الأمن بين ضرورتي السلم الأهلي و التنمية العادلة/الولي ولد سيدي هيبه
“وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ” صدق الله العظيم “من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها” الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: لا شك أن الحاجة الماسة إلى توفير الأمن الذي يبصم اليوم على الشأن السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي الدوليين بطابعه الاستعجالي على وتيرة متسارعة و كما لم يشهدها من قبل، هي حاجة لم تغب يوما عن واقع الدول و أحوال الأمم على العكس مما يشاع. لكن تقارب الشعوب من بعضها أكثر و سقوط الحدود الفعلي كالجليد أدى في غياب الحكامة الرشيدة و الالتزام بروح الإنسانية إلى الاحتكاك و الصراعات الحادة على المصالح و النفوذ بقوة السلاح الذي شهد تصنيعه طفرة غير مسبوقة و انتشار جنونيا في كل القارات من ناحية، و تطور الفكر التمييزي في بعديه القومي و العقائدي و تفشيه كالنار بالهشيم في كل أصقاع الأرض مدفوعا بقوة الثورة الحاصلة في وسائل الاتصال و تطور وسائطه التي لا تعرف التوقف في تحسن أدائها من ناحية أخرى. في ظل التحديات الأمنية العالمية القائمة حاليا بسبب الإرهاب الذي هو بالأساس من نتاج الفكر الاستعماري للغرب تماما مثل تجارة السلاح و المخدرات التي أقامها أول مرة و رعاها الغرب نفسه، تسعى الحكومات والقيادات الأمنية في جميع أنحاء العالم المتضررة من جراء كل ذلك نحو إيجاد سبل تمكنها من حماية تعزيز أمن بلدانها القومي في السياق الأشمل لتعزيز الأمن العالمي و قد أصبح مرتبط الأجزاء نتيجة العولمة، الأمر الذي يتطلب التعاون في مجال البحوث والخبرات من أجل مراجعة التدابير والتشريعات الأمنية القائمة بهدف مواجهة التهديدات الأمنية والحفاظ على السلام والأمن في جميع أنحاء العالم. من هنا أجمع معظم الخبراء الاستراتيجيين و الجيوستراتيجيين على معادلة أنه “لا تنمية بدون أمن و لا أمن بدون تنمية” و على أن المصطلحين المفاهيميين متلازمين في النهاية. إذا كان الأمن تعبيرا شاملا ينبني على مجموعة الأسس والمرتكزات التي تحفظ للدولة تماسكها واستقراراها، ويكفل لها القدرة على تحقيق درجة من الثبات والمنعة والاستقرار في مواجهة المشكلات، ليس فقط في مجال الأمن والسلامة، ولكن في مختلف مجالات و مناحي الحياة من ناحية، وإذا كانت التنمية تقصد المنهجية العلمية باستخدام تقنية المعلومات لتلبية احتياجات وأهداف محددة من ناحية أخرى، فإن الإستراتيجية الأمنية وإستراتيجية التنمية هما صنوان، وكلاهما يخطط ليحقق أهداف الإستراتيجيات الأمنية والتنموية التي أضحت تعرف ربطا و اصطلاحا بـ”الأمنوتنموية” متوسطة وبعيدة المدى، للوصول إلى أمن مستدام وتنمية مستدامة، فالتنمية شمولية في مساراتها سواء أكانت علمية أو سياسية أو اقتصادية أو تجارية أو صناعية أو صحية أو معلوماتية أو فكرية أو خدمية أو بوجه من غير ما ذكر. ولن تتحقق هذه الأمنية التنموية إلا في ظل إطار أمني وارف الظلال وشامل الغايات، يحقق لها الاستقرار، ويحيطها بسياج أمني يطبعه و يميزه الإبداع والابتكار والأصالة