شارلي ايبدو:فرنسا تضرب فرنسا!
د. دداه محمد الأمين الهادي
طالعتنا وسائل الأنباء العالمية على احتلافها بخبر حادث “شارلي ايبدو”، ورغم التوصيف للحادث بأنه جريمة نكراء، إلا أنه لم يحظ بالتعاطف الكافي، وبخاصة من قبل المسلمين والعرب، بل إن غربيين متحضرين فكريا، لم يروا في الحادث إلا رد فعل متناسب مع تفاهات الصحيفة المعتدية مبدئيا، بنشرها لصور مسيئة لنبي الرحمة –صلى الله عليه وسلم-، وللإسلام بصورة عامة.
شارلي ايبدو فيما يبدو من حالها لم تستوعب الدرس، فصدرت من جديد حاملة على غلافها صورة عابثة، متطاولة برسمها على سيد الوجود –عليه الصلاة والسلام-، مظهرة في الصورة رسما كاريكاتيريا باكيا، بلباس أبيض يذرف مرسومه دمعة، حاملا لافتة كتب عليها “أنا شارلي”، تحت عنوان “كل شيء مغفور”.
الرسم الجديد حمل توقيع “الفتان” الغبي رينال لوزييه، كي لا أقول “الفنان”، أو “الرسام”، ويقول التافه صاحب الهجمة الجديدة: “لست قلقا على الإطلاق، أثق في ذكاء الناس وذكاء الدعابة”، وإنه لأمر غريب أن يعتقد ذلك العتل الزنيم الأثيم، الهمزة اللمزة أن نبي الإسلام –صلى الله عليه وسلم- يمكن أن ينال منه عبث العابثين، وأن يتغاضى محبوه حول العالم عن ما يسيء إليه، فيتفهمونه كدعابة، ويفرشون لصاحبه الورد والياسمين والفل على أنه مبدع، وهو في الحقيقة بعيد عن الإبداع، والحس المرهف، وتفوح منه رائحة النتانة، إنه جيفة خنزير بري، ملقاة على جيفة فيل في بقعة الأزبال والنفايات.
وإذا كانت فرنسا فعلا بلد الحضارة، فعليها أن تتصدى لمثل هذه الهجمات، وأن تضرب على يد أصحابها، فالإساءة إلى الأديان مرفوضة دوليا، وإنسانيا، لا سيما إن تعلقت بدين الحق “الإسلام”، ذلك الدين الذي حفظه الله من كيد الكائدين، وزيغ أهل الزيغ، وآن للذين يعادونه أن يضعوا على أنفسهم السؤال الوارد: لماذا منذ زمان أباطرة قريش هذا الدين المحارب من قوى الظلام لم ينطفئ وهجه، ولم يخب نوره، وانتشر بسرعة؟ …
ويقودنا السؤال أعلاه، إلى سؤال آخر عن مصدر القوة في الإسلام، ومصدر القوة في الحملات على الإسلام، فأيهما الأقوى؟ …
إن الحملات التي قامت عبر التاريخ ضد الإسلام كانت دائما بقوة بشرية، تمتلك السلاح والمال، ولكنها فشلت في أن تحد من انتشار الإسلام، وهذا في حد ذاته دليل على أن الإسلام يحميه الرب جل وعلا، ومن هنا فإن حماية الإسلام ونجاته من الهجمات الهمجية مسألة مفهومة تماما لمن أعطي البصيرة، ومن درس العبر الخالدة في مسيرة الإسلام، ومن أواخرها الهجمات الأمريكية المتكررة على العالم الإسلامي، وجرها لبعض حكام المسلمين لينحو منحاها، ويساعدونها في تضييق الخناق على المسلمين، وفي المحصلة من تلك الهجمات ظل الإسلام ينتشر في أمريكا نفسها، وفي جيشها، وصارت الحليفة ابريطانيا هي الأخرى تزداد إسلاما، ويصبح الاسم الأكثر شعبية فيها، هو اسم نبي الرحمة –صلى الله عليه وسلم- “محمد”.
إن فرنسا نسيت نفسها، وكونها بلد القساوسة وحقوق الإنسان، يوم سمحت لصحيفة رديئة المضمون والاخراج بالهجوم على الإسلام، ونسيت أن الديانات لا سيما الحقيقية منها ليست مكانا للعبث، فالإسلام قدس الحق دائما، ولم يسمح بالرسومات العابثة لأي نبي أو رسول، والمسلمون هم أحرص الناس على قراءة قصص الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- والتأسي بهم، والمسلمون هم أكثر الناس استفادة من تاريخ النبوءة، إذ يرون في كل نبي درسا حيا في الصبر على الأذى والضيم، ومقارعة الباطل بالتي هي أحسن.
ففي بداية قصة كل نبي تجد شخصية معصومة، في غاية النبل والطهر والصدق والإخلاص، لا تمتلك المال والنفوذ، تجابهها قوى الشر بمالها ونفوذها ورجالها وجبروتها، فتبدو القصة بموازين العقول المادية محسومة سلفا لصالح النماردة الفراعنة من البشر السيئين، الملوك الصعاليك، وفي نهاية القصة تجد النبي الوارد في القصة، تغلب على قوى الشر مجتمعة بالتوفيق الإلهي، وكسر شوكة الباطل، وإن مات بعض الأنبياء-عليهم الصلاة والسلام- قتلا من قبل قوى الظلام، فإنهم يموتون مخلصين لمنهج الحقيقة، لم يتزحزحوا عنه قيد أنملة.
