محمد ولد عبدي.. رحيل قامة
لا شيء أكثر صعوبة من توديع الرموز التي لا تتكرر.. لكن الأصعب هو البحث عن كلمات وجمل مناسبة تصف ألم الفراق وقيمة الرموز الراحلة ولسان الحال يلهج:
أيا شجر الخابور مالك مورقا**كأنك لم تجزع لابن طريف
كثيرون سيجدون أنفسهم أمام هول الصدمة في محطة عجز مستطير، تراودهم الحسرات المفترسة وينهشهم الأسى الكاسر فلا يجدون غير الزفرات والآهات.. تعززها التنهدات والعبرات .
آخرون سيطلقون العنان لما يعرفون من مفردات اللغة أملا في إسعافهم للتعبير عن هول الفاجعة .. وعن ما يستحقه الراحل من وصف وتشييع. أنا أحد هؤلاء.. فاعذروني إذا اصطدمت كلماتي بقوة الحدث.
حالي كحال كثيرين من أبناء وطني وهم يودعون أحد أبرز رجالات الفكر والثقافة والأدب الدكتور محمد ولد عبدي رحمه الله وهو يوقع “كتاب الرحيل”.
رحل بعيدا عن وطن كان يسري في دمه ويؤمن به حتى الجنون يعشق “البلاد السائبة” ويكتب عنها ولها أروع ما سطرته أنامله ..رغم فراقه الطويل لم يغب عنه الوطن ولم يفارقه .. فكان ملازما له أكثر من ظله.
لم تشغله “فتنة الأثر” وملاحقة خطى الرحالة بن بطوطة عن رمال وطنه، وعن مضارب قومه.
بالتأكيد فإن الدكتور محمد ولد عبدي يعرف جيدا ويحفظ مقولة المتنبي:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا**أن لا تفارقهم فالراحلون هم
وبما أن العظماء لا يختزلون جهودهم في رقعة واحدة أو زمن واحد كان الدكتور محمد ولد عبدي رحمه الله أحد المشرفين على إعداد أكبر موسوعة إلكترونية للشعر العربي.. فخدم بذلك لغة القرآن خدمة جلى ستبقى محفورة بأحرف من ذهب.
لم يحاسب وطنا هجره بحثا عن لقمة عيش كريمة بعد أن اختلط حابل القيم بنابلها .. ولم يعد الخيرون والمخلصون والرافضون لسنة التملق والكذب والخداع والحبو في بلاط الأنظمة يحسون ذواتهم داخل الوطن .. إما أن يسيروا في الركب “المترحل” فينسلخوا من مبادئهم أو أن يترجلوا ويستسلموا لشظف العيش والرضى بالحياة على الهامش وهي أمور لا يفقهها العظماء.
وإذا كانت النفوس كبارا**تعبت في مرادها الأجسام
لم يزج بأنفه في أتون سياسة لاتحترم نفسها. ولم يبادل الساسة المحليين مواقفهم المتناقضة والانتهازية والمغشوشة في أغلب الأحيان فأثر السلامة من مادة ساسيسوس ومشتقاتهما وفضل الغوص في”فكر و”يفكر”.. لذلك لم يؤثر عن الدكتور أي موقف يمجد هذا الطرف أو هذا الشخص أو يغاضب ذلك ويتقرب لخصمه بالهجوم عليه والتطاول على جنابه كما هي شنشنة بعض سدنة الفكر والثقافة في بلاد “المليون عجيب”
نأى بنفسه وآثر اتباع خطوات الشاعر:
إن السلامة من سلمى وجارتها** أن لا تمر بواد حول واديها
كان حرصه على أن يكون أخا للجميع وراء بشاشته التي لاتفارق محياه .. حتى وهو على السرير الأبيض يعاني ما الله أدرى به من الآلام والأوجاع كان يحاول مجاملة زواره –وقد امتلأت أروقة المستشفى بالجالية الموريتانية وأصدقائه وزملائه من البلدان الأخرى – في لحظات الإفاقة القليلة ويتكلف الحركة لإظهار الفرح باستقبالهم كما عود زواره وملتقيه ..
حاول أن يمد يديه نحوي وأن يتحدث قلت له لا داعي لذلك .. أنا أعرف خلقك الرفيع … وبشاشتك المألوفة .. لاتتعب نفسك.. فقط جئنا للزيارة ولندعو لك… وحدثني المحيطون به أنه يفعل الأمر ذاته مع كل الزوار ما وسعه الجهد رحمه الله ونحن مؤمنون بأن أول ما يوضع في الميزان حسن الخلق.
كان الدكتور محمد ولد عبدي ذو الخلفية القومية المتشبع بضرورة تتبع المنهج الإسلامي النقي صادحا ومتأثرا بقضايا الأمة فكان شعره مرآة عاكسة لقضايا وطنه ولقضايا أمته وبرحيله ستفقد موريتانيا أحد الذين فرطت فيهم ولم يفرطوا فيها. وستبقى مؤلفاته وبحوثه نبراسا يضيئ للأجيال القادمة..
رحم الله الدكتور محمد ولد عبدي
أحمد أبو المعالي
كاتب وشاعر موريتاني مقيم في الإمارات