خواطر حول معوقات قيام الدولة الموريتانية.- 3
“قد قامت بربها الأشياء”
نعود إلى الموضوع الرئيسي: لماذا لا تقوم دولة في موريتانيا؟
((على مدى ألف عام على الأقل عجز “الموريتانيون” عن إقامة دولة مركزية في هذه الربوع.. وتفضي قراءة متأنية للتاريخ
الموريتاني إلى أن “المجتمع العميق” بذل كل جهده في سبيل أن لا تقوم تلك الدولة المنشودة.. كانت كل اللبنات السابقة، إن وجدت، لبنات من الملح تذوب تحت كل وابل و طل.. اليوم على الموريتانيين التفكير العميق في وضع اللبنة الأولى من الجسر الذي يجب أن يوصلنا إلى “الدولة”.. الغاية والوسيلة..
في الحلقات التالية من هذه المعالجة المتواضعة سوف نذهب عميقا في أرض ما تحت الجسر المنتظر..
وسنكون صريحين كعادتنا في طرح تصورنا ورؤيتنا لهاذ الموضوع.. وقبل كل شيء نقرّ أننا أمام تحد كبير، إذ تراكم الخلل قرونا من الزمن، والوضع أصبح يتطلب معالجة سريعة، آنية، واعية، حكيمة..))
إنه يصعب الآن على أي مفكر أو مثقف موريتاني تقديم إجابة شافية على سؤال واحد من الأسئلة المطروحة بإلحاح من قِبل العامة قبل الخاصة.
إلى أين نسير؟ ومن يحكم البلاد فعليا، ماذا يريد الجوار شمالا أو جنوبا منا؟ من يحرك الحراك العرقي أو الشرائحي؟ و إلى أين يتوجه و لفائدة من ؟ ماذا يحدث للاقتصاد؟ إلى متى يصمد “نظام الو كافين”؟.. كل ذلك تحت ظل السؤال الكبير ما هو مستقبل الكيان الوطني في خضم الحراك الشرائحي الجارف؟ الحقيقة أنه ليس “ظلا” بقدر ما هو دخان كثيف وكريه الرائحة ومزعج، ويخيف من حجم الحريق الداخلي. و ليكن أولئك الذين يحركون الملف الشرائحي ابتغاء إشعال نار الفتنة في هذا البلد على يقين أنهم لن يجنوا من ذلك سوى الأشواك السامة و أن نتيجته ستكون عليهم أشد من الوخم، قبل غيرهم؟…
نعم. يصعب التفكير في مجتمع تختل وضعيته كلية ، ولا يمكنه التوازن في غياب سلطان الدولة، دون وجود نوابض تمتص الاهتزازات.
أول ما يثير الانتباه، بل يسبب الصدمة، هو توجه الحراك الشرائحي نحو تحطيم الملاذ الحضاري الوحيد و عامل اللحمة الأبرز الذي لا خلاف عليه بين هذه الساكنة و مكوناتها منذ القدم.. إنه الدين الإسلامي.. يجري الآن بشكل مريع الحفر والتنقيب في أساسات خطيرة جدا من أجل ربط الدين الإسلامي بوجود العبودية في هذا البلد، دون أن يكلف أولئك أنفسهم بطرح سؤال عن أسباب هذه الطامة و هذا الانحراف في كل أمم وديانات العالم وملله ونحله وفلسفاته منذ بروز الإنسانية.. تلك فترة انقضت أو يخيل ذلك.. لكن الحفر عنها في موريتانيا وحدها أمر غير سليم وبعيد من البراءة.. هذا ناهيك عن أن المجتمع الموريتاني ونواته الصلبة (و هذا ليس من قبيل التماس العذر أو التخفيف من الذنب أو الجرم)، لم تشهد أشكالا مريعة من ذلك الرق مثل التمييز بين الموتى والمصلين واستخدام الرقيق في التجارب العلمية.. بل ومحاولة “عنصرية العلم”.