تضرب فرنسا بيد من حديد فرنسا ذاتها، حينما تشجع فرنسا الغلو والتطرف بالسكوت عن “الرسوم المسيئة”، ولا تغير الرسوم مجرى انتصارات الإسلام، وانتشاره، ولا تزيد فرنسا على أن تكون مجرد رقم مجرد في تاريخ طويل، أراد أصحابه أن يطفئوا نور الله بأفواههم، وكلهم انطفأوا، ونور الله لا ينطفئ أبدا، ويتم الله نوره.
وإذا كانت فرنسا هي من نشرت الخراب والدمار في دول المسلمين، وشجعت التطرف والإرهاب بإنهائها لحالة السلم في مجتمعات عربية كالمجتمع الليبي والسوري، وساهمت في زعزعة استقرار مجتمعات إسلامية كبرى في أفغانستان، فإن فرنسا تعيش اليوم حالة الارتداد الإرهابي في عقر دارها، وتفقد مكانتها بين الدول المحترمة عند محبي الحضارة والسلام.
ومن المعلوم أن الغرب بما فيه فرنسا يوطد حالة “الكيل بمكيالين” كسياسة مقيتة قديمة، اختارها شعارا لتدخلاته الآثمة في الحروب والنزاعات العالمية، فحين يتغاضى الغربيون ومنهم الفرنسيون عن نار الصهاينة في “فلسطين”، إنما يكرسون “الانتقائية في العدالة”، فقيادات عربية استدعيت من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وحتى اليوم لم يستدع يهودي واحد منذ مجازر “دير ياسين”، وحتى الهجمات الغاشمة ضد العزل في غزة، المتواصلة يوميا.
وحين يتدخل الغربيون في ليبيا بالطائرات، فإنهم لا يتدخلون –كما يعتقد الهمج- لإنهاء حاكم حليف لهم، أو مداهن لهم، بل يتدخلون كمنتفع دولي، من أجل خلق الفوضى، وتعميم الدمار، والحصول على النفط والغاز، وعقود إعادة الإعمار.
وإذا لم يتدخل الغرب بما فيه فرنسا في حالة سوريا بالحالة المباشرة، فإنه يسعى إلى خلق بؤرة صراع واسعة، وإنهاء الدويلات العربية القائمة لمصلحة إسرائيل، والتخلص من متشددين إسلاميين بالتهجير إلى سوريا والعراق ولبنان، وفي المستقبل يشتعل الشرق “الأوسخ” كله، وينشغل المسلمون في حروب بينية لا تقدم ولا تؤخر، وتقتصر مهمة الجيوش الغربية على تأمين خطوط أمامية لشراء النفط من قبل الميليشيات المتصارعة، والمسلحين بثمن بخس، قد لا يتعدى فتات خبز مسموم، وأسلحة صديئة، لا يستخدمها الغرب في حروبه الحالية، لأقدميتها، ولكونه يمتلك اليوم أسلحة جد متطورة، كالجراثيم والأوبئة والأمراض الكيميائية، التي صارت تهدد عالمنا المعاصر.
وحين تفرج الغرب على حرب يوغسلافيا القديمة، إنما كان ينتظر أن يبيد الصرب مسلمي البوسنة والهرسك، حتى يعاد تشكيل الإثنيات على أسس جديدة، يكون المسلمون فيها أقلية، إن هذا الغرب لآثم.
لكن المعادلة الغربية ليست سليمة، وما حالة فرنسا إلا خير مثال على ذلك، فالصراعات التي تذكيها الدول الإمبريالية، وتديرها عن بعد، وتراقب ساحاتها بالأقمار الصناعية، كل تلك الصراعات ستعبر إلى الدول المنتجة لها، وستخلق فوضى لا نظير لها في العالم، فالحروب في معظمها أفكار ومبادئ ونظريات قبل أن تكون تجارب مريرة، والأنترنت في حد ذاته حمل إلى الغرب ذات الأفكار السلبية، التي أرادها الغرب استعمارا فكريا للعالم المستضعف، فكثير من الغربيين يحملون الأفكار الهدامة ضد أوطانهم.
في النهاية يمكن اعتبار تجدد الرسوم المسيئة وجودا لأسباب غير مانعة من الارتداد الإرهابي، بل إن الرسوم التي نشرت في ثلاثة ملايين نسخة من شارلي ايبدو ما بعد الأحداث، ستكون دليلا على أن مفهوم الحقوق والحريات ممسوس في فرنسا، فلم تعد حريتك في فرنسا تنتهي عند حدود حرية الآخرين، ولم تعد حقوقك في أن تحترم ديانتك وعقيدتك مصانة في فرنسا، ففرنسا بهذا المفهوم تعيد تشكيل قوانين واتفاقيات حقوق الإنسان بشكل سيء ورديء، ووتعطي للإرهاب والغلو أسبابا إضافية لمعاداة فرنسا-شارلي ايبدو، والدول التي ستنشر فيها شارلي ايبدو، والدول التي ستفتح فيها صفحات تلك المشؤومة على النت.
ويبقى على فرنسا أن تعي جيدا أنها لن تنهي الإسلام بالكاريكاتير، ما دامت أمم أخرى من أجداد فرنسا لم تنهه بالسيف والمال والنفوذ، كما لم تنهه طائرات أمريكا وحلفائها، ولم تنقص منه قبضات حكامنا العرب المخذولين، ومن على شاكلتهم.
للتواصل: