيات..

للمرأة الصحراوية طريقتها الخاصة في ارتداء الملحفة، ذلك أنها تلبسها بصفة التلفُّع حيث تغطي كامل جسدها، كما تعقد عليها ملحفتها، وهي تسمِّي معقدها خُلاَلاً، وفي اللسان: ’يقال خَلَّ ثوبه بخلال يخله خلاًّ، فهو مخلول إذا شَكَّهُ بالخلال. وخل الكساء وغيره يخله خلا: جمع أطرافه بخلال.

بالصحراء، تدبر المرأة كل الحيل لإغراء الرجل والإيقاع به، بدءا من لغة العيون وطرائق التزين والارتداء، مستعينة في ذلك بملاحف الصحراء الجميلة والمتنوعة، إنها أردية تقليدية دائمة الاتصال بالجسد، والروح أيضا..من ملاحف الشَّكَّة إلى ملاحف النَّحِيفْ وكَازْ، فضلا عن تُوبِيتْ ولَمْبَيْرَدْ وسَاغَامْبُو، وهي عينات قديمة. دون الحديث عن ملاحف الشَّرْكْ (الشرق) ذات المادة الزرقاء الداكنة المسماة النِّيلة Indigo، أو الشنظورة المعروفة كثيراً لدى الأوروبيين

بـاسم La voile de Guin’e..

زد على ذلك ملاحف صَافَانَا، وَاخْ، النْمَيْرَاتْ (تتضمَّن كزخرفة أرقاماً مبعثرة)، ثم ملاحف النْعَامَة وملاحف النَّحِيفْ، دُومَاسْ، دَلاَسْ، كوكا، الطَّلَبَة، رَشْ تِيدَكْتْ، لَمْكَيْمَّشْ، الجَوْ، السَّنْتُورْ، الجَزِيرَة (نسبة إلى قناة الجزيرة القطرية)..إلخ. إضافة إلى كل ذلك، يوجد نوعٌ آخر من الملاحف خضع لكثير من التطوُّر، هو ملاحف الشَّرْ’ْ/الشرق (أو ملاحف لَنْصَاصْ) التي يتم جلبها من موريتانيا في شكل أشرطة طويلة ’بْنَايَ’ْ’ -لا يتجاوز عرضها ثلاثة سنتمترات- ملفوفة على القصب. ويُعتبر هذا النوع من أغلى الملاحف ثمناً بالصحراء ، حيث يتجاوز سعرُه ثلاثة آلاف درهم للقطعة الواحدة.

من العينات المستحدثة توجد ملاحف النَّصْ، رَاكِيلْ، كْنَيْبَة (مصدر ياباني)، وملاحف الرَّقِيقْ، وهي النَّوعية الأكثر اقتناءً في الأسواق الصحراوية بفعل تزايد إقبال الصغيرات والشابات على شرائها، فهي رقيقة شفافة تُساهم كثيراً في الكشف عن مفاتن الجسد وإظهار أجزاءٍ مهمَّة من تضاريسه..وكذلك ملاحف صْوَارِي الخاصة بالعرائس، وأعتقد بأن التَّسمية ترجمة صوتية (اقتراض لغوي) للفظة Soir’e، أي أمسية المرتبطة ببروز العروس وظهورها بعد انقضاء الليالي الأولى من الزَّفاف ضمن حفل شعبي صحراوي يُسمَّى ’أَبْرَازْ’ (التقديم). هذا إلى جانب ملاحف غزة، بن لادن، الطبل، الجراد، سي دي، سكود، طريق إفريقيا الجنوبية (احتفاءً بكأس العالم 2010)، الفايسبوك..إلى غير ذلك من الملاحف التي تحمل ختم مصممين عالميين أمثال جيفانسي، وروبيرتو كافالي اللذين يحظيان بشعبية واسعة عند النسوة البيضانيات.

ارتباطاً بوجود مجموعة من الخرافات والفكر الميثي Mythiqueالذي يصاحب الملاحف، يسود في الصحراء معتقد شعبي يُعرف باسم ’ ’ْـلِيبْ الطَّرْفْ’ تبرز فيه ملحفة الأم كتميمة لتحصين الجسد. فهو يتمثل في تعرُّض الفتاة (أو الفتى) للضرب سبع مرات من قبل الأم بواسطة أطراف من ملحفتها، أو تمرير الصبي المصاب سبع مرات من داخل مشابك ومطاوي ملحفة الأم. إلى جانب معتقد آخر يتعلق بلجوء بعض النساء اللواتي يرغبن في الزواج إلى قطع جزء من ملاحفهن وتركه بجوار ولي صالح يزرنه رغبة في طرد النحس وكسب ود رجال يعشقنهم!

