الحريق العربي إلى أين؟
إستبشر الكثيرون بالربيع العربي، رمزا لدحر الاستبداد وتنظيم حياة الناس -خصوصا في الوطن العربي-، على أساس الشراكة وتكريس العدالة في كافة المجالات، لكن سرعان ما شكل إنقلاب مصر 3 يوليو2013 نكسة و ضربة قوية لهذا الأمل..
ثم اندلعت ألسن نيران الصراع السياسي الدموي في عدة دول عربية، كانت من أهم ساحات هذا الربيع العربي المتعثر، وبوجه خاص سوريا وليبيا واليمن والعراق ومصر، وتعمق الجرح وازداد نزيف الدم العربي الغالي، جراء رفض الأنظمة العتيقة المزمنة للتغيير وإصرار شرائح مهمة من الشعب على فرضه بالقوة أحيانا، ليمثل هذا الواقع حريقا عربيا متزايدا وخطيرا بامتياز، ولتتراجع على الأرض فرص الربيع العربي المتعثر بحق، رغم نضال شعوب عربية متعددة على استرجاع ثورته على المسرح السياسي المباشر، ورغم تحالف قوى علمانية وعسكرية محلية وإقليمية ودولية مناهضة للربيع العربي، الذي ترى فيه نذر حكم ديمقراطي عربي ذي وجه إسلامي غالب، الشيء الذي لا تقبله الأنظمة الاستبدادية العربية والقوى الغربية والصهيونية المتعاضدة، خوفا على وجودها ومصالحها، ورغم أن أول رئيس عربي منتخب ضمن الربيع العربي محمد مرسي، أبدى انفتاحا واستعدادا للتعايش الإيجابي مع القوى العربية التقليدية، حيث كانت أول زيارة له إلى المملكة العربية السعودية، عندما تسلم مقاليد الحكم في مصر.
وبغض النظر عن الطموح نحو الإنعتاق من الاستبداد والغبن في أوطاننا العربية وأحقيته، وبغض النظر كذلك عن موقف بعض الأطراف العربية الرافضة للربيع العربي، إلا أن الوطن العربي بدأ يدفع الثمن غاليا إثر هذا الصراع الميداني، الدموي غالبا، حول مسألة الحكم والتسيير في الوطن العربي.
فارتفع منسوب القتلى والجرحى والمعوقين واللاجئين، وأضحى الوطن العربي مسرحا لصراع خطير جدا، عربي عربي، تندلع نيرانه يوما بعد يوم، متوسعا في كافة أرجاء الوطن الحبيب.
ولنعلم أن من يدفع الثمن بالدرجة الأولى، هم عماد الإسلام والعروبة، المسلمون العرب على إختلافهم، وخصوصا في سوريا وليبيا واليمن والعراق ومصر والصومال، مما ينذر حتى بتراجع العنصر العربي واحتمال انقسام فعلي لعدة دول عربية، أو ربما غيابها لاحقا، لصالح كيانات انفصالية هشة طائفية، لا تكاد ترقى إلى مستوى دولة بالمعنى الصحيح.
إن الدم العربي المسلم أغلى من حل خلاف السياسة والحكم، وخير للمعنيين جميعا، أن يتقوا الله في أنفسهم وشعوبهم، ويراجعوا حساباتهم بدقة وحكمة وروية وسرعة، عسى أن تسلم بعض أطراف الوطن العربي من هذا الحريق العربي المتصاعد بعد تعثر الربيع العربي الواعد!.
ترى من يسمع النصيحة ومن يقبل التأمل الجاد قبل فوات الأوان؟!.
إن الفرصة تكاد تكون محدودة ومحفوفة بعقبات وعراقيل كبيرة شائكة، فلا داعي للتأخر والتباطؤ في الوقوف لحظة محاسبة شاملة متعقلة.
وعلى الصعيد المحلي مازالت موريتانيا بعيدة نسبيا عن الصراع الدموي على السلطة، وإن كنا نعاني من استبداد واضح في شؤون الحكم وغبن جلي متفاحش في المال العام، تحت ظل سلطة عسكري قاد انقلابين، إلا أن جنوح السفينة إلى ضفة العنف أمر قد لا يفضي بسهولة -ودون خسائر كبيرة- إلى الخلاص من النظام الاستبدادي القائم.
