جاري البحث عن متطرفين..!!
المتأمل في التصرفات الغريبة للسلطة القائمة، وخاصة فيما يتعلق منها بتعامل هذه السلطة مع ملف “إيرا” لابد وأن يخرج باستنتاجات مقلقة مفادها أن هذه السلطة التي ابتلينا بها عاقدة العزم على خلق المزيد من المتطرفين من بين صفوف المعتدلين، وعلى زيادة نسبة التطرف لدى أولئك الذين كانوا في الأصل من المتطرفين.
دعونا نعد قليلا إلى الوراء لنُذكر بشيء من أرشيف العلاقة بين السلطة و”إيرا”، ودعونا نتوقف مع تصرفات بعينها، ودعونا نتأمل في تلك التصرفات بعقولنا لا بعواطفنا، ونحن إذا ما فعلنا ذلك، فإنه لابد وأننا سنتوصل إلى الاستنتاج أعلاه.
(1)
يقرر السيد “بيرام” أن يحرق أمهات كتب المذهب المالكي، فتقرر السلطة القائمة التي كانت على علم بالأمر بأن تصور المحرقة بدلا من أن تمنع حدوثها.. يخرج مواطن من منزله ويستنكر عملية حرق الكتب، فيتم الرد عليه بالضرب المبرح.
بعد ذلك يجمع الموريتانيون على إدانة المحرقة، وتخرج جموع حاشدة في كل أرجاء الوطن في مسيرات منددة بتلك المحرقة ومطالبة بمعاقبة مرتكبيها، وبقية القصة تعرفونها : استقالات كثيرة في “إيرا”..إعلان ندم من رئيس حركة “إيرا” على حرق الكتب..تمر فترة من الزمن يطلق بعدها سراح “بيرام” وصحبه، ومن دون محاكمة ..العودة إلى تمجيد المحرقة.. الإعلان عن ترشح “بيرام” في الرئاسيات بعد حصوله على توقيعات من طرف مستشاري وعمد الحزب الحاكم، بعضها كان مزورا.. تزكية المجلس الدستوري (أعلى هيئة دستورية في البلاد) لترشحه ..فتح القنوات التلفزيونية “الحرة” التي تأتمر بأمر السلطة أمام السيد “بيرام” لسب من يشاء بالطريقة التي يشاء، ثم فتح وسائل الإعلام الرسمي خلال الحملة الانتخابية لتمكين خطابه المتطرف من الوصول إلى عدد أكبر من الموريتانيين..تنتهي الحملة، ويعلن عن نتائج الانتخابات، وعن احتلال المرشح “بيرام” للمرتبة الثانية.
(2)
تمر الأيام على حالها، و ينظم السيد “بيرام” مؤتمرا صحفيا في اليوم الذي يسبق يوم اعتقاله في “روصو”، ويتحدث في ذلك المؤتمر بلغة وديعة وناعمة فاجأت كل المراقبين..يعلن السيد “بيرام” خلال المؤتمر الصحفي عن نيته في التوقف عن سب العلماء، وعن استعداده لمحاورة الجميع..في اليوم الموالي يتم إلقاء القبض عليه في “روصو”، ولتتم محاكمته، وليحكم عليه بعد ذلك بسنين نافذتين.
فلماذا أطلقت السلطة سراح “بيرام” بعد حرقه للكتب وذلك رغم أن الموريتانيين كادوا أن يجمعوا على التنديد بحرقه للكتب؟ ولماذا حكمت عليه بعد ذلك بسنتين نافذتين بعد اعتقاله في “روصو”، وذلك رغم أن الموريتانيين كادوا أن يجمعوا هذه المرة على براءته؟
وإذا كانت السلطة القائمة قد ندمت على إطلاق سراح “بيرام” بعد حرقه الكتب، وإذا كانت قد أرادت أن تكفر عن ذلك بسجنه من جديد، فلماذا لم تلق القبض عليه أثناء سبه وشتمه للناس، أو خلال تهجمه اللفظي على العلماء أثناء خطب الجمعة؟
ولماذا انتظرت السلطة حتى تحدث الرجل بلغة معتدلة فاجأت الجميع لتلقي القبض عليه في اليوم الموالي؟ فلماذا تجنبت السلطة القائمة القبض عليه في تلك الأوقات التي كان يخالف فيها القانون بشكل صريح، وألقت عليه القبض في وقت لم يرتكب فيه جرما ولا مخالفة تستحق أن يعاقب صاحبها حتى ولو بالسجن لخمس دقائق؟
إن الحكم على السيد “بيرام” بسنتين نافذتين بعد أن تعهد علنا بأنه سيتوقف عن سب العلماء، وبعد أن أعلن صراحة عن استعداده لفتح حوار مع الجميع لا يمكن تفسيره إلا بشيء واحد، وهو أن السلطة القائمة لا تريد السيد “بيرام” معتدلا، وإنما تريده متطرفا.
