نعم. حرب بالوكالة/أبو العباس ابراهام
نُبئتُ مؤخرا- ثم تحققتُ- أن عميد الصحافة الموريتانية محمد فال ولد عمير قد ألمح في لقاء علني إلى عدم صدقية وإخلاص وصف حرب الجنرال عزيز في مالي بأنها حرب بالوكالة، ذلك، حسب ما يقرر الصحفي، أن زعيم القاعدة في المغرب الإسلامي هو أول من وصفها بالحرب بالوكالة ثم أخذتها منه المعارضة الموريتانية. ترجمة: إن ما تقوله المعارضة عن الحرب بالوكالة هو دعاية للقاعدة. وهذا تقريبا هو نفس توجه وزير الإعلام الموريتاني الذي ذهب بمنتهى المسرحية إلى القول أن المعارضة الموريتانية تخوض حربا بالوكالة عن القاعدة عند تلفظها بالحرب بالوكالة.
لقد كان يمكن لهذه المعلومة أن تمضي دون معاكسة لولا مسألتين: أولاهما أن صحفيا في قامة الأستاذ ولد عمير هو من أطلقها. أما الثانية فهي أن العبد الفقير إلى الله هو الذي سبق إلى إطلاق صفة الحرب بالوكالة. وهو عبد معروف أنه ليس بينه وبين القاعدة إلا خرط القتاد. ولقد أطلق هذه الصفة في مقال بعنوان “ضجيج على الجبهة الجنوبية” نشره أساسا على موقع تقدمي بتاريخ 23 أغسطس 2010 بعد ساعات على تداول المعلومات بخصوص غزوة فرنسية موريتانية على مخيم للقاعدة في شمال مالي. ولم تتبن المعارضة الموريتانية هذا الوصف للحرب بأنه حرب بالوكالة إلا بعد 24 ساعة.
لم تخطر فكرة الحرب بالوكالة على أمراء الحرب القاعديين إلا لاحقا: وبتاريخ 17 سبتمبر 2010 أو 11-11-2011 بالنسبة للمختار بلمختار أي بعد قرابة سنة.
ربما كان الاختلاس والانتحال من بين الأشياء النادرة التي تعلمها دروكدال وبلعور والبارا في المدرسة. ولكن في الوقت الذي كانوا فيه يرددون مصطلحات متداولة في الساحة كان الوصف قد أصبح شائعا؛ وليس هذا بسبب أن كاتبا مغمورا في موريتانيا أطلقه، بل لأنه كان يعبر- من زوايا متفرقة- عن وجهة نظر كثير من المتابعين. فقد رأت صحيفة ليبراسيون الفرنسية تآمرا ساركوزيا مع الجنرال عزيز، وقد رأت صحيفة لونوفيل أبسورفاتير الفرنسية بتاريخ 22 ابريل الماضي أن الجنرال عزيز وساركوزي تورطا في حرب في شمال مالي، زاد فيها من تورط فرنسا كون الجنرال عزيز كان يقدم فيها معلومات مغلوطة لساركوزي. أما ريك روزوف، الذي اشتهر بنضاله ضد التدخل الغربي في العالم، فإنه يرى أن الجيش الموريتاني ينتظم ليس فقط في إطار حرب بالوكالة بل وأنه ينتظم في إطار ما أسماه “قوات بالوكالة” تعمل لصالح الأمن الغربي والناتو في المنطقة.
إن أول شيئ على الذين يدفعون ضد استخدام مصطلح “الحرب بالوكالة” أن يعرفوه هو أنه ليس مجرد مصطلح من مصطلحات المعارضة الموريتانية، بل أنه نقطة التقاء لكثير من التحليلات بخصوص بعض ما يحدث في منطقة الساحل، وليست الحالة الموريتانية إلا جانب قطعة الثلج البارزة منه.
إن السؤال الذي كان على الصحفي طرحه على قيادي تواصل ليس عن مصطلح الحرب بالوكالة فهذا مصطلح يعبر عن تصورات كثيرة متناغمة وغير متناغمة. كان عليه بالأحرى أن يسأله عن كيف تبناه حزبه، الذي وصف تلك الحرب أول ما وصفها بأنها “حرب نبيلة” على لسان نائب رئيسه، ثم عدل عن هذا الوصف لاحقا.
السؤال الذي يجب أن نطرحه ليس عن من يتلفظ بأمر “الحرب بالوكالة” ومن سكه من أصله. بل لماذا يتحدث الكثيرون عن “الحرب بالوكالة”؟
إن هنالك عدة اعتبارات، تحليلية أكثر ما هي سياسية، تدعونا لاعتبار الهجمات الموريتانية في شمال مالي حربا بالوكالة ليس آخرها أن موريتانيا هي الدولة الوحيدة من بين الدول الأربع التي تقع القاعدة في حومتها،التي قررت متابعة القاعدة خارج أراضيها. وهذه الأسباب تتعلق بأن هنالك إرادة غربية بل وقرارات لشن غارات في شمال مالي ولمنافع فرنسية واضحة. فقد تم تنسيق الهجوم الأول، غداة اقتراب انتهاء مهلة إعدام رهينة فرنسي مختطف في شمال مالي، في أغسطس 2010 في اجتماعات أمنية في الأليزي ضمت الرئيس ساركوزي ووزيره الأول ووزير داخليته ووزير الخارجية ووزير الدفاع وقائد الأركان العامة وقائد الأركان الخاصة ورؤساء أجهزة المخابرات والأمن إضافة إلى الأمين العام للأليزى. ثم قرر قائد القوات المسلحة ساركوزي إنفاذ عشرات الجنود الفرنسيين لتحرير الرهينة الفرنسي ميشيل جرمانو، خصوصا أنه كان يقع في قبضة عبد الرحيم أبوزيد الذي لم يكن يرغب، عكس الجماعة القاعدية التي قبضت على فرانسو بييركاميت قبل أشهر، في التفاوض مع فرنسا. وهكذا قرر ساركوزي أنه يجب تأديبه وتخليص الرهينة الفرنسي منه بالقوة، حسب ما عرفته صحيفة لوبوين الفرنسية.
لم تتحصل المشاركة الموريتانية في عملية تحرير الرهينة الفرنسي، المختطف خارج موريتانيا والمعتقل خارجها، إلا عندما تحققت الإرادة الفرنسية. وكما هو معروف لمتتبعي هذه الأنباء فإن وزير الداخيلة الموريتاني نفى أولا أي أمر بخصوص التدخل الفرنسي جملة وتفصيلا، لولا أن فرنسا كشفت الأمر وتسرب لاحقا من خلال صحافتها. كيف لا يمكن تسمية هذا بالحرب بالوكالة؟
لقد جرت بعد هذا مناوشات معينة في أدغال غابة واغادو في يونيو 2011 ولكنها غامضة التفاصيل ليس فقط في نتائجها (فقد أعلن طرفاها الانتصار وبنتائج متباينة) بل يلف الغموض أكثر أهدافها الاستيراتيجية. رغم هذا فإن السياق الامبريالي لهذه المعارك واضح. فقد خاضتها القوات الموريتاني بدعم لوجستي أمريكي واستخباراتي فرنسي. ومن الواضح أن منطقة الساحل تشهد منذ فترة مخططا لإلحاق قوات الدفاع في دول الساحل بدرع أمريكي (الأفريكوم) وأمريكا تحدد هذا السياق بشكل واضح من خلال تقرير البيت البيض حول استراتيجية الأمن القومي، المنشور بتاريخ مايو 2010.
ولا ينافس هذه الرغبة الأميركية إلا الأطماع الفرنسية المتلخصة في امبريالية ساركوزي الذي حاول بعث مشروع الأوكر (المشروع الاستعماري الفرنسي الذي عرف بمنظمة منطقة الصحراء). لقد كتب الكثير من الدراسات الاستيراتيجية بخصوص الطموح الفرنسي للتحول إلى قوة ضاربة في منطقة الساحل والصحراء. وهو ما ترجمته فرنسا إلى تدخل قوي في ساحل العاج وليبيا إضافة إلى تنسيق قوي مع موريتانيا في مالي.
ومن المهم أن نتذكر أن موقف المعارضة الموريتانية ضد مشروع الناتو هذا كان من أكثر مواقفها تماسكا، ذلك أنها عارضته بشدة في ابريل ومايو 2008 عندما تم الحديث عنه في أيام حكومة ولد الشيخ عبد الله التي ردت بأن الأمر لا يعدوا كونه تدريبات أميركية لوحدات عسكرية موريتانية في أطار.
إنه من الواضح أن الحرب الموريتانية مع القاعدة لا يمكن أن تفهم إلا في سياق المصالح الغربية وتوكيلها للقوات المحلية للعمل معها فيها.
