رواية “وجع السراب” وأنموذج الإبداع الحاضن

altكنت ولا أزال أتمنى أن تسنح لي فرصة الحديث المستفيض، وأنا لست ناقدا، عن رواية “وجع السراب” للكاتب المبدع والشاعر الإنسان، المختار السالم أحمد سالم. وإلى أن تتحقق أمنيتي تلك، فإن شغبَ الرواية، وإثارتها للانتباه، وإصرارها على التشوف من وراء أسطرها؛ حتمت علي أن أكتب عنها أسطرا تهدئ من انكسارات سرابها على صفحة الاهتمام، وتخفف من وجع أنموذجها الإبداعي الحاضن.

هذه الأسطر لا ترقى إلى مستوى الرأي النقدي، ولكنها تقف على عتبات التجربة التي تمثلها هذه الرواية، لتنصت من وراء تموجها، وضجيجها من خلف الستر، إلى ما تبوح به لقارئ لا يدعي الإلمام بلغة الأمواج، ولا بجبروتها، ولكنه يدعي الإحساس بإيحاءاتها في الفج العميق، بين التبني والميلاد، بين الإبداع والامتياح من النماذج الخصيبة، التي تنضح بها ثقافتنا الشفهية. وقبل أن أصعد إلى شرفات الرواية لأسترق السمع إلى الاحتدام الداخلي في أرجائها، فسأحدد موطئ أقدامي، وهو تعريف ما أعنيه بالنموذج الحاضن، وما أعنيه بالإبداع؟ ولا يتوقع مني القارئ الكريم أن أقدم له بالضرورة ما يعنيه هذا الموطئ، بالنسبة له هو أو بالنسبة لكاتب الرواية؛ إنما ما يعنيه بالنسبة لكاتب هذه السطور: أولا: النموذج الحاضن لا أتصور اليوم أن إنسانا جادا يحلم بأن يحقق انفصالا كاملا عن النماذج السائدة في ثقافته، ووعيه، فهذا مما لم يعد ادعاؤه مقبولا، بعدما وصلت إليه دراسات الإنسان العقلية والنفسية، والاجتماعية والتاريخية.. فالإنسان بوسائطه الإدراكية واقع تحت طائلة نماذج إدراكه، وصوره النمطية، أيا كان مصدرها، وأيا كان تشكلها. ولذا فإننا من جهة النماذج واقعون: من أعلانا وعيا إلى أدنانا وعيا، تحت طائلة نماذج وعينا القسرية في جلها. وهذه النماذج تقدم لنا نفسها أحيانا على أنها من صنعنا الشخصي عندما نتبناها على مستوى الوعي العميق، مع أنها وافدة قبل توطنها، حتى ولو بدت لنا عند ورودها الأولي ساذجة، عفوية، قريبة منا. مع أنها على ما يبدو ليست بتلك البساطة، لا من ناحية بنائها، ولا من ناحية تأثيرها على أدائنا، أيا كان شكله. نتصور عندما نكتب أو نفكر أننا نتحرر من النماذج بالتدريج، لكننا في العمق نعيد إنتاج نسخ مؤلفة تأليفا جديدا، يوطنها في الزمن الثقافي الذي نعيش تحت وطأته. ولذا فإن من يحرر نفسه من الإحساس بابتداع النموذج، من خلال الوعي به، هو الذي يؤهل نفسه لاقتراف إثم الخروج من سلطان النموذج اللاواعي إلى النموذج الواعي. إنني لا أقول بجبرية النموذج الحاضن للتجربة الإبداعية، ولكنني أدعي أن التخلص الكامل منه افتراء، وعدم إحاطة بملابسات العلاقة بين الكاتب ونماذج ذهنه الحاضنة لإبداعه. إن نموذجا حاضنا معينا يملك قابلية التبني من طرف الكاتب، لكن عند اختياره يصبح هو المتحكم في الكاتب، ولذا فإن حرية الكاتب هي في المساحة بين إرادة اختيار النموذج الحاضن من بين النماذج المتاحة واختياره، فليس بعد الاختيار والتبني سلطان للكاتب على نفسه. لقد مارس حريته لكن في اختيار نموذج سيمارس عليه سلطة حتمية، إن لم يخضع لها فقد مساره الذاتي وفقد اتصاله بفضاء التلقي الذي توجه إليه بنصه. فما هو نموذج رواية “وجع السراب”؟ ثانيا: الإبداع إذا كان تعريف النموذج صعبا للغاية، لتداخله مع مفاهيم ملتبسة مثل التقليد، والتبني، والاستعارة، والاستخدام.. وما يترتب عليها من تناص، وتشاكل.. وغير ذلك؛ فإن تعريف الإبداع أصعب من تعريف النموذج.. لسبب بسيط وهو أن الإبداع يعرف نفسه حقيقة بأنه هو الفاعلية التي تتمرد على التعريف.. لأن التعريف استكانة لثوابت وأنساق قارة، والإبداع إن كان يخلق الأنساق والثوابت، فإنه يعلن في كل نهاية عن تخليه الأبدي عن ثوابته وأنساقه.. ولذا استعصى الإبداع على التعريفات وسكن في دائرة عدم التعريف. لكن مع ذلك يمكن أن نرسم إحداثية لحركة الإبداع كفاعلية تطور مسارها، لكنها لا تخرج كلية عن عادتها في كل محطة من محطاتها المؤقتة جدا. إن الإبداع بهذا المعنى هو اختراق دائب للمألوف. مألوف المجتمع، مألوف الإنسان، مألوف العقل، مألوف الوعي، مألوف الإحساس، ومألوف العادة؛ اختراق المألوف ليس بالنسبة لمن يتلقى الإبداع بل للمبدع نفسه. إنه الفكرة والرؤية، والخلق، الذي يفاجئ مبدعه قبل أي كان، ويخرق مجال توقعه. إنه المولود الجديد من رحم المجهول، إنه المدهش بالنسبة لمبدعه قبل غيره. ولذا فإن المبدع لا يعرف إبداعه قبل أن يبدعه. إنه مجهول بالنسبة له. لكن هل يمكن لهذا الإبداع أن يتوطن في غير نموذج حاضن؟ إن الإبداع بطبيعته، متمرد على النموذج قبل ميلاده، لكنه غير قادر على التحيز إلا في نموذج حاضن، فعلاقته بنموذجه شبيهة تقريبا بالعلاقة الناشئة بين الروح والجسد، بين المعنى والرمز. إن الروح قائم بذاته وإن المعنى قائم في تجرده، ولكن التعرف عليهما غير ممكن إلا ضمن تحيز وجودي عبر الجسد والرمز. عبر الوسيط المدرك. وعندما يستطيع الكاتب أن يعرف إبداعه من خلال نموذج حاضن فإننا نستطيع أن نؤشر على توفيقه في ممارسة حريته عند انتقاء نموذج حاضن، أولا، وممارسة خضوعه للنموذج بعد الاختيار، ثانيا، وتوطين الإبداع في النموذج ، ثالثا.

 

فكيف تعاطي الروائي الحداثي المختار السالم أحمد سالم مع هذه المتراجحة في روايته “وجع السراب”؟ وهل وفق في التحكم بإحداثياتها؟ سأجيب على هذا السؤال من زاوية الإنصات للاعتمال الداخلي للنموذج أولا، والابتداع ثانيا، والمواءمة بين النموذج والمنحى الإبداعي ثالثا.

 

أولا: عن النموذج الحاضن في رواية “وجع السراب” لقد استطاع الكاتب من خلال روايته أن يختار نموذجا يمكن أن نسميه نموذج “المنظور السرابي”. وهذا النموذج ضارب في المتداول الإدراكي والثقافي في الفضاء الصحراوي للرواية، فالسراب سيد الخدع في الصحراء، لأنه من أسطع الأمثلة على تكذيب المعطيات الحسية، إذ هو إن رأيته ماء سحاح، وبحر لا ساحل له، وهو إن طلبته نأى عنك بقدر ما اقتربت منه، وأن تأملت ما يمور به من أشياء كسرها، وموجها، وهو إنْ ابتعدت عنه تبعك.. فهو رفيقك في وحشة المكان، وهو صديقك اللدود في غربة الإحساس، وهو الهلام إن حاورته، والكاذب إن خابرته. هذا النموذج نظم رواية “وجع السراب”، فكسر فضاءها، وموج صور أبطالها، وامتص نسغ أملها، ورمى فعل البشر في أتونها إلى لجة ابن عمه الحقيقي: البحر. لقد كان التعبير بهذا النموذج عن حقيقة حياة الإنسان في الصحراء تعبيرا بالنموذج الحاضن لظاهرة الوجود الضنين في الصحراء، الوجود المتموج الزائف، الذي ينتهي إلى نهاية عبثية مريعة، هي سحب الحوت العظيم للرجال والخيل والدواب إلى عمق اللجة. ليكتشف الإنسان انخداعه بسرابية قوته، ووهن جبروته في وجه محيطه الماحق. كانت نهاية النموذج نهاية موفقة، إذ انسجمت لمتتاليات الرؤية الخداعة، والنهاية غير المتوقعة لجهد الإنسان في وجه غول الصحراء. الإنسان الذي جالد ليثبت وجوده بنفي أخيه، فانتهى إلى اللجة صاغرا. أرى دون استفاضة في ملابسات وتجليات النموذج الحاضن، أن صاحب الرواية قد انتقى نموذجا مناسبا لفكرته المحورية في الرواية، وهو نموذج السراب، وقد خضعت الرواية لهذا النموذج في بنياتها التحويلية وبنيتها العميقة. وبالتالي لم يكن توظيف النموذج اعتباطيا، بل كان منساقا مع الرؤية الروائية للكاتب، ولوسائطها. إن النموذج بهذا المعنى يصبح قائدا للكاتب في متواليات الأحداث، وجسدا لفكرته.

 

المنحى الإبداعي في الرواية كما يصعب أن نعرف الإبداع كذلك يصعب أن نميزه بعلامات خارج النماذج التي تحيّـز فيها، وبما أننا لم نعرف الإبداع إلا بأنه يتمنع على التعريف، فإن المتاح هو تلمس إحداثيته ضمن الرواية. إنني أرى – على تواضع رأيي النقدي- أن إحداثية الإبداع في رواية “وجع السراب” رسمت حركتها في الأفق الفاصل ما بين النموذج الحاضن للمنظور الروائي، والفكرة الناظمة لرؤية الكاتب. بمعنى أوضح، إحلال الفكرة التي تدور على العبثية الضاربة في أعماق حياة الإنسان في الصحراء؛ ضمن النموذج الحاضن الذي هو السراب. السراب الذي يبدأ بخدعة الأمل في البقاء، وينتهي بدهشة الفناء وخيبة الزوال. بضياع الحصيلة الكلية. بنفاد الوجود من معناه. قد تكون هناك اختراقات إبداعية تفصيلية، إلا أنني لست بصدد التفصيل، لأنني أنصت لاحتدام الرواية وأصداء تكسر أمواجها على الأسوار الخارجية دون تجاوز ذلك إلى اللجة، التي ابتلعت حصيلة الجهد البشري عندما سحبها الحوت إلى الأعماق. ولعل توخي الحصافة وغريزة حب البقاء تدفع إلى عدم الاقتراب من غروب النهايات، رمزية كانت أو فعلية. لذا فمن حقي أن أترك مسافة ما بيني وبين البحر. فأنا إن كنت على وعي بما أنا لا أزال في بحر السراب.

 

ثالثا: المواءمة بين النموذج والابتداع لقد كان التعبير بالنموذج (السراب) عن فكرة العبثية (الغرق) تعبيرا متوائما مع المسارات العلنية والخفية للرواية، تواؤما غير متكلف.. وكأن الحوت في حقيقة الأمر كان يسحب الأبطال، وحياتهم إلى الغرق منذ فجر الرواية إلى غروبها، أو كانت مسارات فعل الأبطال انجذابا متتاليا إلى شاطئ الغرق الأخير.

 

قبل النهاية ليس لي أن أحكم على رواية بعينها ما دمت لا أدعي التخصص في نقدها، لذا فإنني لم أتجاوز عتبة التعبير المجمل عن انطباعاتي حول رواية “وجع السراب” لكاتبها المختار السالم، عملا بوعد قطعته على نفسي سابقا عندما كتبت عن تجربة كاتب آخر، وفحوى الوعد أنني أصر على خرق دائرة التناكر الذي تمارسه نخبتنا الكابتة فيما بينها، وذلك متى ما رأيت أن عملا ما أقنعني فعلا بأن أكتب عنه. لقد أقنعتني رواية “وجع السراب” بأن أكتب عنها وربما أكتب عن غيرها، مما هو مقنع لي، متى ما وجدت فسحة من الوقت لذلك. وأخيرا أعود إلى التذكير بما قلته سابقا عن ظاهرة التناكر بين نخبتنا، التي يتستر كل واحد منها على إخوته تسترا لن يكون مأجورا في كل الأحوال، وستحاسبنا الأجيال عليه، عندما تكتشف أن التجارب الإبداعية والبحوث الجادة مرت يوما على هذه الأرض، لكن الإنكار أو التستر كان السمة البارزة التي أحاطت بها فلم تعرف بما فيه الكفاية في الوقت المناسب، حتى يتم تهذيب الأخطاء، وتقويم الاعوجاج ، وحتى يتم إبراز الاختراقات الإبداعية الأصيلة فيسعد بها مبدعوها قبل أن يرحلوا. إن الصمت المتبادل يتحول إلى مؤامرة متبادلة أيها الإخوة. لذا أصر على خرجة أخرجها من دائرة الصمت، حتى لا أعد نفسي –على الأقل- ضمن الصامتين.  

محمد ولد أحظانا /كاتب وباحث موريتاني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى