الرحّالة والمترجم السكير (الحلقة الأخيرة)
كم هو صعب أن نصف كل هذا الفضاء المترامي. فتيرس تشبه تازيازت، وتازيازت تشبه آكنيتير.. محيطات من الصحاري تبدو لتشابهها كما لو أننا رأيناها عدة مرات. إنها مملة ومحبطة.
بالنظر من قريب إلى هذا السهل اللامتناهي، حيث تنمو الصخور لغرانيتية الحادة المنتفخة بفعل الحرارة، نحس بأننا مهددين بمس من الهوس والوسوسة. إننا نريد أن نعض، أن نصرخ، أن نجعجع أمام هذه الشمس التي تعجز أن تجعل من السحب الغبية نقابا تتدثر به.
– من دجمبر إلى يوليو، تتغطى هذه اللحاء الخشنة بالعشب الأخضر، يقول لي المترجم محمد أعمر.
– حبذا لو أنني صدقتك، أخي محمد أعمر، لكنني لن أنتظر لكي أرى ذلك.. في أرضك أنت توجد على الأقل أشجار ومياه.. لكن متى نصل آدرار؟..
– أنا سئمت، وأنت سئمت، ونحن سئمنا من هذا “السويحل” الرتيب.
لم نر آدرار بعد، إلا أننا التقينا صدفة الأمير سيدي ولد عيده وهو أخ ملك آدرار. إنه في طريقه إلى لعلب يريد الاتفاق مع مولاي (اللص الشهير الذي تحدثنا عنه آنفا) حول حلف ضد عبد الله ولد اعلي ولد أحمد زعيم أولاد اللب: أحد أفخاذ أولاد ادليم.
سيدي ولد عيده يتجول وحيدا، دون حراسة، جالسا على جمله. يلبس فضفاضة واسعة من النيله الزرقاء، وينتعل أحذية من الجلد الأحمر، ويضع حزاما أبيض به خنجر مغربي، مع بندقية مرصعة.. رأسه مغطى بعناية، لكنه يميط لثامه عن فمه فور ترحيب محمد أعمر به. ولتصويره فالأمير في الثلاثين من عمره، فكه الأسفل متقدم قليلا إلى الأمام، لحيته طويلة سوداء، نظراته حادة.
بعد انتهاء التحايا، بدأنا الحدبث. أخبرنا بأن أحمد عيده علم بوجودنا. سألنا سيدي ما إذا كان الملك سيقبل بوصولنا إلى شنقيط.. يبدو من حديثه أنه لا يقبل، لأنه مقتنع أن اليوم الذي سيدخل فيه الأوربيون إلى بلاده سينتهي عرشه وربما حياته. تساءلنا كيف سنقنعه بالعكس؟.. قال الأمير سيدي ولد عيده موجها كلامه إلي:
– لماذا أنتم مصممون على الذهاب إلى أرضنا؟ أليس لديكم ما يكفيكم من السهول والجبال؟
– البيض لا يريدون الذهاب إلى أرضكم بغية احتلالها. إنهم لا يريدون إلا مسألة واحدة وهي المتاجرة مع البيظان لأنهم بحاجة إلى العلك، ومقابل العلك سيعطي الفرنسيون للبيظان قطعا من قماش النيله والتبغ والسكر والمرجان والعطور، وسيكون البيظان سعداء بذلك وسيتحصلون على ثروات بسبب هذا التبادل.
يهز مخاطبنا رأسه، قائلا:
– لا يمكنني أن أصدق ما تقوله، فإذا كان الله قد أعطى للبيض رأسا مزدوجا فقد أعطاهم أيضا قلبا مزدوجا، فهم أذكياء. أنت اليوم تريد دخول أرضنا كالمعزاة، لكن إخوتك الأوربيين بعد خروجك سيدخلون أرضنا كالأسود. وسيجعلوننا عبيدا كما جعلوا الولوف عبيدا.
– نحن لا نجعل من الشجعان عبيدا. أنت متشكك.
حاولت أن أزيح عنه غمامة الشك من خلال الكلام عن فوائد التبادل مع الفرنسيين، لكنه لم يزدد إلا تشكيكا، بل ازداد استهزاء بي.. لم يرد سيدي على خطبتي المثيرة. لقد اكتفى بالتحديق في من قدمي حتى رأسي. كان يجيل في النظر ببطء وتؤدة وبرودة، ثم يهز منكبيه ويبتسم بازدراء، وهنيهة اقترب من جمله، وبسرعة قفز على راحلته وأطلق له العنان. بقينا صامتين حيارى أمام هذا الفرار غير المفهوم. ثم بدأت التفسيرات والأحكام القاسية تجاه وريث عرش آدرار:
– إنه مصاب بشيء من الجنون.. يقول محمد أعمر.
– هو خائف.. يقول إدريس.
– إنها طريقة انسحاب مضحكة.. يقول بونيفال متمتما.
أما أنا فأقول في قرارة نفسي: “ربما كان علي أن لا أحدثه عن بلاده”. غير أن أجمل تعليق جاء على لسان مامادو:
– أنت ليس تأخذ بالك من جَمل سيدي؟
– لا، لماذا؟
– جمل سيدي عندما رآك أنت صرخ: هيو، هيو، كثيرا كثيرا يصرخ ويبدي أضراسه.
– آه، عندما رآني أنا صرخ: هيو، هيو.. جيدا، وبعد؟
– سيدي القائد لا تضحك، لا تضحك، فعندما يصرخ الجمل هيو هيو ويبدي أضراسه فلا شيء جيد، لا شيء جيد لأي شخص.
– إذن هناك خطر؟
– نعم، خطر، خطر كبير، أكبر من كل خطر. يجب نقول الدعاء، لكي لا يمسنا سوء.
كانت حرارة الشمس لا تطاق، وبعد 8 ساعات من السير المضني في تلك القفار، وصلنا إلى قرية. كان مترجمنا المخلص يبحث في الحي عن رجال من أولاد بسبع الذين ينزلون تارة هنا لمرافقتنا. التقينا زعيم القرية ابراهيم مختار.. وزعنا بعض قطع السكر وشفرات الحلاقة.. ورغم العهود الكثيرة بجزيل العطايا، رفض ابراهيم مختار رفضا باتا مرافقتنا وبالغ في ذكر أولاد الدليم في حديثه، مؤكدا أن الحي لا يستطيع مدنا بدليل لأن أولاد الدليم الموجودين قرابة 50 كيلومتر من هنا، إذا علموا بذلك، سوف ينهبون حتى الأطفال والنساء.
في المساء، ونحن تحت خيمتنا، أبدى لي بونيفال استغرابه من تصريحات ابراهيم مختار. قال بأنه يحس بتردد وممانعة غير واضحين. قال:
– هناك أمر غامض لم أتمكن من تفسيره في ما يخص تصريحات ابراهيم مختار. فالخوف من أولاد الدليم غير وارد وليس هو السبب الحقيقي وراء رفض مرافقتنا.
والحقيقة أن أولاد بسبع شجعان، ويعرفون معنى المتاجرة، وبالتالي فإن الوعود بربح الكثير من قطع القطن كان بإمكانه أن يقنعهم بالسير معنا. إذن هناك أمر آخر: نوايا سيئة، محسوبة ومعادية؟ لا أعرف.
– أخي محمد أعمر، ما الجديد؟
– يقول ابراهيم مختار ان سلطان المغرب العظيم مات.
– مولاي الحسن مات؟
الآن فهمت كل شيء: التردد وسوء النية. لقد أحدث الخبر اضطرابا لدى هذه القبائل المتخلفة، ويخشى من تزايد الغلو الذي سيكون “البيض” ضحيته الأولى. كل الأمور تتجه من السيئ إلى الأسوأ. وللمرة الثالثة منذ سفرنا وأنا أطرح على نفسي هذا السؤال: ماذا يمكننا أن نفعل؟. هل نتابع وقافلتنا تتكون من 3 حمالين وبضاعتنا أصبحت أقل من ثلاثة أثلاث بعد أن تعرضنا للسرقة والنهب عدة مرات؟ نتابع المسير في أرض أولاد الدليم؟ نتابع المسير وزادنا لم يعد يغطي مرحلتين من السفر؟ نعود أدراجنا إلى سان الويس؟.. نعم، نعود لأن متابعة المسير تبدو صعبة ولأن كل المنطقة المحاذية لتازيازت محروسة جيدا من قبل مجموعات لعلب. ماذا نفعل؟. ها هو المترجم محمد أعمر يقترح علينا أن نتوجه دون تردد إلى تيرس ونعبر أزفال وتجريت وآكشار وإنشيري وآمليل، ونصل ميناء هدي، وبعد أيام من محاذاة المحيط نصل سان الويس. هكذا يجب أن نعترف بأننا انهزمنا بفعل سوء الحظ وتسلسل أحداث غير مساعدة.. أي حالة محزنة هذه؟ وهل توجد في حياة الرحّالة ساعة تثير الشفقة أكثر من هذه؟ وكيف لي أن أتراجع عن مشروع يمثل اعتزازي وفخري مستقبلا؟ أذهب من سان الويس لأصل المغرب ثم أعود بعد الفشل في إحدى أعظم المهمات وأكثرها فائدة لبلادي؟ أتراجع عن مهمة كانت ستقود إلى تخليد اسمي؟ وبدلا من ذلك، وبدلا من الميدالية الذهبية التي ستمنحني مؤسسة الجغرافيا، ينحصر الأمر في جملة بسيطة: “البعثة التي حاولت ربط الصحراء فشلت تماما، فبعد أن وصل الرحالة منتصف المسافة كان مرغما على العودة”. والأدهى من ذلك أن الوزارة لن تقبل مجددا بتشجيع مهمة أخرى، وأن حسادنا سيحسبون أن ما عدنا به من معلومات مجرد كذب وهراء.
اقترح عليّ ابراهيم مختار أنني إن انتظرت شهرين معهم في حيهم يمكنه أن يجمع ما يكفي من المحاربين لمرافقتنا حتى واد الذهب. لقد نصب الفخ بمكر، لكنه لن يقتنصني. قلت لابراهيم أنني مصمم على الذهاب غدا، ليس إلى واد الذهب، لكن إلى السينغال، وطلبت منه أن لا يحاول إقناعي لأن قراري كان نهائيا.
في الصباح الباكر، وبعد أن نفضنا ما في جيوبنا لمضيفينا، بدأنا رحلتنا. ولكي لا نثير أي انتباه توجهنا نحو آكنيتير، غير أن المترجم محمد أعمر، الموجود في مقدمة القافلة، وبعد أن قطعنا مسافة كافية، غيّر الوجهة إلى اليسار للتمويه.. أية قافلة مشؤومة،. لم نعد نملك أي راحلة. لقد سرقت منا آخر رواحلنا. وأصبح بونيفال يجلس على الحشائش الجافة التي يضعها على ظهر جمله، ولم نعد نملك أي قطع من القطن. سرق كل شيء. أنظر إلى نفسي فأرى شعرا مبعثرا، وسخا، مقملا، مقرفا، ولباسا رثا ونعالا مهترئة، وأنظر إلى رفاقي فإذا هم مخبولون مذعورون حائرون.
ها نحن نرى قافلة كبيرة تقترب منا. قال محمد أعمر بصوت خافت:
– يجب الحذر، أهل أعمر ولد بده سيئون (مجموعة من أولاد الدليم). هيئوا بنادقكم.
برهة، انفصل كبير القافلة عن مجموعته واقترب منا وأخذ بذراع مترجمنا محمد أعمر وتنحى به جانبا.
قلت في نفسي “ماذا يعني هذا؟”.. تقدمت ثلاث خطوات إلى الأمام فقام ثلاثة فرسان من القافلة بسد الطريق أمامي.. حاولت الرجوع فسد ثلاثة فرسان الطريق ورائي.. إذن يتحتم علينا أن نكون دبلوماسين فالقوة لن تفيدنا أي شيء.. سألت محمد أعمر:
– ماذا يريد هؤلاء؟
– يريدون هدايا.
– هدايا؟ قل لهم بأنه لم تعد عندنا أية هدايا، وبأننا راجعون من سفر طويل وأن زادنا نفد كله.
قال كبيرهم:
– ليس عندكم قطع من النيله؟
– لا..
– ولا قضبان سكر؟
– أنظر بنفسك لترى أنه لم يعد عندنا أي شيء.
ثم أعطيت الأمر لعمر بأن يفرغ كل الحقائب ليروا أن كل المؤن نفدت.
كان لصراحتنا وقع حسن على فرسان القافلة، وبدأ الحديث يأخذ منحى أكثر سلمية، وغادرونا بسلام.
بعد ساعتين من المسير في ليل مدلهم، أنخنا جمالنا للمبيت. فجأة سمع الحارس الجَـمّال صوتا غريبا فأيقظنا. اقتربت الأصوات. إنهم نفس المجموعة السابقة تريد الإساءة إلينا. إن مجيئهم في مثل هذا الظلام سيكون وبالا علينا.. طلبت من أصحابنا أن يطلقوا النار باتجاههم، فأطلقنا قرابة العشرين طلقة، فهربت العصابة. وكانت المعجزة أنه لا أحد منهم سقط ميتا رغم كثافة النيران.
كنا نحث الخطى. نمر تارة بأحياء يقطنها أهل بارك الل.. تارة نبادل القليل المتبقي لدينا من التبغ بخروف أو عجل لنذبحه.. أصبح النوم مستحيلا مع ما يحيط بنا من أقذار وتوجسات. نمضي الساعات تلو الساعات دون نوم.. رأينا آثارا لقافلة.. لعل هناك من يتتبعوننا. قال المترجم محمد أعمر:
– يجب أن لا يتكلم أي أحد، يجب أن لا يدخن أي منكم، يجب أن لا نوقد النار وأن نهيئ بنادقنا.
لم نهاجَم هذه المرة، وفي الصباح التقينا بآثار أخرى.. لكننا نجينا مرة أخرى.
في يوم 25 يونيو، كنا قد أمضينا أربعة أيام ونحن لم نأكل غير البسكويت، وأصيب رفيقي بونيفال بمرض يبدو عضالا لأنه يزداد ضعفا وتزداد وتيرة الإسهال عليه. ولكي تكتمل فصول مأساتنا ها نحن نصادف حيا من أولاد اللب. لقد بدأت الطوابير الثقيلة لعشرات المتسولين. كان علينا أن نفتح الأكياس ونتركهم يأخذون ما يشاءون. وعلى مدى 12 ساعة كنا أمام هرج ومرج من الذاهبين والآئبين من وإلى خيمتنا.. إنه سيْـل من العجزة والعـُـرج والمعوقين والرعاة والأطفال والبالغين والعبيد والمحاربين… إنهم يخرجون من كل اتجاه وكأن التراب تنجبهم.. هل يمكننا الانفلات من هنا؟.. قلت لمامادو:
– اذهب وأحضر الجمال الستة.
– لا، لا. لا يوجد ستة الجمال.
– ماذا تقول، لا يوجد لدينا ستة جمال؟
– نعم، لا يوجد. البيظان لصوص، هم سرقوا واحدا من جمالنا بالأمس.
– كيف لم تخبرني، سأذهب إذن أشتكي لزعيم الحي.
عندما أتيت زعيم الحي لأشتكي له، انفجر مقهقها. فألححت عليه.. عندها غضب وقال لي بنبرة قاسية انه هو ورعاياه فوق كل الشبهات. غضبت أنا بدوري وتحدثت عن سلطة أحمد سالم (ملك الترارزه) وبابه ولد حمدي وسعد بوه وأوربا وفرنسا ووالي السينغال.. وبينما أنا أشرح قوة هؤلاء إذا بشيخ من التياب يقول لي:
– جملك لم يسرقه أحد من أولاد اللب، لقد جفل وستجده على طريقك على بعد ست أو سبع ساعات من السير.
لابد من قبول مثل هذه الأعذار في مثل هذه الوضعيات.
في يوم 27 يونيو توقفنا لنملأ قِـربنا عند قرية تن ابراهيم.. بدا بونيفال متعبا أكثر. وأصيب عمر بالحمى، رغم ذلك واصلنا رحلتنا لأن التوقف عند الآبار خطير، فالصعاليك النهـَـبة كثيرا ما يزورونها للتزود بالماء. بعد وقت من السير نرى من بعيد قافلة.. يأخذ الذعر كل مأخذ منا، تختفي القافلة ثم تظهر من جديد ثم تختفي، مفسحة المجال أمام شعور بالسعادة لا يتصور..
ها نحن ندخل آكشار المكون من فلوات يلفها الصمت الرهيب. لا حي، لا قرية، لا صراخ، لا حياة.. إنه أرض ملعونة,. نتابع السير في تلك الفيافي المقفرة متسائلين هل ما زلنا بالفعل على الكوكب الأرضي أم أننا انفصلنا عنه مقتربين من قرص الشمس؟.. إن ما يحيط بنا الآن ليس إلا الفراغ في كل تجلياته.. فجأة يحيط بنا أمجبور، فيطلب الرجال هدايا تحت التهديد.. أتركهم يعبثون بأغراضنا وأستجديهم أن يعطوننا كبشا نستعين به. غير أن زعيمهم البخيل يقول بأنه ليس لديهم أية كباش.. نواصل مسيرنا.. على مسافة من مكان الحادث، نجد قطيعا من قرابة ألف من الضأن. أقول لعمر وإدريس أن يأخذا لنا كبشين من القطيع.. يعترض الراعي لكن العامليْن يأخذان الكبشين عنوة.. لنواصل أيضا بعد أن شبعنا من اللحم الطري المأخوذ غصبا.. وفي المساء كان علينا أن نبيت، غير أن شدة الرياح منعتنا من نصب خيمتنا فنمنا في العراء وكان بونيفال يزداد مرضا.. كان صبورا بحيث لم يبد أي نوع من الشكوى، لكنه الآن اضطجع على التراب وهو مشلول لا حراك به. حسبت بأنه سيموت لا محالة.. كان جلده يزداد سخونة وكان يهذي بين النوم واليقظة. السود أيضا بدأوا يجوعون لأنهم لم يأكلوا منذ يومين. أتاني المترجم محمد أعمر ليقول لي بأن “الوضع لا يمكن أن يستمر لفترة أطول”.. واصلنا المسير جنوبا ليل نهار ونحن نحمل صديقي بونيفال على جمل وهو نحيف وقد استبد به المرض.. أيام وأيام من السفر باتجاه الجنوب، المبيت والمقيل، الترحال المتواصل، الإسراع المرهق، ثم ندخل أرض إدولحاج.. قال المترجم محمد أعمر: “يمكن أن نستريح هنا لفترة طويلة لأن كل المصاعب انتهت”.. طلبت من بونيفال أن يقبل بأن نرسله على وجه السرعة إلى السينغال فرفض متشبثا بالبقاء معي وأنه “إن مات فعليّ أن أفعل بجثته ما أشاء”. ابتعدت منه تلافيا للبكاء بجواره. (سيموت رفيقي الشجاع بونيفال بعد سنتين في باريس مخلفا جرحا من الأسى غائرا في روحي).