(3)
أن ترفض السلطة القائمة فتح أي حوار وطني حول قضية الرق، وأن تعمل على إقصاء وتهميش كل الأصوات المعتدلة، ثم تسمح في نفس الوقت للسفير الأمريكي بأن يطلق حوارا حول هذه القضية، وأن يحدد الأطراف التي يراها معنية بالموضوع، وأن يقصي أطرافا أخرى قد تكون أكثر اعتدالا..ألا يعني كل ذلك بأن السلطة القائمة قد أرادت تدويل هذه القضية، وقد أرادت أن تتركها بيد الجهات الأكثر تطرفا؟
(4)
تقرر السلطة أن تتعامل بعنف مع مسيرة “ميثاق حقوق لحراطين” المطالبة بإطلاق سراح معتقلي “إيرا”، ولا يسلم من ذلك العنف شيخ طاعن في السن وهو المناضل الصبور “بوبكر ولد مسعود”، والذي عرف بنضاله السلمي خلال ما يقترب من أربعة عقود..أليس في ذلك تشجيع واضح للتطرف؟ وإذا كان “بوبكر ولد مسعود” قد شاب رأسه في النضال السلمي، ومن الصعب جره في آخر أيامه إلى العنف، أوَ لا يمكن أن يختلف الأمر عند بعض الشباب المتحمس المشارك في الوقفة والذي كان شاهدا على ما تعرض له “بوبكر ولد مسعود” من عنف؟ أوَ لا يمكن أن يؤدي ذلك ببعض الشباب إلى أن يكون أكثر تطرفا، وإلى أن يلجأ إلى العنف في نضاله بعد أن رأى بأم عينه كيف تتعامل السلطة القائمة مع شيخ كبير كان يناضل بشكل سلمي؟
(5)
يمكننا القول بأن تصرفات السلطة القائمة هي التي جعلت من السيد “بيرام”، والذي يمثل الصوت الأكثر تطرفا في شريحة لحراطين رمزا للنضال ضد الرق، فهذه التصرفات هي التي رفعت بيرام مكانا عليا في سلم النضال ضد الرق، وكان ذلك على حساب مناضلين معتدلين أفنوا أعمارهم في النضال ضد العبودية. إن السلطة القائمة هي التي شجعت التطرف داخل الشرائح، وهي التي أجبرت كل المناضلين ضد الرق على أن يقفوا اليوم خلف السيد “بيرام”، وعلى أن يدافعوا عنه بعدما أصبح الدفاع عنه نضالا ضد العبودية.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن السلطة قد أجبرت كل الموريتانيين المدافعين عن القضايا العادلة بأن يدافعوا اليوم عن “بيرام”، وبأن يجعلوا منه عنوانا لنضالهم، وذلك بعد أن تم اتهامه بتهم لم تقنع أحدا، وبعد أن تم الحكم عليه بسنتين نافذتين بسبب تلك التهم التي لم تقنع أحدا.
(6)
لا أخفيكم بأني لم أقتنع يوما بنضال السيد “بيرام”، ولا زلتُ إلى الآن أعتبره متطرفا، ولازلتُ أعتبر بأن كل ما يقوم به من “نضال” ليس في صالح الشريحة، ولا في صالح الوطن، وإنما هو في صالح شخصه، أو في صالح جهات أخرى، لازلتُ مقتنعا بكل ذلك، ولكني ورغم ذلك، فقد وجدتُ نفسي مجبرا بسبب حماقات السلطة القائمة بأن أدافع عن هذا الرجل حتى يطلق سراحه، لقد وضعتني السلطة القائمة، كما وضعت غيري، أمام مأزق أخلاقي خطير، وأجبرتنا جميعا من خلال تصرفاتها الحمقاء على أن ندافع عن السيد “بيرام” رغم أننا كنا ولا زلنا على قناعة بأن السيد “بيرام” هو شخص متطرف وصاحب خطاب متطرف يهدد تماسك ووحدة هذه البلاد.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل