ليـبيا : بقاء الدولة كرهان/د. محمد بدي ابنو
ـ1ـ
في دراستها (1986) “الدولة والتحول الاجتماعي في تونس وليبيا 1820 -1980″، حاولت الباحثة ليزا أندرسون (الأستاذة السابقة في جامعة كولومبيا بنيويورك والرئيسة الحالية للجامعة الأمريكية في القاهرة) فحصَ التشكّل الحديث لأنوية البيرواقراطية الدولتية في البلدين.
وربطتْ هذا التشكل أساسا بسياق جدلية الانكماش التدريجي للمنظومة العثمانية وتصاعد النفوذ الأوربي في حوض المتوسط في القرن التاسع عشر. عكسا للضفة الشمالية لم تأت هذه البنى البيروقراطية في شكلها الأولي انعكاسا لأنساق اقتصادية جديدة. فمن خصوصيات دول العالم الثالث أن البيروقراطية الدولتية تسبق فيها غالبا ظهور الأنساق الاقتصادية والاجتماعية الحديثة. بيد أن ما يميز بحسب أندرسون في هذا المستوى ليبيا عن تونس رغم توازي وتقارب المسارين في القرن التاسع عشر هو اختلاف سلوك الاستعمارين. فبقدر ما عمل الاستعمار الفرنسي لتونس (1881 – 1956) على الاحتفاظ بالبنى الدولتية الوليدة وتوسعتها، بقدرما أصرّ الاحتلال الإيطالي لليبيا (1911 – 1942) على تدميرها كليا واستبدالها ببنى بيروقراطية إيطالية خاصة بالمستوطنين تُبقي الليبيين خارجها.
ـ2ـ
اهتمت الدرسات اللاحقة كما هو متوقع بالبعد الخارجي الفوقي في تكون دولة الاستقلال منذ تجسّدها في المملكة السنوسية (1951). قبل اندلاع ما سمي بالربيع العربي بأشهر قليلة أصدرت الباحثة آنا بلدينتي، من جامعة بيروجيا بإيطاليا، دراسة تحت عنوان “جذور الأمّة الليبية” (2010). تنطلق في هذه الدراسة من أن البعد الخارجي تجسد في عاملين : في التركة الاستعمارية وفي دور المجموعات الليبية المقيمة في المهجر. وهو ما عَنِي أن السردية الوطنية ظلّتِ نسبيا خارج المجال الواسع للمواطنين. فالبنيات الدولتية كانت صورية إلى حدّْ كبير بالنسبة للأغلبية. ولم تكن لهذه الأخيرة أطر سياسية واقتصادية ناظمة ميدانيا غير الانتماءات التقليدية. أي الانتماءات المصوغة بشكل مباشر غالبا وغير مباشر أحيانا بالمجال القبلي الصحراوي وطبوغرافياه السكانية الاجتماعية.
ـ3ـ
لا تتوفر بعد على ما يبدو دراسات جادّة عن الحقبة القذافية. هنالك أساسا الأدبيات السياسية السائدة بشأنها والتي ما تزال بطبيعة الحال محكومة بمنطق التمجيد أو التمجيد المضاد والخصومات المرتبطة بهما. غير أنه واضح أن إشكالية تشييد مؤسسات دولتية لم تزدد إلا تعقيدا في هذه الحقبة. هنالك بداهة الخيار الإيديولوجي ونمط الحكم. وهنالك علاقتهما بالمجتمع التقليدي سلبا وإيحابا. وهنالك أخيرا الطفرة البترولية وخيار الاقتصاد الريعي. وبقدرما أن الأخير قضى على الاقتصاد التقليدي فإنه حال دون تكون اقتصاد انتاجي بديل. وهو طبعا ما انعكس من جهة سلبا على تطور مؤسسات الدولة. وهو من جهة ثانية ما مثّل أحد العناصر التي شلّتْ تشكّل فضاء مدني. وهو من جهة ثالثة ما أضعف العلاقة المواطنية مع مؤسسات الولة لصالح علاقة زبونية أو شبه زبونية تمر أحيانا كثيرة عبر الانتماءات التقليدية.
ـ4ـ
عرفتْ إذاَ ليبيا محاولات مبكرة ولا فتة لتحديث البنى السياسية والاقتصادية خصوصا مع يوسف باشا في الثلث الأول من القرن التاسع عشر. إلا أن تلك المحاولات قد تراجعت وتيرتها مع العهد العثماني الثاني ثم انتكستْ مع الغزو الإيطالي. وتراكمتْ، في الخلاصة، طوال القرن العشرين التجارب المضادة لترسيخ مؤسسات دولتية حديثة.
ومع ذلك فإنه بالرغم من البنية القبلية المستثمرة فإن أرضية الاندماج الاجتماعي في ليبيا صلبة. فلا يوجد تعدد مذهبي ولا طائفي والهيكلة الاجتماعية واحدة. وهو ما يؤهل النسيج الاجتماعي للتماسك إذا توفر المشروع السياسي.
ـ5ـ
بديهي أن الوضع الراهن يزداد يوما بعد يوم كارثية على حياة الليبيين وعلى مستقبل ليبيا كدولة وعلى مستقبل المنطقة. وقد حرَمتْ الحرب أغلبية المجتمع من عائدات الريع أو ما بقي منها. وهو ما يعني أن المبدأ الذي ارتكز عليه السلم الاجتماعي لعقود ينهار راهنيا دون أن يحمل الأفق أي بديل اقتصادي غير حمل السلاح. يحدث ذلك في بلد ما تزال فيه الثقافة القبلية الصحراوية الممجدة لحمل السلاح تتمتع بمستوى من الفاعلية. ولم تتلق فيه، منذ أربع سنوات، الجموعُ الشابة التي تزيد نسبتها على ثلثي تعداد السكان أي تكوين آخر غير حمل السلاح. وخصوصا لم تجد من يقدّم لها أي مشروع أوأفق غير العنف.
من هنا أهمية أن تتشكّل أرضية سياسية تداولية جامعة. صحيح أنه أمر غير سهل ويحتاج إلى تنازلات مؤلمة لجميع الأطراف. ولكنه الخيار الوحيد الواقعي. بدونه فإن كل الأطراف ستكون خاسرة والعنف الوحشي المفرط هو الرابح.
تتمتع ليبيا بالكفاءات البشرية القادرة بتوفيق الله عل أن تكون بمستوى تقديم البدائل لوضع مرتكزات دولة المؤسسات، رغم صعوبة السياق.