يوم في حياة ولد الرّايس
لا يُستبدَلُ محافظ البنك المركزي كلّ يوم. وتحديداً لا يُستبدَلُ بعد أشهر من تجديد مأموريته. ولاحظ/ي أننا مهذّبون، ولم نقل: يُجرّد. وكان الرايس نفسه يفرح بكلمة “التّجريد”، وهي كلمة استخدمها، كما عزيز، بجهل قانوني عجيب (كالعادة).
وحتى على عهد ولد الطايع عندما كان رئيس الدولة يُبدِّلُ الإداريين كلّ خمس دقائق ظلّ المُحافِظُ محترماً. وظلّ مقعده محترماً. وكان يُقال أن ولد ميشيل هو أكثر شخصٍ قداسة في الجمهورية. وأنّه كان يمشي في العاصمة مُظلّلاً بالغمام. وعندما جاء ولد الشيخ عبد الله جاء بنظرية تثبيت المناصب وجعلها مأموريات. وثارت ثائرة المحاصَصِيين، بما فيهم الرايس نفسه، الذي حجَبَ الثقة وانقلَبَ على حكومة هو عضوٌ فيها. وسيتم تذكر هذا الغدر بأنّه من أكثر الغدر فظاعة. ولولا نُطق الناطق باسم الحكومة ببيان الانقلاب عليها لكان أكثرَ الغدر مهزلة. ولكنّ وزيرا ًآخر سبقه بها.
ورغم أن وزراء الغدر وسياسي المحاصصة طالبوا بنظام لا يُجمِّدُ المناصب في مأموريات سرمدية (ما لم تكن مناصِبَهٌم هم) إلاّ أنّهم ظلوا يحترمون فكرة مأمورية محافظ البنك المركزي، بل وتقديسه. وهكذا ظهرت هالات حول رأسِ الرايس.
ولم يسقط الرايس ضحية عدم احترام مفهوم المأمورية. هذا تبسيط. وكما هو معروفٌ فإن ظريف نواكشوط قال أن واليّ نواكشوط أقيل عقوبه له على فعله الطفولي: أكل التراب. وليس ولد الرايس بأنضجَ منه. وهو، كأي طفل كبير، كان يأكل الحلوى. وهاهي المشكلة: كان يأكُلُها بنهم شديد.
كان البنك المركزي “أسيراً للصوص والنصارى”. فقد فرض النقد الدولي سياسة “الفائض”، رافضاً من الدولة إنفاقها الاجتماعي، وفي المقابل جعلَ من “التصحيح المالي” سلطة الدولة الاقتصادية الوحيدة. وهكذا صار الرايس أهمّ شريك للغرب وفي نفس الوقت أهمّ فاعل اقتصادي وفي نفس الوقت كان يجلس على كومة من الأموال التي لا يحقّ للدولة صرفها (تبذيرها، بلغة النقد الدولي). وهنا بدأت المافيا تعمل. فجأة ظهرت عشرات البنوك كالطحالب. بعضها أصفر وبعضها أحمر وبعضها يمشي على بطنه وبعضها أربعيني الأقدام وبعضها كاذب الأقدام وبعضها يتوالد ذاتياً وبعضها يندمج وبعضها يلطخ وجهه بالمساحيق ويُطلِقُ الرصاص، والوعود، كالجوكر. وبعضها طبعاً ملكٌ لمستحدثِ النعمة الذي ظهر فجأة من بيوتات القمار وأصبح، بمساعدة الجنرال ، فاعلاً اقتصادياً.
وكانت القصة أنّ الدولة، وهي مكتوفة الأيدي مالياً، أصبحت تودع أموالها لدى البنوك. وكانت البنوك تُشغِّل الأموال وتُعيدها. وهكذا تحوّلت الدولة إلى دولة مُضاربة. وقامت بتزوير عوائدها المضارباتية على أساس أنّها عوائد ضريبية. ولم يعد محافظ البنك المركزي يكتفي بالهدايا (والسجايا) البوعماتيّة، بل أصبح يعيش في فقاعات لاس فيغاسيّة. وكأي قصة “بوم” مالي فإن الأشرار بقوا سُعداء لوقت عندما كان الدجاج يبيض كلّ يوم. وبدا لوهلة أن الحَلقة الماليّة ستتجاوز أزمة بوعماتو، بل وصُنِعَ ازدهار مالي من تقاسم تركة بوعماتو، الأب القتيل.
ثم فجأة انخرمت الدائرة. عجز بنكٌ عن إعادة فوائد المضاربات. ثم عجز بنكٌ آخر. وحكّ “فاعلون اقتصاديون” رؤوسَهم وتعتعوا. وبدأ بنك آخر بالدخول في مرحلة التصفية. وهرب المضاربون وسحبوا أموالهم. ولم تدخل أموال كانت الميزانية تتوقّعُها. بعضها أموال “النصارى”. وبدا أن الجيش الذي استُخدِمَ للمضاربة لا يعود بالأموال المرجوة. وأُمسِك ولد مكَية في هيئة كبش فداء، ورأى الرايس في المنام أنّه يذبحه. ولكن الرايس لم يكن نبياً. وكان تأويل الرؤيا أن ولد مكَية يذبحُ الرايس. أو أن الجنرال يذبحُهُما معاً.
طبعاً لم تنتهِ القصة. والجنرال عزيز يُحاوِلُ دوماً التغطية على الفشل بإعادة الثقة في الفاشل للتمويه وللهروب من المسائلة. وهذه أزمة من العهد الطائعي: المسؤول المُقال هو عبء أكثر مما هو تفريغ. إنه charge أكثر مما هو discharge.
لكن في غضون ذلك يمكننا أن نُغنِّي: سقط واحد؛ تسقطُ البقيّة.
من صفحة الأستاذ الشيخ التجاني ولد ابراهام(عباس)