ديانا مقلد ترى أن “الريشاوي” قتلت ظلما
ساجدة الريشاوي.. المرأة التي “احتفينا” بإعدامها
نقلت لنا الصور القليلة مشاهد لسيارة إسعاف تخرج من بوابة مستشفى ناقلة الجثمان بعد تنفيذ حكم الإعدام. سارت العربة بهدوء وقد أحاط بها على جانبي الطريق أشخاص إما التقطوا صورا أو وقفوا ليتابعوا من دون كثير فضول للحظات الختام البارد لحكاية امرأة اسمها “ساجدة الريشاوي”.
بدا هؤلاء في الفيديو القصير الذي انتشر على الإنترنت قليلي الاكتراث، وللحقيقة فإنّ أحدا لم يكترث يوما لهذه المرأة حتى من زعموا المطالبة بها.. لقد اختارت “داعش” أن ترمي بالطيار الأردني الشاب “معاذ الكساسبة” في النار في محرقة طاول لهيبها كثيرا، وكان القرار الأردني بأن الرد هو إعدام “الريشاوي” وإرهابي آخر هو زياد الكربولي.
وسيرة هذه المرأة التي كانت خبرا بارزا خلال الأيام الماضية بصفتها “إرهابية أولى”- على حد توصيف الكثير من العناوين الإخبارية- لم يتوقف عندها أحد. فاللهيب الذي مازال في وجداننا جراء الجريمة الفظيعة بحق الكساسبة التهم معه أي منطق أو عقل لنقاش ما حصل مع هذه المرأة وكيف ولماذا تم إعدامها.
لا يمكن اختزال من هي ساجدة الريشاوي بالقول إنها تلك المرأة التي فشلت في تفجير نفسها في عملية انتحارية عام 2005 في فنادق عمان. هذه المرأة هي من جيل القاعديات الأول اللواتي لا يشبهن بأي حال جيل الجهاديات الغربيات القادمات من أوروبا للقتال مع داعش بما يملكن من خلفية علمية ومعرفية تجعل منهن صاحبات قرار ومسؤولية جرمية، وذلك أمر يختلف كليا عن القاعديات اللواتي عرفناهن في العراق في العقد الماضي. ساجدة الريشاوي تنتمي إلى عائلة قاعدية بالكامل.
ليس تفصيلا أن شقيقا لها كان مساعد ملهم الداعشية “أبو مصعب الزرقاوي”، وأن شقيقين آخرين قتلا أيضا في العراق، وأن والدها قضى في السجون، وأن الزرقاوي جندها وزوجها صوريا لحسين الشمري ليأخذها معه إلى الأردن لتنفيذ العملية، وأن شقيقا آخر لها هو في قيادة تنظيم “داعش”.. هل حقا نصدق أن امرأة أمية فقيرة من بيئة محافظة تملك قرارها وتترك وراءها ثلاثة أطفال صغار أيتام وتتزوج شخصا زواجا صوريا بطلب من الزرقاوي وتذهب لتنفيذ عملية انتحارية لأنها مقتنعة بذلك وتريده.
لقد اعترفت ساجدة الريشاوي في التحقيق معها أنها فشلت في ضغط الزناد وتفجير نفسها، فهل حقا فشلت في ضغط زر صغير أم أنها لم تشأ ذلك.. في الحقيقة لم يكترث أحد في أن يعرف، اذ لم تستغرق محاكمة الريشاوي أكثر من نصف ساعة فقط.
في بيئة كالتي تنتمي إليها ساجدة يبدو أمرا عصيا أن تكون لها رغبة واضحة فيما كل حياتها تسير وفق ما قرره الأشقاء والأب والإرهابي الملهم الزرقاوي الذي أرسلها لتقتل وتموت.
في العام 2010 التقيتُ خلال عملي على فيلم وثائقي في أحد سجون محافظة “ديالى” العراقية بالشابة “نور” التي لم تكن تتجاوز الثامنة عشرة وموقوفة بتهمة زرع عبوات ناسفة بطلب من زوجها الناشط في تنظيم القاعدة والذي قتل بدوره.
قرأتُ الاعترافات المفترضة لنور واستمعتُ إليها تكرر ما جاء في إفاداتها.. فتاة ناعمة الملامح أمية لم تذهب إلى المدرسة يوما وزوجها أبوها وهي دون الخامسة عشرة إلى شخص من القاعدة. هي تنتمي إلى ما يعرف بعائلات قاعدية، فحين ينخرط الأخ والأب بالتنظيم تصبح مسألة الزواج خاضعة لقرارات أمراء التنظيم وعلاقاتهم العشائرية.
أتيح لي أن اختلي لدقائق بها لتهمس في أذني أن كل الاعترافات المنسوبة لها كاذبة وأنها عالقة بين أهلها والأمن.. خرجت من السجن وأنا أشعر بحيرة كبيرة حيال تلك الفتاة.. سواء تورطت فيما طلبه زوجها منها أم لا، هي بالنهاية تنفذ ما يطلب منها وليست في موقع قادر على غير ذلك.. وما تعنيه أن تكون نور أو ساجدة من عائلات قاعدية هو تلك التبعية الكاملة في قرارات المصير وتقبل العنف الممارس باعتباره جزءا من طبيعة الحياة.. يترافق ذلك مع جهل وبؤس وفقر.ففتيات ونساء تلك البيئة لا منفذ لهن على الحياة سوى تلك التي يسمح بها رجال العشيرة أو قادة القاعدة وحتى إن اختارت النساء مسارا آخر فلا سبيل للعودة إلى الوراء.
في محاكمتها قال محامي ساجدة الريشاوي، إنها امرأة لا تمتلك الدافع وراء الجريمة وهذا معطى أساسي لم تلحظه المحكمة.. حكم عليها بالإعدام حينها، لكنه لم ينفذ لأنها عمليا لم تقتل أحدا. وبالأمس أعدمت ساجدة الريشاوي “ثأرا” لحرق وقتل معاذ الكساسبة.
ساجدة انتزعت من نفسها منذ ولدت.. لم يتح لها يوما أن تكون هي، فالطفلة في تلك البيئة هي نسيج من القيم السلبية المعقدة.. وانتقالها إلى امرأة يضاعف من سلبية وجودها في الوعي العام.. فما بالك بفتاة مضطربة على ما نقل جيران سابقون للعائلة.. وهي انتزعت من نفسها أيضا عندما أرسلت في مهمة لقتل آخرين عبر قتل نفسها. وماتت منتزعة من نفسها ذاك أنها قُدمت قربانا في مائدة لم يكن لها يد في تدبيرها.