الوحدة الوطنية.. رهينة الفكر المستلب و الإعلام المبتذل / الولي ولد سيدي هيبه
من وقت لآخر تنبري بعض وسائل الإعلام و أطرها المنظمة و الموجهة، الأكثر حضورا على الساحة العملية بمهارات مختلفة و وسائل المختلفة المنابع و المتباينة الخلفيات، فتنظم تظاهرات تأخذ أشكالا و ألوانا متراوحة على الأغلب الأعم بين الندوات و المحاضرات و النقاشات و الحوارات المفتوحة التي تتناول على ما تعلن مستجدات السياسة و مسارات الحراك الحقوقي المتسع المدارك و الذي أضحى أهم أوجه ديناميكية الساحة الوطنية و مسبار عمق يم التحول القادم و بوصلة الإبحار في مجاهله.
و هي بذلك النشاطات التي تندرج إذا في صميم الرسالة الإعلامية لعلاقاتها الوطيدة بتطورات الأحداث و إشكالات التحول التي تعيش البلاد على وقع وتسارع نبضها في عالم ضج بها من حولنا، و ما ترميه على واقع الحال هذه الإشكالات كذلك من سحر تأثيراتها الناتجة عن ضآلته عالما صار كالبيت الكوني بعدما كان في نهاية القرن المنصرم بحجم القرية على أقل تقدير سمح به إذ ذاك منطق الأشياء في تطورها و جلاء صورتها. و مما لا شك فيه مطلقا أن الأعلام الهادف يستطيع أن يكون ركنا أساسيا في بناء الدولة و أن يساعد على تطويرها إذا أحسن استخدامه في تقديم الرسالة الوطنية الوضاءة الناجحة في مجتمع ينشد السلم و يتحسس طريق الوصول إلى الوحدة الوطنية و الحفاظ عليها بعيداً عن المنازعات المتطرفة و التقوقع أو الانحياز أو التكتل الفئوي أو أي توجه آخر معين في ذلك على حساب الصالح العام من ناحية، وأن يتعامل مع الظروف التي تمر بها البلاد ويواجه المتغيرات الداخلية والخارجية التي تعصف من كل مكان بما يفترض به في حالة النضج و السيطرة أن يكون مقومات البقاء مختزلة في التماسك و اللحمة من ناحية أخرى. و بديهي أن موريتانيا بحاجة إلى مثل هذا الإعلام الذي يساعد على حل مشاكلها و يفك عقد قضاياها و يشكل دافعاً إلى نبذ الخلافات وتأصيل مبدأ الوحدة الوطنية بالدعوة إلى تماسك أفراد المجتمع علما بأن الظروف التي تمر بها بحاجة هي كذلك إلى إعلام غير مبتذل يعمل على الارتقاء بمستوى الوعي العام للمواطنين و رفع مستوى الثقافة الفكرية للأفراد والمجتمع، والالتزام بقيم المواطنة الحقة التي تحافظ على كيان ووحدة المجتمع و تسعى إلى تعريفه بحقوقه و واجباته اتجاه الدولة والمجتمع و ترسيخ مفاهيم وقيم التعامل والتسامح واحترام الآخرين والتعايش السلمي بين جميع أفراد المجتمع الواحد على اختلاف مكوناته وأفكاره وتوجهاته في ظل وحدته المعتقدية. و هو الإعلام الذي يجب أن يدفع أيضا بالمشاركة المجتمعية وتقدير العمل والانتماء والولاء للوطن على قاعدة أنه “لا هوية وطنية بدون وطن” متماسك يدرك أهله أن تنميته و تطويره يحتاجان إلى الكثير من العمل والجهد المشترك في ظل المتغيرات والمتطلبات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتكنولوجية التي لا تهدأ على الساحة الإقليمية إفريقيا و مغاربيا و إسلاميا و أيضاعالميا. من هنا يتحتم على الإعلام الملتزم أن يعمل على مواجهة المتغيرات بهدف نشر الاستقرار والدفع إلى الأمام بالوحدة الوطنية الداعية إلى التفاعل الايجابي بين أفراد الأمة بكل لون طيفها، بعيداً عن التفاعل السلبي والتشنجات و التعصبات والانحياز أو الميل إلى تقديم المصالح الأنانية على المصالح العامة. صحيح أيضا أنه خلال السنوات الثلاثة المنصرمة حدثت تطورات ايجابية وسريعة تعلقت بتحرير الفضاء السمعي البصري في البلاد أوصلت إلى ظهور العديد من القنوات الفضائية المحطات الإذاعية و طفرة في المواقع الالكترونية و الصحافة الورقية و ارتفع سقف حرية التعبير عن الرأي و زادت الحريات و الاستقلالية الفكرية في حقل العمل الصحفي والتغطية الإعلامية الشاملة. و مع ذلك فإن هذه التطورات الإيجابية، و التي كانت منذ نشأة البلاد مطلبية بالدرجة الأولى للوجه الإعلامي للبلد، لم تدفع بالوحدة الوطنية وتأصيل قيم المواطنة لأفراد المجتمع إلى أي مستوى من التحسن يحمد لها و يقدر لحسابها، بل إنه على العكس من ذلك قد وقع أغلب هذه الوسائل و الأطر الحامية لها من روابط و نقابات و تجمعات في شراك “الجشع المادي” و”التبعية الفكرية والسياسية” و انصاعت لغرائزه حتى باتت مستلبة و باهتة العطاء في الدائرة الضيقة للسياسيين و الحقوقيين و الانتهازيين المهيمنين على معطيات و مخرجات واقع الأمر المرتبك و في ظل ظروف تميزها بشدة استماتة الكل في السعي إلى فرض فكره و نفوذه و استماتته في السعي إلى السلطة للسلطة. و إن هذه الوضعية المتخمة بفعل اتساع دوائر الفكر الحاد المتشنج و المتعصب في الطرح لحد التطرف هي التي أضعفت و ميعت إن لم تكن غيبت دور الإعلام و سلطت عليه سياط أطره الناظمة و الموجهة من “النقابات” و “التجمعات” و “الروابط” و “الاتحادات” ثم كرسته للابتذال و البعد عن لالتزام و فتحت كل أبوابه على “التكرار” الممل في الأداء الرخيص و في تقديم نفس “الأوجه المستهلكة” و إعادة صياغة “ذات المناسبات” في الشكل و جمود و تحجر ” المضمون و الطرح” المتجاوزين بعيدا عن الأخذ بضرورات المصاحبة الجادة للمستجدات المعلنة وغير المعلنة ومتابعة المشاكل والأزمات السياسية و الاجتماعية و الحقوقية و الاقتصادية المختلفة. و إنما بذلك فقد ابتعد هذا الإعلام المُحَررُ فضاؤه والمُتحررُ في عطائه عن إيجاد التوازن المنشود بين الحرية والمسؤولية الإعلامية و نبذ وتيرة العنف اللفظي في الرسالة الإعلامية من ناحية، و عن وضع إستراتيجية إعلامية وطنية تعمل على تحديد الخطاب الإعلامي و إتاحة الفرصة للتعبير الحر و احترام الرأي الأخر وعدم المساس بالكرامات و البعد عن التجريح والتشهير بالإفراد و المجموعات و الابتعاد عن التمييز والكراهية وعدم احترام حقوق الإنسان وانتهاك مبدأ المواطنة وتمزيق وتفتيت أواصر الشعب وشق الصف وضرب الوحدة الوطنية. و إن الإعلام مطالب بشدة في هذه المرحلة الدقيقة و المنعطف الخطير أن يتخطى كبوة القيام و يتحرر في محرابه الطاهر من سطوة الزندقة و ربابنة سفنها الذين لا ينشدون له بر الأمان، كما أنه مطالب بأن يستكشف و يقدم أوجها جديدة و سليمة من شوائب التعصب و الرجعية و ضبابية الفكر للنقاشات الجادة و التصورات و الحلول العملية لقضايا المجتمع و الدولة الكبرى و منها الوحدة الوطنية المشتهاة و الضائعة في سراديب التنظير العقيم و إعلام المداراة و الابتذال و التلميع المصطنع و في ملامح و تجاعيد المبتذلين من فرط تكرار أنفسهم و يأس الآخر من مقدم مددهم في التسويات و إبعاد الأزمات و شبح نتائجها على السلم و أمان و عدل الكيان و رقي أهله في وقت يحتاج فيه البلد، الذي يغلي مرجل التحول فيه على نار ثورة الوعي على المرجعية الإقطاعية و وهم الإبقاء على مرتكزاتها، إلى إعلام يرفع التحدي و يعتمد على ذوي الإبعاد الثقافية والفكرية المحترفين في وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، القادرين على أداء دورهم الإعلامي بمهنية مستوفية كل شروطها في مجالات الإعلام المختلفة حتى يكون إعلاما لماحاً وسريع البديهة يتمتع في آن واحدة بنظرة شمولية وتخصصية و الاستقلاًلية و بالموضوعية في النقل والطرح و المعالجة و المحاورة، وأن يحترم القواعد والأسس المهنية التي تسعى إلى المساعدة في تأمين الاستقرار للبلد ونبذ الانشقاق والتطرف في المجتمع و التحفيز و الدعوة إلى الدعوة إلى الوحدة الوطنية بيت القصيد.