الأستاذ والمعلم: حكاية بؤس .. بلا نهاية

د. دداه محمد الأمين الهادي

كان معلم الصبيان للأسف مجالا خصبا للتنكيت في كتب الأقدمين، بمن فيهم “الجاحظ”، وكان الأستاذ مثالا للرخاء والازدهار بالنسبة لمن “يتأستذ” له، فكنت تقرأ عن الأستاذ الفيلسوف أفلاطون، والأستاذ الفيلسوف آرسطو، وكيف أنهما درسا فيمن درسا ملوكا في زمانهم، كان من بينهم “الأسكندر”، وكنت تتهجى نصوصا تصف مهمة المعلم والأستاذ بالنبيلة، ولا يزال الأمر قائما لحد اليوم.

ولكن “المتأخر أدق نظرا” –كما يقال-، فالناس حاليا، وبخاصة من لديهم الوعي، يعون أهمية التعليم، والتهذيب، والتربية، وبأن التعليم مهمة سامية وشريفة، فالعلم كان ولا يزال صاقلا للنفوس، مكونا للبشر، مفيدا في الحياة والممات، فبه الرقي والازدهار والإعمار والتطوير والبناء والعبادة، وتطول تلك القائمة، وفيها من الإيجابية الكثير، الذي لا يدخل تحت عد، ولا يطاله الحصر، ولا يحصيه العداد، ويقصر عن كتابته المداد.

وإذا كان التعليم من السمو بمكان صعب المرتقى، فكان الحري بالدولة منذ الاستقلال، وحتى اليوم أن تضع نصب عينيها المعلم والأستاذ، وأن تنظر لهما نظرة خاصة، واعية بمتطلبات ومطالب المستقبل، فالدول التي نجحت في غزو الفضاء، وفي عمارة الأرض عمارة حسنة، كانت دولا متعلمة، يعني أن سكانها تسلحوا بالعلم والمعرفة والثقافة، والتباين الحاصل بين الدول المتقدمة، والدول الفقيرة إنما هو نتيجة طبيعية للتفاوت المعرفي.

نعود، لنجد المعلم والأستاذ في حكاية بؤس لا تنتهي، فالأجور زهيدة بالنسبة لهما، والعمل شاق ومضن، والمتعلم عندهما من الأطفال والشباب صعب المراس، والمدارس تتفاوت من الصومعة إلى المزبلة وإلى العراء الأحمر، والفضاء الأشعث الأغبر، إن مهنة التعليم كانت فعلا بحاجة للفتة كريمة، بل لفتات كريمة، إذا التفت من يلتفتها يظل في لفتته تلك لقرون من الزمن.

2015 أعلنها صاحب القرار الأول سنة للتعليم في خطاب رسمي، وهي فرصة سانحة لتعاد صياغة وضعية المعلم في مجتمعه، ووضعية الأستاذ في واقعه، فكلاهما يعيشان الفقر المدقع، ويتحملان مشقة تنوء الجبال بحملها، فمعلم “أحمد شوقي” كاد يكون رسولا، ومعلمنا كاد يكون متسولا فاشلا، كي لا أضع لفظة “متسول” حافية على الطريق، فيحصد المتسول ملايينا، ويعتقد الأغبياء أن المعلم يجني ما يجنيه متسول ناجح، في مجتمع متسولوه يبدأون بالأحزاب والجمعيات والمواقع والجرائد الورقية، وينتهون بغني يقف في براقع على الشارع، فتتصدق عليه العامة ظنا منها أنه بأمس الحاجة لأواقيهم، التي يكتنز منها في البنوك رقما صعبا.

سنة التعليم يجب أن توجه لمصلحة المعلم، فيجب التحسين من واقعه وصورته، حتى إذا ما تقدم لخطبة عاتكة أو غانية لا يقال: فيم يعمل؟ ، فيكون الجواب: إنه معلم، فيقول الحي كله بدارجتنا “الحسانية: يا فظمه”.

وإنها لـــ”فظمة” فعلا، ولكنها تقع في مجتمع لا يقدر المواهب، ولا يعطي للمعرفة قيمتها الحقيقية، فيعطي المعلم أضعف أجر، كما يعطي لمدرس القرآن أقبح غرفة من الدار، وربما أجلسه تحت السلالم، أو في غرفة العمال، حيث يجلس من خانهم الزمن فصاروا “عمالا” بأجور لا تشتري غلال الشعير، ولا سلات البيض.

يجد المعلم دائما نفسه في أغوار الوطن، ومع علاوة-بعد متضائلة، تذكر بتلك العلاوة التي تعوض عن المواليد الأطفال، حيث يجد الموظف عن كل طفل تعويضا محددا بـ 500 أوقية، تم تقريرها في قوانين الوظيفة العمومية غداة استقلال بلادنا بظني، ولا أظنه خائبا، ولم تراجع حتى بلغت البلاد من الكبر عتيا.

سيدي الرئيس محمد/عبد العزيز، سيدي الوزير يحي/حدمين، السادة الوزراء، أيها الشيوخ والنواب الموقرون، السادة السفراء، يا مجتمعنا الكريم، يا سادة الرأي، أيها المستمعون الكرام إن وضعية كل من المعلم والأستاذ لمزرية، فاسهموا كل من مكانه بما يمكن أن يجعل سنة التعليم ناجحة، ولن تكون ناجحة ما لم تراجع الوضعية المادية المزرية للكادر البشري الأهم في عملية التعليم.

فلقد راجعت الدولة أنظمة العلاوات في مواجهة كثير من أطرها، وفي قطاعات مختلفة، وآن لها أن تلتفت إلى المطحونين المعلمين والأساتذة، المرابطين على الثغور، الذين يحملون على عواتقهم مهمة النهوض بالنشء والشباب، ويلعبون دورا محوريا أساسيا في السلم والأمن والاقتصاد والتنمية البشرية، وتعليم كافة ماهيات الحياة.

وفي الاعتبار أنه من السهل أن نسب أساتذة تغيبوا، ولكن ليس من الصعب أيضا أن نفهم أن هؤلاء يقيمون تحت رحمة البؤس، ففي زمن العولمة كانوا ينخفضون تحت أقدام مفسدي المجتمع، في حين يرتفع غيرهم بالسمسرة والكومسيوهات، وكثيرون جدا من نهبوا الشعب الموريتاني، ويعيشون بينه أبطالا مبجلين!

فلنجعلها سنة “المعلم”، وستكون سنة تعليم ناجحة بإذن الله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى