حكم إقامة الاحتفال بالمولد النبوي / العلامة الشيخ اباه ولد عبدالله
سؤال: اتخاذ ذكرى مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم عيدا يحتفل به، ظل مثار جدل بين العلماء، من قائل بأن كل ما كان فيه تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم هو من صميم الدين، إلى قائل بأنها غلو في الدين .. على ضوء ذلك كيف ترون تعظيم مولد حبيب الله ورسوله عليه أفضل الصلاة والسلام ؟.
الجواب: إقامة الاحتفال بالمولد الشريف وإظهار الفرح والسرور بهذه المناسبة السعيدة مما حدث في أواخر القرن الخامس الهجري، وتضاربت فيه أقوال العلماء من مستحسن لما يشتمل عليه من تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتذكير المسلمين بمنة الله تعالى عليهم بهذا النبي الكريم، التي هي أعظم منة تستحق أن تقابل بالشكر وشهود المنة لله تعالى فيها: من ذكر معجزاته الخارقة، ونشر بعض خصائصه الفائقة، وإذاعتها على أسماع العوام الذين لا يحضرون مجالس العلم والعلماء. فذلك مما يزيد في إيمانهم ويقوى يقينهم، مع إلهاب القلوب على محبته والحث على اتباع سنته. لهذه الفوائد ولغيرها استحسنه بعض العلماء وعدُّوه من البدع المستحسنة، جريا على القول بتقسيم البدعة إلى الأحكام الشرعية المعروفة كما ذهب إليه عز الدين بن عبد السلام وتبعه فيه جمهور أهل العلم، ولقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة التراويح «نعمت البدعة هذه». أما إذا مشينا على القول بعدم تقسيم البدعة وهو ما ذهب إليه تقي الدين بن تيمية وأبو إسحاق الشاطبي ومن تبعهما فلا نعده بدعة، بل يكون داخلا في قوله صلى الله عليه وسلم «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها». والبدعة على القول الأخير هي التي تخالف السنة، وهى بدعة الضلالة التي قال فيها صلى الله عليه وسلم «كل بدعة ضلالة» أما ما شهد الشرع لجنسه أو اندرج تحت القواعد فلا نسميه بدعة، وإذا جاز أن نسميه بدعة مجاراة للاصطلاح فليس ببدعة مذمومة قطعا. وأنى يكون الفرح بالنبي صلى الله عليه وسلم ومدارسة سنته و إشاعة معجزاته في الناس بدعة؟ و قد حثنا الله تعالى في كتابه الكريم على توقيره وتعزيزه فقال: «لتعزِّروه وتوقِّروه» على أحد التفسيرين للآية الكريمة. وهذا من تعزير النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره المأمور به في الآية. ولم يخص الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بنوع من التوقير دون نوع، بل أطلق ليكون التوقير شاملا لكل ضرب من ضروبه على سبيل البدل شأن المطلق عند علماء الأصول، والفعل في سياق الإثبات مطلق إجماعا، ويراعى في ذلك الحذر من الوقوع في الإطراء المنهي عنه في الحديث الشريف، ويضاف إلى ما سبق مما يستأنس به لما نحن بصدده ما ورد في الترغيب في مجالس العلم والخير كما هو مصرح به في غير ما آية أو حديث مما لا يمكن استقصاؤه. ولا شك أن هذا مشتمل على خير كثير وعلوم نافعة. و يذكر المترجمون لإمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه أنه كان إذا جاءه الطلبة خرجت إليهم جاريته وسألتهم: أتريدون الحديث أو المسائل؟ فإن كانوا يريدون الحديث دخل مغتسله فاغتسل وتطيب وسرح لحيته ولبس أجمل ثيابه، ونصب له سرير ليجلس عليه، يفعل ذلك تعظيما لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا يريدون المسائل خرج إليهم على حالته. وقد سأله بعض القضاة عن حديث وهما ماشيان في الطريق فأمر بضربه عشرة أسواط وقال له: أتسال عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الطرق؟ ولما وصل إلى منزله حدثه بعشرة أحاديث عدد الأسواط التي ضربه فقال القاضي: ليت مالكا زادني أسواطا وزادني حديثا، وكان لا يركب دابة ولا يلبس نعلا في المدينة، وقال إنه لا يطأ بقعة دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم بحافر دابة أبدا. ولم يرو فيما علمت أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا من التابعين فعل مثل ما فعله مالك، ولم نسمع أن أحد ممن عاصر مالكا ولا من جاء بعده نقم عليه فعله هذا، أو عده بدعة وغلوا في الدين، بل على العكس من ذلك جعلوه من أبرز مناقبه، فلتكن إذن إقامة المولد والاحتفال به من هذا الباب بلا فرق ظاهر عند التأمل، مع أن الحافظ ابن حجر العسقلاني استخرج لإقامة المولد أصلا ثابتا من السنة فقال: وقد ظهر لي تخريجه على أصل ثابت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون عاشوراء فسألهم فقالوا هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى، فنحن نصومه شكرا لله تعالى فقال النبي صلى الله عليه وسلم«نحن أحق بموسى منهم، فصامه وأمر بصيامه» فيستفاد منه فعل الشكر على ما منَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، وأي نعمة أعظم من ولادة النبي صلى الله عليه وسلم و بزوغ شمس أنواره على هذا الوجود. وقد استخرج له السيوطي أصلا ثانيا وهو: ما رواه البيهقي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوءة، مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عقَّ عنه في سابع ولادته، و العقيقة لا تعاد مرة ثانية فيحمل ذلك على أنه فعله إظهارا للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريعا لأمته ذكره السيوطي في (حسن المقصد في عمل المولد). وقد يظهر تخريجه على أصل ثالث ربما كان أمس بمسألتنا مما استخرجه الحافظان ابن حجر والسيوطي وهو ما أخرجه مسلم عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: «ذلك يوم ولدت فيه وبعثت وأنزل علي فيه» فهو يدل كما هو واضح على اعتبار زيادة الشكر لله تعالى في مثل يوم ولادته صلى الله عليه وسلم من كل أسبوع، ولذلك ندب إلى صيامه ورتبه على كونه ولد فيه، ويقول الأصوليون إن ترتيب الحكم على الو صف مشعر بالعلية. وقد عد بعض العلماء الاحتفال بالمولد النبوي بدعة مذمومة محتجا بأنه لم يكن معروفا لدى القرون الثلاثة الأخيرة، ولاشتماله كذلك على اختلاط الرجال بالنساء في العادة، وبأنه إن كان يوم ولادته وهي من أعظم النعم فإنه يوم وفاته وهي من أعظم المصائب. لكن الإنصاف في المسألة ما قاله ابن حجر من أنه اشتمل على محاسن وضدها فمن تحرى في عمله المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا. ومثله لابن الحاج في مدخله. وقد حثتنا الشريعة المطهرة على شكر النعم والصبر عند المصائب، وقد أطال ابن تيمية الكلام في ذم إقامة المولد لكنه قال: إن من فعله تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم فهو مأجور على نيته فيه إلى غير ذلك مما يطول ذكره ولا يتسع الوقت لبعضه فضلا عن كله. والحاصل أنه إن خلا من المحرمات والمنكرات فهو حسن وإلا فمذموم فاعله لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يعظم بخلاف سنته، ودرء المفاسد الراجحة أو المساوية مقدَّم على جلب المصلحة. وهنا مسألة ليست أجنبية على هذا الموضوع إن لم تكن من صميمه وهي أن بعض المتأخرين من المالكية كره صيام يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره عيدا من أعياد المسلمين كما ذكره شروح خليل، و يقدح عندي في هذا بالقادح المسمى عند علماء الأصول بفساد الاعتبار وهو مخالفة القياس للنص أو الإجماع. والنص هنا قوله صلى الله عليه وسلم «ذلك يوم ولدت فيه». كما سبق بيانه، فلينظر في ذلك.
نقلا عن مدونة أنصار الحبيب المصطفى صلي الله عليه وسلم