في يوم 14 يوليو، عند حي من الطلبه في قرية تن يحي، 50 كلمتر من سان الويس، وجدنا رجلا أسود يدعى بلال، يعمل مترجما للوالي، وهو مبعوث برسالة إلينا.. يقول بلال:
– جئت أحمل إليكم رسالة من الوالي لأخبركم بالأحداث التي دارت مؤخرا بين ملك الترارزه أحمد سالم وملك الوالو يمر امبودج بشأن خلاف بينهما حول بعض أراضي الضفة. ورغم وساطاتنا فإن علاقات الزعيمين تدهورت جدا، وكانت مواقف أحمد سالم عدائية تجاهنا لأننا ساندنا يريم امبودج وقلنا له بأن بإمكانه أن يستخدم القوة للدفاع عن مصالحه وعززنا وجودنا العسكري على الحدود. ويخشى من أن تنشب حرب في القريب العاجل بين الزنوج والبيظان، لذلك جئت أحذركم..
لقد فهمت الآن كيف تم نهبنا على يد لعلب، وباتفاق مع أولاد الدليم، رغم رسالة التوصية التي أعطانا الملك أحمد سالم.
في يوم 15 يوليو كنا عند أضاة الماركويني، وفي يوم 16 يوليو رأينا العلم الفرنسي يرفرف عند قرية انجاكو على بعد 16 كلم من سان الويس.. أمضينا يومين مع قائد الفرقة العسكرية الفرنسية.. استرحنا وتناولنا موائد جيدة.. بعد اليومين وضع السود أمتعنا في القارب المتوجه إلى سان الويس وودعنا المترجم محمد أعمر الذي أهديناه جمالنا التي عاد بها إلى ذويه عند قرية انواتيل على أمل أن يلتحق بنا بعد أيام في سان الويس.
بعد أيام كان علينا أن نتوجه إلى باريس.. حضر رفاقنا: محمد أعمر نديمنا الجيد، عمر الرجل الشجاع، مامادو الرجل الناعم، إدريس الرجل الطريف.. جاءوا كلهم لتوديعنا.. أعطوني عناوينهم، مؤكدين أنني إذا عدت فسوف يسافرون معي للقيام بنفس المهمة.. أخذني المترجم محمد أعمر جانبا وقال لي بأنه يحتاج إلى طابع لتأكيد زعامته على قبيلته، وأنه يطلب مني أن أكتب عليه بالعربية اسمه وصفته: “محمد أعمر، زعيم أولاد…”. لا أعرف هل له الحق في هذا الشرف، والحقيقة أنني أعتقد أنه يبالغ في ادعائه لهذه الزعامة، لكن لا يهم.. بعد وصولي باريس بعثت لمترجمنا بالطابع الذي يريد، وبالصفات التي يريد، لكنه لن يستفيد منه طويلا لأنه توفي في مستشفى سان الويس بعد أشهر قليلة إثر مرض أصاب أمعاءه.. لقد افتقدت بفقده صديقا حميما.
ملاحظة:جميع المعلومات الواردة في هذه الزاوية منقولة مباشرة من المصادر الاستعمارية فهي كتابة للتاريخ من زاوية واحدة ومن وجهة نظر الغالب لذا وجب التنبيه
المصدر: صحيفة انواكشوط