غير بعيد عن هذا السياق، يعتقد كثيرون بالصحراء أن انفكاك عقد الملحفة نحو الكتفين في حضرة أحد الرجال دليل على وجود حب حقيقي تكنه المرأة للرجل. فالملحفة هنا تساهم رمزياً في التعبير عن المشاعر المتفقة والحب المصادر اجتماعيا ودينيا وثقافياً. وارتباطاً بموضوع الغيرة، تلجأ النساء الغيورات إلى تمزيق ملاحفهن فوق أجسادهن جرَّاء شعورهن بوجود خيانة مفتعلة من قبل أزواجهن.

4- لوحات تشكيلية ترتديها النساء..

على المستوى الجمالي، غدت الملحفة -كزي نسائي مرئي متميز في الصحراء- مجالاً بصريا لتطبيق مجموعة من العناصر والمفاهيم التشكيلية (أبرزها اللون والتكوينات الصباغية والطيفية المنبثقة عنه) التي تظهر في ضوئها المهارة الفنية والخبرة اليدوية التي يتميز بها الحِرفيون الصحراويون. فهي، أي الملحفة، مرت بمراحل كثيرة على مستوى أساليب وتقنيات صباغتها (أو على الأصح تلوينها)، إلا أن أبرزها تظل، من دون منازع، تقنية العزل والصَّرْ التي ترتبط في كثير من النواحي بتقنية تشكيلية عالمية، هي تقنية الباتيك Batik (17) التي تعني تشميع وتجعيد القماش ووضعه داخل الصباغة (بكيفية التغميس) بشكل عفوي، وبعد القيام بفتحه تظهر الألوان متشاكلة ومتجانسة تلقائياً، ولكن للتلقائية أيضاً ما يبررها وما يؤكد على أهميتها التعبيرية والجمالية.

أما بخصوص الألوان البادية في الملحفة، فيُمكن تقسيمها إلى نوعين: ألوان خاصة بفئة الشابات غالباً ما تكون زاهية، أو فاتحة، أو إشراقية كالأزرق والبرتقالي والأخضر والأحمر القاني، وأخرى ترتبط بفئة المسنات غالبا (إن لم نقل دائماً) ما تكون داكنة وقاتمة بالضرورة، وفي ذلك إيحاءات كثيرة ومتعدِّدة. ويعود السبب في هذه ’الاختيارات اللونية’ إلى الدلالة’العميقة للون الذي قد يرمز إلى انتماء اجتماعي أو عمري معيَّن، أو قد يدل على هوية ما، بحيث يكون (مثلاً) من غير اللائق على إمرأة صحراوية مسنة أن ترتدي ملحفة مُزركشة بالألوان، بقدر ما ترتدي الأسود والرمادي والأبيض (في قليل من الأحيان)، أو الألوان الداكنة أحادية الدرجات الضوئية (المونوكرونية) للدلالة على الميل إلى البساطة في العيش والحياة..

ونظرا لأن الملحفة تعد سندا تشكيليا مرئياً بامتياز، فإننا نبرز في ما يأتي بعض الاستخلاصات الناتجة عن مقاربة إستتيقية أجريناها على هذا المستوى، وقد اهتمت بالجانب الفني والجمالي البادي في الملحفة الصحراوية شكلا وتقنية:

 من بين الخصوصيات الفنية المميزة للملحفة احتفاظها بالجانب التشكيلي المتمثل في انتشار الألوان والآثار اللونية (بطريقة المسح والترك والمحو) داخل رقع تحدد مساحات مهمة داخل فضاء الملحفة خصوصا حين تلبس.

 اعتمادا على التبقيعات والتخطيطات اللونية المتشاكلة داخل الملحفة، يصح لنا الحديث عن وجود نسيج لوني تحكمه نسقية لونية متكاملة تكون مسبوقة باستعمالات محكمة للتقنية الصباغية المتبعة، بحيث تكون النتيجة الصباغية معروفة قبلا من طرف الصباغين.

 إن التوظيف اللوني، الذي يكسو جل الملاحف بالصحراء، يفسر براعة الصباغين التقليديين الصحراويين، ونجاحهم في توزيع ألوانهم وفق توليفة تشكيلية تتأرجح بين التجريدية الغنائية Abstraction lyriqueوالتعبيرية التجريدية (المميزة لما بعد الرسموية)، وتنم عن وجود حرفية عالية تتغيا إعطاء الملحفة طابعا صباغيا خطيا وتنقيطيا وبقعويا، حيث تظهر بصمات وآثار لونية متغايرة ناتجة عن سيلان حبري وصباغي لونمائي Aquarelleيخترق مساحات مهمة من الملحفة تكون مطلية بصباغة حركية بفعل أسلوبي الصر والترك خصوصا على مستوى الحيز.

 الملحفة فضاء تشكيلي تتصادم فيه الألوان الفاتحة لتفيض على مساحات صغيرة ومتوسطة غنية بتراكبات لونية داكنة.

 الملاحف بالصحراء تحف فنية تستمد هويتها التشكيلية من التمازجات اللونية القائمة على الشفافية والكثافة والتباين (الكونتراست) الضوئي والظلي الذي يمنح العين (عين المتلقي) متعة بصرية غاية في الجمال والإبداع.

 الصباغ التقليدي الصحراوي يتألق في طلي الملاحف وتلوينها، ويبدع في خلق التوازنات الملائمة بين وحداته الملونة، فهو لا يتخذ هذه الأخيرة كمفردات تشكيلية مجانية، بل يجعل منها (وفق مهارة يدوية خاصة) أشكالا لمفاهيم تشكيلية تجريدية جديدة عابقة بالكثير من الدلالات والمفاهيم الطيفية، يساعده في ذلك توظيفه التبريري لمواد صباغية تقليدية يختارها ويحددها حسب طبيعة الحاجة.

 الملحفة عبارة عن مشهد تشكيلي تتعاود فيه التكاوين والتراكيب اللونية الجمالية وفق إيقاع لغة تشكيلية يتطلب فهمها البحث في دلالة الألوان التي تكونها، والتفاعل بصريا مع الخصوصيات المرئية التي تبرز في ضوء التقنية المتبعة في تشكيلها.

5- سلطة الأنوثة..

ارتباطاً بجمال المرأة، حدّد بدو الصحراء -المشهود لهم بالفحولة التي بزَّت فحولة الإفرنج ودوَّخت صناديدهم، بتعبير أحد الكتاب العرب- مجموعة من المقاييس والمعايير التي يعتبرها عناصر الجمال الأنثوي المتكامل الذي لا يتوفر سوى في امرأة غاية وآية في الجمال تكون ’مَتْفَصْلَ’ و’رَشْكَتْهَ زَيْنَ’، بالتعبير الشعبي الحسَّاني. وترتبط هذه العناصر بكافة أعضاء الجسد وتضاريسه الكبيرة والصغيرة مع تحديدها ووصفها بتسميات تخصيصية دالة وإيحائية تستمد مرجعيتها من الثقافة الشعبية الصحراوية. فمنذ القِدم، كانت لدى المجتمع الصحراوي معاييره الخاصة لتحديد مقاييس الجمال لديه، مثل عادة تسمين المرأة والتغالي فيها.

المرأة الصحراوية جسد ناعم يختفي وراء الملحفة..إنها خطاب أيقوني يعتمد الحجب والستر..فاختفاء العُري يزيد رغبة’في اكتشاف أسرار الجسد ومفاتنه..والملحفة في هذا المضمار ’ستار يسمح بالحميمية’، كما تقول صوفي كاراتيني S. Caratiniفي مؤلفها ’أطفال المزن’ الصادر عام 1993(18)..

المرأة الصحراوية تدرك بأن الأنوثة سلطة..لذلك فهي لا تتوانى في التعبير عن هذه ’الميزة’ التي حباها بها الخالق، ليس فقط لإثارة حواس الرجل، بل ليقينها بأن الأنوثة ’سر الجاذبية الخلقية في المرأة’.

إن النساء البيضانيات عموماً غاية في الدلال، فهن يتقن ارتداء ملاحفهن بكل ملاءمة وانسجام وتناغم..إلى جانب جر النعال والتبختر في المشي وصقل الأسنان بالسواك. كما أنهن أيضاً يتقن فن الغمز وحركات اليدين والذراعين والصوت المتغنج والابتسام الخفي أثناء تقاطع النظرات مع الرجال(19)..

فمشية النسوة الصحراويات..مشية البدويات المنعَّمات تلهم الرجال وهم ينظرون إلى أجسادهن المكتنزة التي تتململ ببطء إيروتيكي يرسم أنوثتهن. ويطلق الصحراويون على هذه الإيقاعات الجسدية تعبير ’التْمَاييحْ’، أي الحركات والتمايلات التي تقوم بها المرأة أثناء المشي بتبختر لإشعال شهوة الرجل وإثارتها.

إن أنوثة المرأة الصحراوية تبرز كثيراً من خلال أسلوب ارتداء الملاحف وطريقة المشي وإيقاعاته المحسوبة حساباً في كل خطوة، وهذا ما يؤكده هافلوك إليس Havelock Ellisأستاذ الأبحاث الجنسية بالقول: ’إن مميزات الأرداف والمؤخرة تلاحظ خصوصاً عندما تمشي المرأة’..

تمشي المرأة الصحراوية بخطوات متهادية وبطيئة وكأنها جريح أضعفه النزيف في كثيب غير ممهّد، كما يصف ذلك امرؤ القيس:

وإذا هي تمشي كمشي النزيف يصـرُعُه بالكـــثيـب البُـــــهُرْ

هي هكذا أقدام النسوة البدويات بالصحراء: أنغام تعزف للحبيب والعاشق المأخوذ بهمسات القدمين وهما تطآن الأرض ناقلتين إليه رسالة الحب والعشق والغرام..وهي هكذا ملاحف الصحراء: أيقونات متجددة ترسم خرائط الفتنة والغواية والإيروتيكا عند إنسان الصحراء..

هوامش: 1- Roland Barthes: Le grain de la voix. Entretiens 1962-1980. âditions du Seuil, Paris- 1999 (p. 61). 2

ـ فريد الأنصاري: سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة- منشورات ألوان مغربية/ الطبعة الأولى 2003 (ص. 52). 3

ـ محمد حسام الدين إسماعيل: الصورة والجسد/ دراسات نقدية في الإعلام المعاصر- منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 2008 (ص. 199)« 4

ـ الزهرة ابراهيم: الأنتروبولوجيا والأنتروبولوجيا الثقافية (وجوه الجسد)- تقديم: خضر الآغا- النايا للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2009 (124). 5

 Jean Maisonneuve : Le corps et la beaut’. PUF- Paris, 1999 (p. 80). وأيضا، السباعي خلود: الجسد الأنثوي وهوية الجندر- دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى/ الرباط 2007 (ص. 38 و39). 6

ـ الجسد الأنثوي وهوية الجندر/ م. م. (ص. 38). 7

ـ السيد الأسود: ’التماثل والتمايز في الزي العربي الخليجي’- مجلة العلوم الإنسانية/ العدد 11، شتاء 2005 (ص. 160). 8

ـ سورة التين، الآية 4. 9

ـ نزهة براضة: الأنوثة في فكر ابن عربي- دار الساقي/ الطبعة الأولى 2008 (ص. 176). 10- Paul Yonnel: Jeux, modes et masses (p. 302).

وأيضا: ’اللباس/ المرأة والتغير الاجتماعي بالأطلس الكبير’- مقالة لميشيل كاسريل- ترجمة: محمد الضراوي/ الملحق الثقافي، الاتحاد الاشتراكي/ العدد 576، الجمعة 24 نونبر 2000. 11 ـ ابراهيم محمود: وإنما أجسادنا…إلخ/ ديالكتيك الجسد والجليد- دراسات مقاربة- منشورات وزارة الثقافة السورية/ الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق 2007 (ص. 42 و43). 12 ـ الجسد الأنثوي وهوية الجندر/ م. م. (ص. 62). 13- Georges Bataille : L’rotisme- Les ’ditions de Minuit, 1975. 14ـ رولان بارث: اللباس لغة المجتمع- سلسلة دفاتر فلسفية 2- الطبيعة والثقافة (ص. 48). وأيضا:الأنتروبولوجيا والأنتروبولوجيا الثقافية/ م. م. (ص. 122). 15 ـ مراجع مذكورة (ص. 123 و124). 16 ـ التماثل والتمايز في الزي العربي الخليجي/ م. م. (ص. 176). 17- الباتيك: تقنية تلوينية آسيوية المنشأ وتُمَارَسُ بشكل إبداعي واسع بإندونيسيا والهند والصين واليابان. ووفقاً لمعجم مصطلحات الفنون لمؤلفه عفيف بهنسي، يعني الباتيك ’طريقة الوشى على القماش، وهي طريقة’يدوية تُعرف بالرسم على القماش بالشمع الساخن’. والباتيك كلمة مشتقة من اللغة الجاوية ومعناها التنقيط، وهي تُطلق على الرسم المعتمِد على الشمع والصباغ لتزيين وزخرفة الأقمشة والمنسوجات.

 بقلم : ابراهيم الحَيْسن – القدس العربي

 باحث في التراث الصحراوي (جنوب المغرب)