لقد مزقت كتب الفقه الإسلامي بحجة أنها تكرس العبودية و تشرعها، وتم تسفيه العلماء و سبهم والتهديد بالتبول على قبورهم باسم محاربة العبودية، ثم مصاحبة مع ذلك حطمت آخر الخطوط الحمراء بسب الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، إلى أن شاركت الحيوانات في هذا الحراك، وفق الحكومة، بقيام معزاة بتمزيق نسخ من المصحف الشريف.
لقد سعى هذا الحراك بهندسة مدروسة تحت مسمى الحقوق إلى تقديم أبشع صورة للأجيال عن ماضي المجتمع، و لم يضيع أي فرصة للنيل من نواة الشريحة العربية التي تعرضت لأبشع سيل حملات إعلامية داخلية وخارجية، لم تسلم منها صحف أمريكا واستراليا. وحاول بكل الطرق – ونجح إلى حد كبير – في خطة التجريم باللون و المذهب.
إن تقارير المنظمات الحقوقية المحلية والإقليمية والعالمية، ودخول دول كبيرة كأمريكا وكندا واستراليا، فضلا عن الغرب في درجته الثانية (أوروبا)، على الخط يجعل الأمور تدعو لأكثر من وقفة تأمل.
ما ذا يراد لنا و يخطط له في مختبرات العولمة و الفوضى الخلاقة؟ أهو المصير المدمر الذي مزق دولة السودان الشقيقة؟
جميع السفراء الغربيين في نواكشوط ومعهم سفير اليابان ودول آسيوية، جاؤوا لتسوية ملف الإرث الإنساني في موريتانيا.
و كأنالعالم بألف خير، لا جرم يخجله و يدنسه و يؤنب ضميره و لا هم يؤرقه و يغض مضجعه سوى الإرث الإنساني في موريتانيا.
تدخل غير مسبوق تاريخيا في الشؤون الداخلية للبلاد.
يذكرني هذا بأسطورة “الحيوانات مرضى بالطاعون” ل “جان دلا فونتين”Jean De La Fontaine.
الحيوانات تجتمع تحت رئاسة الأسد، ملك الغابة، بحثا عن الحيوان المذنب الذي نزل بسبب ذنبه مرض الطاعون بالحيوانات.
فيستباح دم الحمار الضعيف لأنه ارتكب ذنبا عظيما بأكله عشبا بينما تُبرأ الحيوانات المفترسة القوية على ما تقترفه من فساد و إجرام. فتخلص الأسطورة إلى حكمة بالغة:
إن الفتى إن كان ذا بطش مساوؤه شريفة *** لكن إذا كان البائسَ فإن حجته ضعيفة.
عندما يقول السفير الموريتاني في أمريكا شطر كلمة عن الوضع الداخلي الأمريكي كانتقاد قتل السود برصاص الشرطة، سيرحل نفس اليوم مطرودا بحجة “التدخل السافر في الشأن الداخلي الأمريكي”.. في موريتانيا لا توجد دولة يمكنها قول “لا”.
أو حتى التلميح بها.
إن سفراء الغرب، أو أغلبهم في نواكشوط ، يزورون المتطرفين في بيوتهم ومنظماتهم وأحزابهم المرخصة وغير المرخصة، ثم يعلنون دون حياء ولا خوف استعدادهم لدعم أولئك المتطرفين الذين ينوون بكل وقاحة التبول على قبري الشيخين و أكرم بهما من شيحين, بداه ولد البصري و محمد سالم ولد عدود رحمهما الله و رضي عنهما.. أين الدولة و رجالاتها الذين يهان الشيخان بداه وعدود على مسامعهم دون أن تهتز شعرة منهم.
أين النخبة السياسية التي لا تتجاوز، في أحسن الحالات، الاعتراض الخجول على خطاب الجحيم، الذي يحاول إشعال النار في البلد و يلوث تراثا هو مفخرة الأمة كالشيخين عدود وبداه..
ما بال الإعلام الموريتاني يتسابق إلى نشر الشتائم ضد علماء الأمة ورموزها، بيضة الدين.
لقد تصدر الشيخان بداه وعدود رحمهما الله، تجريم العبودية وتحرير العبيد قبل أن يولد المتطرفون الحاليون الذين يزعمون العمل الحقوقي.
إن هؤلاء بدون مساحيق، ما هم إلا عملاء، يكررون نفس السيناريو الذي مزق السودان و انتهى إلى الفجيعة لكل الشرائح والأعراق، ويتجه لفجيعة أفجع.
إنهم صناعة خارجية، ب”أبياج” النظام الحالي، الذي استغل هذا المنتوج للإيقاع بشرائح المجتمع ليُوهم الشعب المسكين ترهيبا و تخويفا أنه هو المنجي و الملاذ الآمن من ما يتوعده به المتطرفون من ويلات انتقامية.
النتائج كارثية بكل المقاييس.. تفتيت البيظان إلى قوميات.. وهذا يعني الدمار في ظل انعدام “دولة”، واستبداد ” الوڴافين ” المفسدين.. من الطريف أنه في عهد دولة المرابطين أنشأت “وزارة التمييز”، وكانت مهمة هذه الوزارة حماية السلطان.. الآن “المتطرفون”، الذين صنعوا في الخارج، هم بمثابة “وزارة التمييز، يحمون “السلطان” و يخدمون النظام بخطابهم الجهنمي، حتى تصدر إليهم الأوامر بتوقيت الحريق.
لست بحاجة للإشارة هنا إلى أنه لا يحق لأي كان المزايدة علي أواتهامي حينما أتناول و أبدي وجهة نظري حول موضوع الاسترقاق و الحراطين نظرا لمواقفي المعروفة ثم اعتبارا لما يربطني بهذه الشريحة من وشائج القربى الوثيقة التي أعتز بها و أنميها، و التي أسست لعلاقات متينة لا انفصام لها، تجعلني في حل من كل حرج لقول حقيقة طالما طمرها و لفقها آخرون ليا بألسنتهم و طعنا ي الدين.
و ما كانوا ليفعلوا تحت سلطان دولة تحمي حماها و تدافع عن مقدساتها و ثوابتها وتضرب بيد من حديد بلا هوادة على أيادي ألئك الذين تسول لهم أمارتهم بالسوء محاولة تسفيه ديننا و تمزيق نسيجنا المجتمعي و العبث بوحدتنا الوطنية، مثل ما يسعى إليه هؤلاء، محاولين سلب الحراطين هويتهم العربية.
و لعلها هي أسوء خاتمة ممكنة للقضاء على مخلفات الاسترقاق، إذ لا استرقاق أشد من المسخ الحضاري و سلب الهوية، خاصة إذا كانت هذه الهوية هي العروبة و الإسلام.
بالمقابل فإنه يتعين على السلطة و النظام القائم العمل الجاد لوضع حد لملف العبودية والمتاجرة المالية والحقوقية والسياسية والاجتماعية به ، لما يُحدث استمراره و التلاعب به من اختلالات تهدد التوازنات الاجتماعية الهشة أصلا للبلد و تنذر بما لا تحمد عقباه.
تفاديا لذلك ينبغي العمل على دمج فئة الحراطين الذين هم من جلدتنا و دمنا و وضعهم في ظروف نفسية و مادية و مجتمعية تقطع دابر أولئك المقنعين الذين يعرضون ضمير الحراطين رخيصا في سوق النخاسة الدولي تحت يافطة كاذبة خاطئة توهم أنهم يدافعون عن حقوق الحراطين، و ما هم بمدافعين إلا عن مصالح ذاتية، آنية، ضيقة، غير عابئين بمصير البلد و وحدته و أمنه و استقراره.
فما الذي جناه الحراطين من هذه الضوضاء الإلحادية و المفرقعات الإعلامية على المنصات الخارجية؟ أقول، يتعين على السلطة القائمة وضع الحراطين في ظروف تجعلهم يتجاوزون عقدة فترة الاسترقاق الذي عانوا منه ثم مرارة الظلم و الإقصاء و التهميش و الحرمان التي تلته حقبا من الزمن طويلة.
ظروف تجعلهم يستشعرون و يرتاحون لمواطنة لا فضل فيها لعربي عل أعجمي و لا لأبيض على أسود، ولانتمائهم العربي. سبيلا إلى ذلك يتعين على القائمين على الشأن العام ـ إذا كانوا حقا صادقين في البحث عن حلول جذرية و نهائية لهذه المعضلة الوطنية ـ الإقدام و بسرعة على إجراءات شجاعة و تاريخية، غير مسبوقة، بعيدا عن الحلول الارتجالية الهزيلة الحالية، كمن يضمد جروحا على ساق من خشب.
أتصور أن أول إجراء يكون بمثابة عربون على صدق النوايا هو إقدام الدولة على تقديم اعتذار رسمي لهذه الشريحة باسم كافة الموريتانيين، الأحياء منهم و الأموات، عن فترة الاسترقاق و مخلفاتها، دون أن ننسى ما مارسته الأعراق الأخرى سوى البيظان من أنواع الاسترقاق.
سيضع هذا الاعتذار إكليلا من الشرف و المصداقية و الغفران على رؤوس الموريتانيين و ينفي عنهم كثيرا من ما تنسبه و تلصقه بهم الدعايات المغرضة.
قد يقول قائل إن الدولة الموريتانية وليدة الاستقلال، فكيف يناط بها الاعتذار عن ما اقترفته الأجيال في أرض السيبة منذ العصور الغابرة؟ نقول أن مسئولية الدولة لا تتجزأ.
فمن تسلموا وثيقة الاستقلال تسلموا الحوزة الترابية بما و من فيها و ما لها و ما عليها بما في ذلك تاريخ البلد بخيره و شره.
و لم يثبت أنهم استدركوا شيئا من ذلك أو تنصلوا منه.
فإذا سلمنا جدلا عدم مسئولية الدولة عن فترة الاسترقاق ما قبل الاستقلال، فإنه يحق لقائل آخر أن ينيط بها المسئولية عن مخلفات الرق التي لم تحرك فيها ساكنا على مدى خمسين سنة.
الإجراء الثاني يتمثل في وضع صندوق تعويض، مخصص للرفع من الظروف المعيشية للحراطين، تموله على سبيل المثال مداخيل ضرائب الهاتف المحمول.
الإجراء الثالث: تمييز إيجابي يمكن شباب الحراطين من الولوج الميسر إلى جميع مراحل التعليم من خلال منح تلقائية مع تشجيعات مختلفة.
الإجراء الرابع: إنشاء شرطة خاصة ترصد بؤر الاسترقاق إن وجدت من أجل القضاء عليها استئصالا.
إنها مجرد خواطر و أفكار غير حصرية، قابلة للنقاش و النقد البناء و التحسين.
إن الحراك الاجتماعي هو عينة تناولتها من بين عينات عدة، كل منها دليل على الهروب المجتمعي من مشروع الدولة.
***
إن مالي تطالب بترسيم الحدود، والسنغال تتأهب لذلك وهي التي تدعي أن حدودها تنتهي عند “المذرذرة”.. إنه الشوق إلى “الأحواض الناضبة”، التي لا بد للسنغال أن ترويها، ولو بعد غسلها بدماء الموريتانيين.
في الشمال لا بد يوما، وأقول يوما، أن ندفع جزء من فاتورة الحل النهائي لمشكل الصحراء بسبب ابتعادنا عن موقف الحياد و لأننا الحلقة الضعيفة في هذا الصراع الذي لسنا معنيين به لا سابقا و لا لاحقا، اللهم ما كان من واجب إصلاح ذات البين إذا تعين و توفرت ظروفه.
فإن في أنفسنا ما هو أجدر و أحرى أن نصرف فيه اهتمامنا و جهدنا و طاقتنا.
و ليست لنا حاجة في رفع جدار العداوة مع أي من جيراننا كما الارتماء في أحضان أي منهم.
إن الملفات تتراكم كالعواصف ولا يمكن من خلالها النفاذ إلى رؤية سليمة إلا بأدوات مجهرية تشخص الحالة بدقة.
إن هذا جزء ضئيل من الصورة العامة لكل كيانات المجتمع.. إنه نتاج طبيعي لغياب “الدولة”، وهي أوكسجين المجتمع، والمجتمع الموريتاني الآن بدأ يعاني الاختناق، ولم يعد هنالك وقت للمجاملة والتمسح بالأمنيات وشعارات “النعامة”.. إن كيانات المجتمع الموريتاني اليوم مفككة و يسودها خطاب الحقد والكراهية و الانتقام الأعمى، وكأني بفشل أي “إغراء” يمكنه إعادة الوئام إلى المفكك، فالشعوب هي الأصعب التئاما عندما تتخذ شروخها صفة زجاجية.
علينا أن نكون شجعانا.. ونطرح أسئلة المرحلة. ماذا نريد؟.. لا ماذا يراد لنا. فما يراد لنا أوضح من أن يثير التساؤل حول طبيعته، إن لون السماء لا يختلط على الرائي بلون الدخان أو الأنواء العاصفة..
نحن ماذا نريد؟ وكيف نتجنب ما يراد لنا؟ هذا مربط الفرس. وهنا لا بد من التعالي على الأنانيات السياسية الضيقة والمواقف الذاتية. ذلك أن ثمة مسلمات تتشكل بسرعة كبيرة، وهي أن التعايش والوئام الاجتماعي يقترب من عبور مرحلة التحكم فيه.
في هذه اللحظة يمكن لأي أسرة من أي شريحة أن تشعل نار الحرب الأهلية، وستكون الأسوأ في تاريخ المنطقة كلها، وسوف تجد القاعدة و”داعش” واقتصاد عصابات التهريب أفضل ملاذ آمن في الساحل، يمكنها منه إيذاء أمريكا وأوروبا، في الوقت الذي لم تعد لدينا لا الإرادة و لا القدرة على لعب دور حارس بوابة هذين الكيانين.
إن الإرهاب ينتقل بسرعة بين دول الساحل، من شمال مالي إلى ليبيا، ولعل الصحراء الموريتانية أكثر إغراء لأن “دواعش” الإرهاب لا بد أن يمتلكوا موطئ قدم على الأطلسي، وهذا سهل قياسا لدولة الخلافة التي أعلنوها في العراق والشام، إذا تدهورت الأحوال الأمنية في هذا الحيز الجغرافي.
إن أطماع دول الجوار الزنجي والعربي في هذا الكيان ليست خافية ولا مخفية، الفرق أن لديهم الوقت للتخطيط، ونحن ليس لدينا الوقت حتى للاختيار بين مخططاتهم.
لكن ماذا نريد نحن؟ دون إجابة على هذا السؤال فإننا نقترب من إضافة رقم آخر للائحة الفرص الضائعة الطويلة.
***
قد يسأل سائل تهكما أو براءة أو غباء: ما هي هذه المعوقات أو العقبات التي تقوم في وجه قيام الدولة؟ حيث أننا لا يمكن أن ننتهي من تعدادها كثرة فإننا نورد بعضا منها مثالا لا حصرا:
· أولها الجهل و الأمية، مع غياب هرم مجتمعي منظم يستجيب لمتطلبات العصر والحداثة، نتج عنه غياب الشعور بالانتماء الوطني والواجب المدني مع التمسك بالقبيلة والهيئات التقليدية كمرجعية عوض الدولة الغائبة.
و قد تعاملت الأحكام المتعاقبة مع هذا الواقع بل كرسته، تاركة الشعب المسكين في غياهب الجهل و التخلف.
فأقامت بينها و بينه سدا منيعا من الزعامات التقليدية، تقية و احترازا من الهزات الشعبية و كأداة للحفاظ على الكرسي و بسط سيطرتها.
لكن، حيث أن “الدولة” لا ترعى للمواطن حقوقه و مصالحه، فإن المواطن بالمقابل يتنصل من كل واجبات المواطنة.
و يبرز هذا التنصل جليا في سلوك المواطن و تعامله في الفضاء العمومي حيث لا يعبأ قليلا و لا كثيرا بالقوة العمومية و لا بالقوانين التي تنظم الحياة العمومية.
فلا ضمير يؤنب و لا سلطة تؤدب.
و لا يتسع المجال لذكر و تعداد تلك الخروقات التي من أبسطها عدم احترام قوانين السير و عدم احترام الفضاء العمومي بشتى تجلياته (ظاهرة الكزرة على سبيل المثال).
· ثم عقبات الانقلابات العسكرية المتتالية و ما انجر عنها من استبداد و انسداد سياسي و سوء حكامة و فساد و إفساد تسبب في تراجع المنظومة القيمية والأخلاقية للمجتمع،
· استشراء الفساد بشتى أنواعه،
· تغييب الهوية والإشكال اللغوي المصطنع،
· العجز الكبير في الكادر البشري،
· حصار واستهزاء المحيط الإقليمي (العزلة الموريتانية)،
· عقبة الإعلام المتخندق،
· ضعف الأداء السياسي والإعلامي للجهاز الحكومي والأحزاب السياسية،
· تعقيد و ضبابية مسطرة تسيير النفقات العامة، لحاجة في نفس أكلة المال العام. فقد ورد في بعض تقارير الهيئات المتخصصة أن موريتانيا لا تصرف سوى 20% من القروض الممنوحة للمشاريع التنموية فيما تختفي 80% اختلاسا.
· البيروقراطية المعطلة لكل روح مبادرة لدى المواطنين والمستثمرين والممزوجة بالرشوة وعدم الإخلاص،
· غياب الخوف من المحاسبة والعقاب لدى الموظفين كما غياب رجاء التشجيع والمكافأة،
· العمل على إبعاد رموز النخبة العميقة من كل شرائح المجتمع،
· فتح الباب أمام “المتطرفين” و الأغبياء و كل نكرة مهين و لا يكاد يبين لأخذ مكان المعتدلين والعقلاء الوطنيين، وهو عمل لا ينتج إلا عن تفكير “عصاباتي” حيث يكون للأكثر سوء والأقدر على الإيذاء “المكانة الأهم” في قيادة القطيع.
· وأخيرا، وليس آخرا رفض الموريتانيين لتاريخهم تعصبا و حَمِية و مجانبة للحق و الحقيقة. فاتخذوا تاريخهم عضين تحريفا و تزويرا و قراءة فاسدة للأحداث التاريخية مع تنكر مخجل لأبطالنا و رجالاتنا و من سطروا تاريخ هذا البلد بدمائهم الزكية و شيدوه علما و عملا و صلاحا و فروسية و سلاحا.
تراهم منبوذين في عراء النسيان، يتطاول عليهم الأقزام و كال رذيل ، همزة لمزة و افتراء و تبخيسا.
لا يستحقون في نظر من توالوا على حكم هذا البلد أن يُشرف شارع أو مدرسة أو معلمة إن وجدت بأسمائهم الطاهرة. فلا روح لأمة لا تاريخ لها بخيره و شره و لا خير في أمة لا تمجد و تخلد ذكرى أكابرها.
من هذه الصورة هل يمكن لأحدكم الحديث عن مفهوم الدولة و عن ماذا نريد نحن؟
أتوهم أن “العبقرية الموريتانية”، التي تسمح للبدوي القادم قبل عامين من الريف والأدغال بالحديث في وسائل الإعلام عن “العولمة” والتنظير لحرب البلقان، والأزمة الاقتصادية العالمية، وحماية البيئة من خلال “الأفران المحسنة”، وللمنبوذ الأخلاقي بتزعم الائتلافات الحقوقية والحزبية،… أتوهم أن لدى كل فرد موريتاني “تصورا متكاملا” عن سبل حل “أزمة فقدان الدولة” وتجاوز الوضعية الراهنة.
أتوهم، وأنا أتمنى أن أكون على خطإ في هذه، أن المثقفين الموريتانيين، والسياسيين الوطنيين، يتصورون أن المقاعد والمكافئات والمسكنات، ما تزال قابلة لإعطاء مفعول إيجابي في السلم الاجتماعي أو التطور نحو الدولة المركزية ذات السيادة الجوهرية لا المزيفة.
أمام موريتانيا سيناريوهات صعبة جميعها.. وتكمن صعوبتها في أن المسئولين الحاليين عن ما هو موجود من “قوة عمومية” ليسوا على مستوى معرفي استراتيجي و ليس لديهم من السكينة و الحدس السياسي ما يؤهلهم للتعامل مع أي من هذه السيناريوهات التي باتت محتملة الوقوع بالنسبة لأي منها.
إن التفكير في معوقات قيام الدولة الموريتانية لا يكون له محل من الإعراب أو محاولات الطرح الجادة، في ظل ما نراه من المنهج الحالي عبر صرف كل التفكير والجهد في سبيل توجيه ضربة إلى اعل ولد محمد فال بولد داداه أو مسعود وبيجل ببيرام، أو صار مختار ابراهيما ب”أفلام”.. هذا مضحك حقا في زمن المبكيات.. هذا يشبه اللعب مع خيوط الدخان وترك ألسنة اللهب تحرق المزيد من عفش البيت.
لقد هزم الموريتانيون جميعا في مشروع إقامة الدولة، وكما قال ونستون تشرشل “فإن الإجابة الوحيدة على الهزيمة هي الانتصار”، وشخصيا لا أعتقد أنه يوجد أكثر بؤسا من شعب يعيش في اللادولة. وهذا يحتم علينا الانتصار ليس عبر استيعاب الواقع الذي هو صورة قريبة كما يقولون، بل عبر التحرك السريع نحو المنجيات من المأزق الذي يتربص بنا جميعا، والذي لا ضوء في نهاية أنفاقه المتشعبة.
أخشى ما أخشاه أنه لم يعد أمامنا في موريتانيا ممرا مفتوحا لنعبر من خلاله إلى المستقبل الآمن، ومن فقد الممر المفتوح لا بد أن يواجه الصدام، هذه هي النتيجة المنطقية لألف سنة من غياب الدولة، وأكثر من قرن من الزمن من الرضا بسياسة التدمير الذاتي، التي برمجنا عليها الاستعمار الفرنسي، وبرعت “نخبة البرتزام” في ترجمتها و ديمومتها عن وعي أو غير وعي.
إن الطلب إلى هؤلاء بالتغيير أمر عبثي، لأنه من غير المطلوب من إنسان أمي أن يضع احمرارا على ألفية مالك.
إذا تفاقمت الصراعات داخل المجتمع فانظر إلى الجغرافيا قبل أن تعيد قراءة التاريخ، وهذا ما أريد النخبويين الوطنيين التفكير بالعمل على أساسه، فالكيان الوطني لم يعد أرضا محايدة للخلاف والاختلاف والتنوع المثمر والمفيد، لقد نضجت ثمرة الانسلاخ من القيم ومن الكيان ليتحول إلى منطقة مستباحة حتى في المشاريع الفردية.
لقد ورد علي سؤال من أحد الأصدقاء: ” لو كنا استودعنا بلادنا لآل كابون (AL CAPONE)، هل كان حالها أسوء من ما هي عليه اليوم؟” الله أعلم!..
***
إن موريتانيا بحاجة اليوم في مشروع الدولة إلى شخص يملك حدس المشروع، وهذا النوع من الرجال نادر الوجود.
فقد أثبتت التجربة و التاريخ أن الشعوب لا تنهض دون إرادة سياسية مصممة و مخلصة، ولا تتقدم دون إحداث التغيير المناسب في وقته، والله تبارك وتعالى يقول في محكم كتابه: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}، و ليت شعري فهل يتوق الموريتانيون إلى تغيير ما بأنفسهم و إلى التجديد، تجديد و تحديث مناهجهم العملية و العلمية و تصويب زوايا نظرتهم إلى الحياة وإلى كسر الوهم بينهم وبين حياة طبيعية متطورة.
إن وطننا يواجه اليوم منعرجا خطيرا على مفترق الطرق، يحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى إلى وثبة نوعية و انصهار جميع أبنائه الصالحين كل من موقعه في بوتقة واحدة من أجل إنقاذه، وراء ربان ماهر لسفينة في بحر طامي و موج متلاطم من ترسبات الماضي الأليم و عواصف عالم متغير من سيئ إلى أسوأ.
نعم، إن بلادنا في حاجة ماسة و مستعجلة إلى زعيم فذ و قائد مجدد، ملهم و متبصر، متشبث بطرح واقعي غير انتقامي و لا رجعي غير مفرط و لا مفرﱢط، له شفقة في صرامة على شعب عصي على الانصياع و الانضباط و الالتزام، يغضب للحق و له ينتصر، يمسك العصا من وسطها و يرسم منهجا ممحصا يتبنى كل ما من شأنه أن يجنب الوطن الزوابع و يسير به في خطى حثيثة على درب التقدم والنماء؛ له قدرة على تسيير الرجال و توظيف قدراتهم و طاقاتهم و خبراتهم، من بينهم ينتقي بطانة صالحة و مخلصة تعينه على الحق و ترشده إليه.
لأن بناء الوطن يتطلب استجماع جهود المخلصين من أبنائه، أصحاب العقول الراجحة والقلوب العامرة والأيادي النظيفة. فالوطن لا يبنى إلا بالاستقامة والعمل الجماعي الدءوب و إسناد الأمور إلى أهلها.
إن أمة استطاعت أن تقيم حضارة على ظهور العيس في فترة لا يتوفر فيها في البلاد غير الفيافي القفار، لقادرة اليوم تحت قيادة زعيم من هذا الحجم أن تقيم مجتمعا حرا مستقيما عادلا بفضل ما تختزنه من قيم و في ظل ما هو موجود من ثروات كثيرة وكفاءات تزداد باطراد.
ففي غضون أقل من عشرين سنة حول ماهاتير محمد ـ دون عصا سحرية ـ ماليزيا من دولة زراعية في مؤخرة لائحة الدول الفقيرة المتخلفة إلى دولة صناعية في مصاف العشرين دولة المتقدمة في العالم، انخفضت خلالها نسبة الفقر من 52% إلى 5% و ارتفع متوسط الدخل الفردي من 1247 دولار إلى 8862 دولار، و انخفضت نسبة البطالة إلى 3%. و هكذا حال اليابان و كوريا الجنوبية.
أما نحن فنراوح نفس المكان و نفس الزمان في هذا الحيز الجغرافي المقتطع بمشرط الاستعمار لأننا نعاني أزمة رجال و لأننا ندفع ضريبة الارتجال و الإرادات المتضاربة ، و لأننا نتهاون بالعلم و المعرفة. لم يعد لدينا مزيد من الوقت. فإما المبادرة إلى إعادة تأسيس شجاعة وحكيمة، وإما الاضمحلال لا قدر الله.
فهل من رجل موهوب يملك إرادة و قدرة إعادة التأسيس في موريتانيا اليوم؟
بقلم: الدكتور الشيخ المختار ولد حرمة ولد ببانا