قصة:حلم أبي صلاح/ عبدالله محمد الفتح
الباخرة تمخر عباب البحر. جهاز الفيديو يبث فلما يتحدث عن “شنقيط “. كانت الصور تحكي قصة مدينة أرهقتها الإحتلالات و الغزوات المتعاقبة عليها منذ فجر التاريخ.
ابتلعت اللّجة الشاطئ. الزورق الصغير مربوط خلف السفينة العملاقة، وعلي ظهرها تعانق البحّارة العشرة مع زملائهم. كان عناقا حارا ينبئ عن طول فراق وأوصى الماضون في إجازتهم إخوتهم بضرورة التحلى بالصبر. محمد الضابط الجديد كان يرافق رئيس الضباط الأجانب إلي قمرة القيادة ليسلم للقبطان دفاتر وأوراق بها إمضاءات وأختام .الطباخ “آمادو” يدعوني للشاي قائلا بفرنسية ركيكة: وقت الشاي الأخضر يحين بعد الغداء، كالعادة.
منذ جاءتنا هذه الباخرة للّنهب، قبل عقود من الزمن، والعمّال يجتمعون في إحدى الغرف المخصصة لهم قرب العنابر في الطابق السفلي.
ـ إذا أردت أدعو غير العاملين منهم إلي غرفتك لنشربه هنا ؟
ـ كلا للنزل إليهم.
أثناء إعداده لمواعين الشاي أدار زرّ مكبّر الصوت، قرب النافذة الزجاجية المستديرة. أوردت محطة إذاعية برنامج :” زهرة المدائن”.. تحدث عن القدس في ظل سياسة الاحتلال وطمس الهوية، وتأثير العزلة المفروضة على المدينة عن محيطها العربي، وجدوى اختيارها أخيرا كعاصمة لثقافتنا،. ودار حديث عن القضية الفلسطينية واستحضرت صور الدّمار وإخلاء البيوت من أهلها..دارت كؤوس الشاي ليطيب الحديث. وسأل سعيد ،وهو شيخ جاوز الخمسين لا يكفّ عن التدخين : كيف يمكننا أن نمدّ يد العون لفلسطين ،ولم ينتظر إجابة فأردف قائلا و هو ينفث دخانه:أقترح أن نجمع مبلغا ماليا إذا ماانتهت الرحلة ورزقنا شباكا من الأسماك الكبيرة،ونرسله للقدس.. وبدأ يستحضر رحلاته البحرية الناجحة ومعوناته لبعض أهله. ويضحك، فرحا بمسرّات الماضي، عن أسنان متهرئة، قاطعه الطبّاخ قائلا:
ـ أما أنا فأقترح أن نكفّ جميعا عن التدخين وعن اقتناء بضائع اليهود الأمريكان و كلّ ما يساهم في شراء رصاصة تقتل مسلما أ ومقدسيّا غربيا كان أم شرقياّ.
والتفت إليّ “أبّاه الساخر” يسألني بالرطانة عن مساهمتي في العون الذي ستقدم “القرية العائمة” للقدس الشريف ،مضيفا بصوت أقوي ليسمع الجماعة :
ـ لا تقل لي أنك ستضغط علي القبطان ليبحث لنا عن أسماك” الكوربين”، من ناحيتي سأدعو لعرب الأرض المحتّلة بالنصر ولأعدائهم بالخذلان وسأردّد دائما ” تعيش الأمة وفلسطين عربية،شاء من شاء وأبى من أبى، ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بها، اللهم انصر أهلنافي فلسطين و في أفغانستان ” وهذا أضعف الإيمان. وخرج متجها إلي دورة المياه مخلّفا وراءه رائحة طحين الأسماك ،ناولني الطّباخ كأسا نصفها رغوة ونصفها له طعم الشاي ولون القهوة ,فقلت لهم وأنا أحتسي الشاي إنّني سأبحث عن مقدسية أتزوجها وأدعو الله أن يرزقني بولد منها أسميه صلاح الدين وأعلّمه في محضرة الأهل قبل أن يعود إلي بيت المقدس مع جده..
عاد “أبّاه”ضاحكا الله الله ،هذه أعظم خدمة تقدمها للقدس بأن تعيد لها صلاح الدين قادما من براري شنقيط مسلحا بمختصر خليل وفتاوى الحيض و النّفاس.
ـ بل بدعائكم وآمالكم وآلامكم وأمانيكم وهداياكم الثمينة..
أصوات الحبال الغليظة ترتطم بالمتن مجرجرة قطعا ثقيلة من حديد،” الأوناش” ترفع الشبّاك من اليمّ.بدت شبكة عظيمة تجثم على المتن. آلاف الكائنات محاصرة.تشكّلت بركة دم كبيرة وسط المتن.المشهد يعلو ويهبط بفعل ذلك الأزرق الغامض.الصورة تهتزّ تحت سماء غائمة.
ودوّت صفّارات الإنذار معلنة عن كارثة. صراخ طفل ولد لتوه يصم الآذان. مالت الباخرة بفعل الأمواج العاتيّة فسقط التلفاز والفيديو الصغير ليتحطّما.. ينتصب “برج اللقلق” علي الشّباك الغارقة في بركة الدّم. ومعالم القدس تتناثر علي القرية العائمة، المآذن،الكنائس والأديرة،الرجال يتراكضون بحثا عن الرّماثات وسترات النجاة, وأطواق تطير في الفضاء مع الحمام أو البجع البحري .مذيع التلفزيون يناديني باسمي، لأقف بالقرب من الشاعر الكبير الذي كان يرّدد”في الجماهير تكمن المعجزات ومن الظلم تولد الحريّات”، ويرتفع صوتي: “أيها المارون بين الكلمات العابرة”..أسماك البوري والإسقمرى تقفز متحرّرة من الشبّاك والحبّار يتطاير من الأطباق الجاهزة.بحاّرة أجنبية بدينة وقميئة تطارد إخطبوطا يرفض أن يتمّ تجميده قسرا ، تعيده للمطبخ فينفث حبره الأسود حنقا عليها. رافعات تنزل الزّوارق الصّغيرة إلي الماء، جهاز يرسل إشارات النّجدة، ضابط يذيع إحداثيات المكان واسم المركبة علي الأثير.أسطول بأكمله في المنطقة لم يأبه للقضية ولم يحرك ساكنا..
وبينما كنت أهاتف ” صلاح الدين” والألم يعتصر قلبي.يسألني عن الأنفاق حول الأقصي والكوفية العتيقة .أحدّثه عن الضّياع، الكارثة الرهيبة و “الفتح الكبير” كان العمال يتخلصون من الثياب الدانمركية الصنع ويشيرون إلي زورق النجاة القادم من”جزيرة تيديره ” القريبة..ناداني أحدهم :
ـ صلاح الدين ،هيابنا ،سنرابط هنا في (تيدره) منها سيبدأ الزحف..
رنّ منبّه” الهاتف الجوال، كانت نغمته ” القدس لنا،و لا لغيرنا ،فأمسكته كمن يريد أن يردّّ ّ على مكالمة..فتحت عينيّ ببطء، انتبهت إلي أنّه المنبّه فـأسكتّه.. وشرعت في إسكات بقيّة الأجهزة لأفتح “اللاب توب” المثبّت علي مكتب قرب السرير.
وأمعن النّظر في صورة في خلفية الشاشة تشكّلت من مآذن وقباب ،ومن النافذة المستديرة أمدّ بصري بعيدا لأري “الرأس الأبيض “. أقصى نقطة في الوطن العربي تلوح في الأفق.