الابتزاز عند الغرب.. السلاح البتار في وجه استقلالية القرار / الولي ولد سيدي هيبه
طالعنا البرلمان الموريتاني يوم الثلاثاء 23 دجمبر 2014 بتوصية أصدرها خلال جلسة علنية دعا فيها البرلمان الأوروبي إلى الابتعاد عن التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان.
و إذ التوصية قد أخذت بالإجماع فإنه بذلك يكون البرلمان قد سجل، بحس وطني رفيع و شجاعة استثنائية كبيرة في محلها و إرادة بالغة الوعي بقصد الإهانة و الإملاءات المبيتة و المساعي الجائرة للمجموعة الأوروبية، بموقفه الوطني المشرف الذي صنعه لنفسه خلال مأموريته الجارية و استنصاره الباهر للوطن بالتأكيد على ضرورة الحفاظ و الدفاع عن استقلاليته في اتخاذ قراراته و تسيير شؤونه السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و في ترتيب بيته الداخلي بما يمليه دستوره و تحدده مسطرته القانونية و الأخلاقية التعاملية و تصوغه شريعته الإسلامية السمحة. و قبل ذلك فقد اتخذ الرئيس ولد عبد العزيز موقفا صارما و واضح معالم الاستقلالية في القرار صرح به خلال مؤتمر صحفي عقده في قصر المؤتمرات على هامش قمة دول الساحل الخمسة التي أعقبت قمة مسار نواكشوط معلنا فيه رفضه الصريح للتوصيات التي تقدمت بها المجموعة الأوروبية حول شؤون بلده الداخلية في صيغة أقل ما فيها أنها لم تلامس بأي شكل من الأشكال روح التشاور و تقريب وجهات النظر التي تسمح بها الدبلوماسية الناعمة المرنة و إن كان معلوما أيضا أن الحيز و منه الزاوية الارتكازية التي يجري فيه ذلك جد ضيق بحكم وجوب استقلالية كل بلد في قراراته التي تحدد مساراته و تحفظ توازناته و تؤمن استقراره و تلبى حاجيات تنميته. و هو بذلك التصريح قد أعطى ردا صريحا و حدد موقفا مجلجلا و وضع الأمور في نصابها كما أعطى إشارات واضحة للشعب الموريتاني بأن ثمة حدودا لا ينبغي لأي كان أن يتجاوزها حيث هي شأن يصونه البلد و هو مستند إلى المواثيق و المعاهدات الدولية التي وقعها و يعمل بمقتضاها و منها ما ورد في ميثاق الأمم المتحدة بأنه لا يحق لأية دولة أو مجموعة من الدول أن تتدخل بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولأي سبب كان، في الشئون الداخلية والخارجية و كذلك لأية دولة أخرى؛ و لكن أغلب الدول الغربية ما زال يتصرف لأسباب جد متناقضة بمنطق الاستعمار الذي أزاحته شعوب دول العالم عن كاهلها بفضل النضال و الكفاح المسلح الضاري، و لما كان أمر خروجه قد جرى بالقوة فقد عمد على استبدال الاستعمار المدحور بـ”استعمار جديد” ماكر اعتمد الحيل و المغالطات و الضغوط الاقتصادية و إذكاء النعرات الطائفية و الخلافات الايديولوجية لتفكيك أواصر الشعوب و إبقاء إمكانية الحد من خطورة تفجيرها بيد “بيادقه” و في متناول تدخلاته و إملائاته. و هو الاستعمار الذي استطاع أن يحفظ لهذا الغرب الذي يتهدد الأفولُ هيمنتَه، تلك القدرة الفائقة على إشعال الفتن و النزاعات و الحروب في الشرق الأوسط و في القارة الإفريقية و التدخل في الشؤون الداخلية لدولها و استسهال استنزاف مقدراتها الكبيرة دون إفادتها منها إلا بالقدر الذي يضمن تبعيتها و الاحتياج الدائم إليها. و في هذا السياق بالتحديد فإن الشواطئ الموريتانية و ما تزخر به من ثروة سمكية كبيرة و نوعية ظلت إلى عهد قريب فضاء حرا تمرح فيه أساطيل بواخر الغرب تنتقي منه ما تشاء من الرخويات و الحيتان و الأسماك و تدفع ما تشاء من قليل المال و تؤدي من ضعيف الصيانة للبيئة البحرية و قليل المشورة الفنية للقائمين على القطاع و يسير الاستثمار في مجال الصيد عموما و استغلال مقدراته عموما. جوقة ظلت تقرع طبولها و تصم الآذان عن القول برفضها حتى كان إدراك ذلك منذ سنتين أو ثلاث مع تبلور وعي جديد بأهمية إعادة النظر في كل الاتفاقيات المجحفة التي يقدم بنودها و اشتراطاتها و تفاصيل تنفيذه المجموعة الأروبية وحدها تستحوذ بموجبها على الثروة السمكية و تلقي بفتات موائدها منه إلى بيادقها في الدولة من المرتشين و العملاء و العراة من أستار الضمير، فكانت الصدمة الأولى. و لما أن الغرب كان يعلم حاجته إلى هذه الثروة التي وهبها له ضعف السياسة المنتهجة قد أدرك أن عهد الغفلة قد ولى و أن مدركا جديدا قد أزال عن عينيه غشاوة العمى، فإنه دخل في مفاوضات أحس فيها برياح نفس ارتدادي و صرامة وليدة تقدر الموقف و تقف عند المصالح كاملة بمهارة ربان يحسن الإبحار. و مضت مرحلة و جاءت بعدها أخرى تتطلب تجديد العهود على قياسات التغيرات الجديدة و مواكبة المستجدات على خارطة الأسواق و سياق التبادلات الناتجة، فكان لزاما على الدولة أن توائم متطلبات المرحلة و تحافظ على التوازن و الندية و المساواة في تقاسم منصف للمصلحة. و لكن إصرار موريتانيا على أن يتم التفاوض على أسس الندية التي يفرضها طبيعيا واقع الأمر و سجية الأشياء و من منطلق إدراك حيثيات هذا التفاوض و القدرة على المناورة العلمية المتسمة بالمسؤولية للوصول إلى إبرام اتفاق متوازن لا يهدر مقدرات البلد و يضمن للطرف الآخر تموين سوقه من الأسماك و غيرها في حدود المسموح به من الصيد البحري، جعل المجموعة الأوروبية تدرك خطورة المنعطف على نفوذها الغاشم و مصالحها السهلة في حظائرها المحروسة مما يستدعي الرد بقوة. و طبيعي أن تكون القضايا الحساسة الداخلية للدول المستهدفة، بردات الفعل الانتقامية أو الابتزاز الممنهج، بؤرَ حمل الأذى و تحريك المياه الراكدة و خلق منصات إطلاق البلابل و القلاقل و الاضطرابات الأمنية و من ثم فتح أبواب التدخل السافر و اتخاذ القرارات و تصدير الأحكام. و طبعا فقد جاءت توصيات المجموعة الأوروبية في أعقاب ما أبان عنه الموفق الموريتاني، من صلابة في المفاوضات و رفض جازم بتسليم زمام الأمور و القرارات النهائية للطرف المفاوض، لتثبت عدم براءتها من أنها كانت دون أدنى شك ردة فعل عارية اكتست طابع الابتزاز و خلط الأوراق لإضعاف موقف الطرف الذي أصبح خصما عنيدا بعدما دافع عن مصالحه و مقدرات بلده السمكية.. ليس إلا. و هذا لا يعني مطلقا أن القضايا الوطنية الداخلية و البالغة الحساسية التي يعاني منها البلد حقوقية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية لا تلقى ما تستحق من المعالجة الفورية العادلة و الرصينة و أن لا تحصل مطلقا في أجواء تطبعها الشفافية و الديمقراطية حتى يتبين فيها الغي من الصواب و تفضي بنهاياتها إلى ما تستحقه البلاد من الطمأنينة و السكينة و العدل و هي التي تتهددها، بفعل عوامل الجهل و التخلف و صمود أوجه من الإقطاعية و الرجعية، أشباحُ تدهور أمني لا تخفى بعض ملامحه و إرهاصاته الخطيرة و كذلك اتساع شروخ غائرة في النسيج المجتمعي تجسدها المطالب الفئوية المتنامية و الهوة السحيقة المتسعة باضطراد بين الأغنياء و الفقراء و استعصاء السيطرة على الأنسجة “المفيوزية” المتعاطفة مع بعضها في وجه آليات التفتيش و المراقبة و الرصد و المحاسبة على خلفية اعتبارات “هجينة” جديدة توائم بين القبلية و العشائرية و الإثنية بزعاماتها الأسرية و رموزها و وجهائها دون الغالبية منها، و الطبقية بانتقاء أبرز الرموز فيها و الواعين بواقع الأمور و فسادها و ما تسببه من سباق محموم إلى النهب و التبذير و فساد المال العام في غياب تام للوازعين الديني و الوطني.. أو ليس متسع من الأسباب تشكل حوافز لا ينضب معينها لغرب يفعل كل شيء للحفاظ على مصالح فقط .. ويعمل بمقتضى أنا و من بعدي الطوفان؟