والمهنية، ويساعد على توظيف الطرق والوسائل والنهايات والسياسات المتبناة لتحقيق الأهداف المرجوة. و مما لا شك فيه أن طبيعة الإستراتيجيات الأمنية و التنموية تتطلب لتصورها و وضعها إيجاد كوادر أمنية شمولية ملمة بالقضايا الاقتصادية والمالية والفكرية والتجارية وغيرها حتى تستطيع مواكبة الخطط التنموية لتحقيق أهدافها و المحافظة عليها، لصلابة الرابط بين الأمن والتنمية ولأن التنمية تُعنى بتوظيف موارد الدولة لسنوات قادمة سعيا إلى تحقيق سعادة ورفاهية المواطن. و إنه هنا عند هذا الحد يأتي الدور المؤسسي العظيم لجهاز الأمن بكافة مكوناته و طاقاته وقدراته وإمكاناته ومهنيته لخلق بيئة أمنية مناسبة تساعد في الحفاظ على تلك المقومات وتفعيلها لنهضتها. و نظرا إلى أن التأثير بين الأمن والتنمية متبادل وارتدادي فإن الخلل التنموي وعدم تحقيق متطلبات المواطن يزيدان من معدلات الجريمة و يدفعان إلى الاستجابة لنداء المنظمات الإرهابية و تلك المنضوية تحت مظلة الجريمة المنظمة علما بأن إحدى المهام الرئيسة لقطاع الأمن هي منع الجريمة قبل وقوعها. لذلك فإن المؤسسة الأمنية مطالبة بالحفاظ على التفعيلة التنموية وسرعة تدفق مخرجاتها لتظل معدلات الجريمة في تدني عن طريق منعها قبل وقوعها و علما بأن العلاقة بين الأمن والتنمية في ضوء الإستراتيجيات الأمنوتنموية تزيد من حجم الاستثمارات وتُفعِل الاقتصاد، وتوفر الفرص الوظيفية، وتقلل من معدلات الجهل والفقر والمرض، وتساعد على التوسع العمراني، و تعين على بناء المؤسسات واتساع المرافق الخدمية، و تحقق بالنتيجة الرفاهية المنشودة و العدالة الاجتماعية والجغرافية التي تسعى جاهدة القيادة السياسية الراشدة لتحقيقها. و طبعا فقد تتعرض الإستراتيجية الأمنية وإستراتيجية التنمية لأزمات منها السياسي أو الاقتصاديي أو العسكري أو الأمني، أو بفعل كوارث طبيعية أو كساد اقتصادي، تؤثر في المسار والمنهج المتبعين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، الأمر الذي تكون آثاره بمثابة فحص واختبار معياري لمُعدي تلك الإستراتيجيات في وتوقعاتهم، وحساباتهم للمتغيرات المستقلة و مدى متابعتهم الحثيثة للجهات التنفيذية لتلك الإستراتيجيات. ولأن البطالة تشكّل ظاهرة عالمية عولمية، سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي أو الدولي، فإنها تشكل أكبر تهديد للأمن و إن آثارها مدمرة على كافة المستويات والأصعدة و المداءات مما يؤكد على أن أول أهداف إستراتيجية التنمية يجب أن ينصب على التقليل من نسبتها، خوفاً من مخرجات وآثار زيادة معدلاتها، و من إخلالها بكافة المساقات الأمنية. و البطالة لا يمكن من هذا المنظور الواضح أن تظل موازية لعبث الطبقات البرجوازية و النافذة المتخمة بأموال البلد نهبا و اختلاسا و تبذيرا دون محاسبة أو توقيف. كما أنه من غير المقبول أن تظل متفشية بشكل كبير و غير عادل بين أوساط الفئات الهشة من المواطنين و منها التي لا تزال ترزح، في خروج سافر على ضوابط الإنسانية، تحت وطأة القهر المعنوي و تسلط النظرة الدونية التي تهدر كرامة ابن آدم و قد كرمه الله و استخلفه في الأرض. و تعتبر البطالة في الدولة المدنية في طليعة أسباب الفقر الذي يشغل عن التعليم و يولد اليأس و يبعث إلى الكراهية و يدفع إلى التمرد و يوجه إلى الإرهاب و الاتجار بالمخدرات في انفلات تام من قبضة القانون و النظام، و يوسع دائرة التسيب الأمني داخليا بإذكاء النعرات الاثنية و تأجيج المطالبات الفئوية، و إقليميا و دوليا بالالتحاق و دعم الحركات الإرهابية و دوائر الجريمة العابرة للقارات. الأمن والأمان نعمتان لا يدرك أهميتهما الكثير من الناس و لا يتأتيان إلا بحزم الحكام في التوجه إلى نشر العدل بين مواطنيهم على أساس المواطنة وحدها علما بأنه بفقدان الأمن أو تزعزعه تتحول شؤون البلدان إلى مخاوف و يدب القلق و ينتشر الجوع و تتفشى الأوبئة و الأمراض النفسية و يتفكك النسيج الأسري و الاجتماعي و يتعرض الكيان للتهديد و يضيع المستقبل و تهتك الأعراض و تنهب الأموال و تضيع الخيرات و يخدش المعتقد و تهتك حرمته و تغيب غايات ودعائم المجتمع و تنهار كل وسائل الاستقرار. كما أن الأمن والأمان هما أساس الاقتصاد والتنمية والتقدم والازدهار و ضمان العدالة الاجتماعية والجغرافية. و إنه لا يختلف اثنان على أن الأمن هاجس بالغ الأهمية لكل شعب ووطن ومجتمع، ومطلب اجتماعي إنساني باعتباره عصب الحياة و بغيابه تزول مقومات هذه الحياة لتصبح بدون طعم أو معنى. فعندما تصبح الأوطان مهددة بالفتن ومهددة بالزوال يطاردها شبح الخوف، تفقد الحياة قيمتها ومعناها في نفس الإنسان، وتتحول إلى شقاء وعذاب تحت أهداف العابثين بأمن بلدانهم واستقرارها. و إنه لمن أبشع صور الخوف وضياع الأمن أن تتمزق الأمة وتنحل وحدتها ويضيع أمنها واستقرارها بفعل حسابات الشرائح و الطوائف و القوميات و المذهبيات و الفئات وما ينتج عنها من تسيب أمني و عبث بالوطن و حوزته الترابية و وحدت أهله المصيرية. و إنه من السذاجة بمكان أن يرى العاقلون المدركون لأهمية العدالة و الأمن ما يدور من حولهم و لا يسألون كيف أصبحت بلدان كثيرة حلبة صراع فيما بينها، فتكت بها الحروب والنزاعات بأيدي أبنائها، فأصبحت خرابا على خلفية و وقع التراجع والانقسام الداخلي والتوجس والمخاوف، و ضاع أهلها و قد سلبت أموالهم وانتهكت حرماتهم وهدمت بيوتهم و أهدرت كرامتهم حتى صاروا مشتتين و لاجئين في كل مكان بعيدين عن العيش الكريم في بلدانهم. و بالطبع فإن للإستراتيجيات الأمنية والتنموية، التي هي من ضرورات قيام “الحكامة” الرشيدة و بسط دولة المواطنة المهابة و لا غنى عن رسمها و المضي في تنفيذها، شروطا أهمها الاعتماد على الذات و إعداد المسؤولين الوطنيين المؤهلين و المحترفين لمقتضيات المتطلبات العصرية و مواكبة التقنية التي لا تتوقف عن التطور و بشكل سريع. كما أن الإستراتيجية التنموية مطالبة، و هي تسعى لتوفير المدخرات المحلية، بمراعاة الحفاظ على المستوى المعيشي للمواطن بما يصون له آدميته و يقدر كرامته، في ظل تنمية مدروسة و مستدامة، ترتكز على تحقيق العدالة الاجتماعية والجغرافية؛ الأمر الذي سيضمن بالنتيجة القطعية تحقيق التوازن الإستراتيجي المطلوب بين الإستراتيجية التنموية والإستراتيجية الأمنية.