ولا يمكن فهم هذا إلا في إطار علاقات موريتانيا مع القاعدة. فالأدلة تشير إلى تفاهم موريتاني مع جماعات القتال وقعته حكومة ولد الطائع في 2004 من خلال وسطاء قبليين في شمال مالي. ويبدو أن موريتانيا لم تصبح هدفا للقاعدة إلا في الفترة 2005-2008 في إطار بحث هذه عن الأسلحة وتمولها بالهجمات الخاطفة على الجيش الموريتاني واستلاب عتاده (ويجب أن نعزل عملية السفارة الفرنسية في يوليو 2009 وعملية ألاك في 2007 من هذا التحليل هنا لأنها تتعلق بعناصر من هواة الإرهابيين المستقلين عن القاعدة ويريدون إثبات أهميتهم للقاعدة أكثر مما تتعلق بمواجهة للقاعدة مع موريتانيا. أما عملية باسكنو2010 ومحاولة نواكشوط2011 فهي جزء من تداعيات “الحرب الاستباقية” أو “الحرب بالوكالة”). وقد انتهت هذه الفترة بمذابح قاسية للجنود الموريتانيين (لمغيطي وتورين والغلاوية 2005-2008) دون أن يرد النظام ولا مرة واحدة. ومن الواضح أنها انتهت لأن القاعدة لم تعد تحتاج للهجوم على الجيش الموريتاني للحصول على المال والعتاد. فمنذ 2008 استطاعت القاعدة كسب 70 مليون يورو من الفديات التي دفعتها لها الدول الغربية (آخرها تم بتسهيل ووساطة من الحكومة الموريتانية). وانتهت جولاتها السريعة للتمول بالأسلحة.
لقد تغيرت معطيات كثيرة بعد العملية البرية التي قامت بها موريتانيا في شمال مالي في يونيو 2011 فمن ناحية انهارت الدولة المالية ومن ناحية أخرى سقط مشروع الأوكر الجديد لساركوزي، كما سقط ساركوزي نفسه. وظهر نظام جديد ليس مثاليا بأي حال، بل هو وريث للإدارة التي سبقته، ولكن يبدو لنا أن فرنسا أصبحت أكثر ميلا إلى حسم المعركة مع القاعدة في مالي بعمل جوي وترك القوات المحلية تقوم بهجوم بري في إطار الإيكواس. لقد أثبتت الولايات المتحدة من خلال استيراتيجيتها المؤخرة في الصومال أنها يمكن أن تقلل من خطر القوات السلفية في الأرض من خلال الضربات الجوية. وتستفيد من النظام القائم (نظام الإخوان المسلمين في هذه الحالة) في ضرب القاعدة سياسيا. وتذهب معظم الترجيحات إلى أن الحسم الأميركي الفرنسي يتجه إلى االاعتماد على ضربات جوية قوية.
وبالفعل فقد بدأت الطائرات الفرنسية بالفعل في استخدام الأجواء، والقواعد العسكرية في موريتانيا والنيجر، لتأمين هذه الضربات. ومن ناحية ثانية فإن المخطط الغربي بخصوص التصدي للقاعدة ربما أصبح يتعلق بحسم معركة إقليمية بقوات إفريقية.
يبدو ظاهريا أن موقف موريتانيا عدم المشاركة في هذا الخيار. إن هذا موقف جيد، ولكننا لا نعرف هل يتعلق الأمر بموقف تفاوضي. (قطعا هو لا ينبع من موقف مبدأي رافض للمشاركة في عمل خارج الحدود). وفي المقابل فإن قوى في الداخل، أصولية وقومية أو انتفاعية، تدعو إلى التدخل من أجل أسباب مختلفة (الثأر من مقتل الدعاة أو ضم أزواد أو تحقيق منطقة عازلة مع “السودان”). إن كل هذه القوى خطيرة على الموقف الموريتاني الطبيعي الذي شكل شخصيتها، وفي نفس الوقت ينبع من تصور أكثر أخلاقية وأكثر احتراما وهو “الحياد الإيجابي”. إنه لفي مصلحة موريتانيا أن أكثر القوى التي دافعت عن الحرب بالوكالة كانت من الأقلام التي تدور في خندق النظام (لا أقصد بهذا الأقلام المحترمة التي دافعت من منظورها الوطنوي عن الحرب خارج الحدود) وأن هذه الأصوات ستلتزم الصمت في لحظة صمت النظام الحالية. إن هذا الصمت لهو صمت جميل. وإنه ليستحق أن يستمر.
اضغض هنا لقراءة المقال من مدونة الكاتب