محمد ولد عبدي : صبر المؤمن، وحسّ الشاعر، ورصانة المفكر
حين تُراجع الأمة يوما ذاتها ولو عرَضا ستعترف بذلك وستتألّم. في حياته، في شعره، في سرده، في فكره ونقده، في عمله اليومي، والسنوي، والأبدي، يمثل المرحوم الدكتور محمد ولد عبدي أُمّة وحده. ظلّتْ وحدةُ أبي ذرّ اسما جامعا لوحدته، وصْفا وجيها لفرادته. وكان يعي ذلك ويدركُ كلْفته. يفصح عما يجمعه بأبي ذرّ بألم حتى في الاستشهادات التي اعتاد أن يُصدّر بها أعماله. لذلك مثلتْ أسماء كأبي ذرّ، وولد امسيكة , ومحمود مسومة أكثر الأسماء وورودا في شعره ونصوصه .
قد تقال أشياء كثيرة عن الراحلين كما عن الأحياء. ولكن محمد ولد عبدي رجل يتجسّد فيما يقول هو نفسه : ” كيفَ لاسمِكَ أن يُعدَ ؟ وأنتَ مِيمُكَ مَيسَمُ المنفىَ ، مَراثِي المَنكبِ الغربيِّ ، مَجلَى الرَّمل يَضربُه محارُ العمر . حاؤُكَ حَيرةُ الصّحراء ، حاراتُ الصَّفيح ، حكايةُ البحر الأُجاج . كأنَّ مِيمَك – يا محمد- ماءُ من ماتوا بِلفح الرِّيح في تلكَ الرِّمال الشُّعثِ.” (“سيرة”) محمد ولد عبدي هو الاسم العلم لزمن مؤسِّسٍ إبداعا وفكرا، زمن لا يمكن أن يسمى بغير اسمه. منذ بداياته يحمل همّ الكشف الابداعي والمراجعة الفكرية بصبر المؤمن، وحسّ الشاعر، ورصانة المفكر. همّه تأسيس البدايات الصلبة، مفردات ومفاهيمَ. لم يكن معنيا ببنت السلطان ولا ببنت زعيم التجار. واجبه أن يهدي الشموس أولا وأخيرا إلى اللواتي لا يعرفهن أصحابُ القصائد العصماء واللغة الفخمة : “أرَى بناتٍ قد سُبينَ وهنَّ يَملأنَ الجرارَ من الغديرْ أرى صبياً عُصِّبَتْ عيناهُ مشدوداً براحلةٍ تَقَطَّعُ أمُهُ حُزنا عليهِ وحينَ شبَّ عن الدُّموعِ بَكَى فردَدَ شَجْوَهُ نايٌ يُقاسِمُهُ الحَنِينَ ضُحًى وراءَ قطيع سَيِدِهِ الضّريرْ” (“شقاق الطين”) هكذا انحاز للمضطدين والمظلومين والمشردين. يقول ما عليه أن يقوله شعرا، ويقوله فكرا، ويقوله صمتا. انحاز للإيمان والكرامة. كتب إليَ مرة (23 مايو 2004 : نص الرسالة وإجابتي ملحقان في آخر هذه الأوراق) :” اخترتُ الصمت، قابضا على جمر ضميري، رافضاً إغراءات سوق النخاسة، مستنكفا أن يقرأ ولدي عبادة ذات يوم أنى اشتركت في ضيم أو أعنت عليه. هكذا أنا في وحدتي، منكفئا على قلب أضناه الفراق : فراق الأهل (أبوي وأخوي) الذين سافروا إلى العالم الآخر بلا أوب عسى الله أن يتغمدهم برحمته، وفراق الوطن الذي ما عاد للشعراء والصعاليك أمثالي و أمثالك فيه مستقرٌ.” ظلّ يصرّ أن تستبقي هذه الأرض نخلها وفستقها، شواطئها وتلالها ولكنه ظل يدرك أن المنكب البرزخي مصاب بجيوب الملح وخيمه. محمد ولد عبدي يعرف أن الصحراء أرض الزرقة والحقّ ولكنها أيضا وفي غفلة من الزمن أرضٌ اختطفها “طفح الطين” وحاصرتها السباخ ” لحد كان يُقوَّم فيه الإنسان ذات يوم بمقاس نعله من الملح، تلك المادة التي تفقد الأرض/ الأم/ الحياة، خصوبتها وتدفعها إلى التصحر والعقم، وتقضي على كل أمل في الحياة والنماء والتقدم.” (كما كتبَ الدكتور محمد عبد الحي في إضاءته على رائعة عبدي “شقاق الطين”). وَلدْ عبدي بحث لهذه الأرض عن أنسنة أولى، عن زمن عذري أول. عن لحظة استهلالية قبل الاغتصاب، تجد فيها الأرض قدرة أولى، وطاقة أولى، ومجدا أول، تجد فيها ما به تؤسس لأفق آخر، ووجهة جديدة، وفضاء جامع : “كانت قبل طَفْحِ الطِّينِ مُنْتَبذًا يلوذُ بها الذين تعلقوا بالشمس من ظلِّ الطُّغاةِ” (“شقاق الطين”). جمعتنا أشياء كثيرة منذ أواسط الثمانينات. جمعتنا سياقات وظروف متعددة. ثمّ دار الزمن. ولكن بعد أيام أو بعد عقود : محمد ولد عبدي هو محمد ولد عبدي. هو كما عرفته أول يوم وآخر يوم : رجل إيمان، رجل عدل وحقّ. ظلّ وفيا لخياراته الأساسية كما هي حتى النهاية. لم يملّ من الاشراق : “هو الشعب أرض، هي الأرض شعب، هما الشعر…”. بقي إنسانا. بقي إنسانا ضروريا لهذه الأرض وللأرض. إنه رجل هو الإيمان حيث يتجسد الإيمان في ثلاثة : رجل إبداع، ورجل فكر ورجل تخطيط. ولد وعاش وتوفي كريما شامخا لم يهتز ولم يتأرجح. منذ أسابيع وهو في باريس وقد عَرفَ رأي الأطباء، أدركتُ من كلامه معي حول أشياء معينة أنه أخذ يودع هذه الدنيا. كان يقول جمله أحيانا بالفصحى على غير عادته في أحاديثنا الخاصة. قد عرف حينها ما لا أعرف مما به له باح الأطباء. شعرتُ بالقلق وأنا أبحث عن كلمات تناسب الموقف. وظلّ يتحدث بهدوء المؤمن الحقيقي وسكينته العميقة. يشكر الجميع ويذكر الجميع بخير. كثيرون عرضوا عليه بكرمٍ خدماتهم في باريس، ثمّ في تونس. ولكنّه فضّل أن يعتذر بلباقة. ظلّ وفيا لنفسه، كريم النفس بطبيعته. كانتْ إجابته للجميع أن مؤسسة عمله “تكفلتْ بنفقات العلاج”. جسّد ويجسّد محمد ولد عبدي أجمل ما في تلك الأرض. أعطى حتى آخر لحظة. دون أن ينتظر شيئا من أحد ودون أن يقبل شيئا من أحد. ودونه أنْ يّذكره أحد. حتى الذين جنّدتهم التفاهات في حقبة ما ضدّه وجدوا فيه الأخ المعين حين لجأوا إليه. عزائمه أعظم من أن تحاسب أصحاب الحسابات. *** نعمْ، رجل على قدر عزائمه التي لا تقبل النزول. أراد للغة أن تقول ما لم تقبل أن تقوله من قبل. وأن تضيء من لم تكن تراهم. وأن تسمي من لم تكن تعرف لهم أسماء. وأن تصف ما كانت تحسبه العدم في حقل الصفات. كان المجرب والرائي. يريد الأفكار والصور أن تكون حركة وإنشاء لا استعادة وتكرارا وتبويقا. يريد للغائب أن يحضر. محمد يرغم اللغة على أن تستعيد طاقتها وضمائرها ومضمراتها المنفية وأن تتخلى عن حشوها وتمدداتها المخملية. ” مرة لأني رأيتك وأخرى لأنك ستغيبين ” هكذا جاء في نُسخة قديمة لقصيدة سيكتبها شاعر .” (“مخطوطة”) اللغة ارتباط وتواصل وتضافر. مع الذات ومع الآخر. لذلك يلزم استخدامها لتدمير كل حدود تُواجه هذا التضافر. وأولها الحدود والفخاخ الذاتية، تلك التي يمكن أن تخلقها اللغة نفسها مذ عرفتْ تفكّكها البابلي. يلزم إعادة اختراع المفردات لا لتشكيل معجم داخل المعجم، بل لتكوين معجم يجمع كل المعاجم. حين نشرَ رائعته “شقاق الطين” منذ أربع سنوات كتب إليَ (20 فبراير 2011) بلُغته العذبة المترعة دائما بالمحبة.
د.محمد بدي ولد أبنو