ومن الجدير بالجميع الحذر المضاعف من مجرد التفكير في وسيلة العنف للخروج من عنق الزجاجة، لأن ذلك السبيل مدمر وغير مأمون العواقب، وأقرب الأدلة هذه الشعوب المستعبدة فعلا من أنظمتها، ولكنها ازدادت خسارة على خسارة بسبب المسلك الصدامي الممزق.
وتبقى الطرق السلمية النضالية كثيرة، من عزل النظام وحشره في الزاوية واستغلال واستعمال كل الأساليب غير العنفية لمعالجة أزماتنا المرهقة.
وستبقى الأوضاع الصدامية مؤلمة في عدة دول عربية، وينبغي أن تثير الكثير من الشفقة والنظر الايجابي، لعل ذلك يرجع الشاردين عن مسار الرشد إلى وعيهم، للجلوس على طاولة التفاوض والتفاهم، مهما كانت نواقصه.
فديارنا العربية لا يناسبها إطلاقا، أن تكون ساحة حرب مفتوحة على المجهول.
حاجتنا ماسة للتغيير بعيدا عن ربقة الإستبداد والأحادية، ولكن أيضا بعيدا عن العنف والتمزق وإسالة الدماء العزيزة البريئة.
لقد جلب الربيع العربي القتال والصراع الدموي الحاد، لأسباب كثيرة، من أهمها إصرار الأنظمة المستبدة على البقاء على كراسي المنافع المعنوية والمادية المغتصبة، وكأنها لا تعير أي اهتمام لما يزهق من النفوس ويقطع من الأوصال ويفسد من الأموال والمكاسب المختلفة.
لقد أضحت مصر ساحة لحلف غير مقدس بين العسكر وبعض فلول العلمانيين الخاسرين انتخابيا، ضد من كسب ثقة الشعب عن طريق الاقتراع، وخسرها عن طريق فوهات المدافع وطعن السكين من الخلف والأمام على السواء في ميادين “رابعة” و”النهضة” وغيرها.
وفي سوريا الحبيبة تتحالف القوى الشيعية والروسية، ضد شعب أعزل إلا من سلاح محدود لا يكفي للتغلب على جيش كاسر.
وفي ليبيا مزق الوطن عن عمد، ما لم يقبل تكرار تجربة السيسي عبر حفتر.
وفي العراق تتم تدريجيا تصفية السنة، رغم تطرف “داعش” ووحشيتها، وذلك بدعم أمريكي إيراني صريح جدا.
وفي اليمن هدم كيان الدولة كليا تقريبا وهكذا في تجارب أخرى، فإلى أين نسير؟.
إنها تجارب عربية مريرة جديرة بالاعتبار، والسعيد من اتعظ بغيره، حتى لا نسير على نفس المنوال.
ونحن هنا أيضا نحكم من قبل مؤسسة عسكرية، قد تمزقها الأطماع يوما، وهي ضعيفة في الأصل، مع تعدد عرقي وطبقي هائل على مستوى الشعب نفسه.
وأقول باختصار نريد التغيير ولكن ليس عن طريق حمام دم مهما كانت الشعارات المرفوعة.
ولا غرابة في الانزلاق إلى نموذج مالي أو بوركنابي، وقد لا يكون مع استقرار نسبي في نهاية النفق، كما وقع في بوركينا ومالي، فالفسيفساء العرقية والطبقية عندنا، قد تقذف نحو المجهول، دون تدرج، إن تفتت كيانها وخرج عن السيطرة.
فالحذر الحذر من مسارات وخيارات العنف الأعمى، وليس ذلك طلبا أو ميلا للاستسلام للواقع الآسن، وإنما حرصا على التحول الآمن.
بقلم: عبد الفتاح ولد اعبيدن المدير الناشر ورئيس تحرير صحيفة “الأقصى”