النخبة النسائية بين الحقيقة و الوهم

انعقدت الحلقة الثالثة من لقاءات و حوارات منتدى الحوار الشامل الذي تنظمه إذاعة موريتانيا و تنقله قناتا “شنقيط” و “دافا” التلفزيونيتين، في أجواء تطبعها التحضيرات الجارية للاحتفال بالـ 8 مارس الذي يحتفي بالمرأة دون الرجل، فقدر برنامج المنتدى أن تناول محور المرأة و الملفات المتعلقة بها أمر وارد و يندرج في إطار المشاركة في إحياء المناسبة، فاكتسى منبر الحلقة حلتها و حمل على متن منصته المنخفضة عن يمين صحفيي الانعاش و المحاورة باللغتين العربية و الفرنسية: –          مجموعة منتقاة من الأكاديميين لبعض المحاور المحدد، –         و خبيرا اقتصاديا يقدم قراءة في الواقع الاقتصادي و التنموي و مكانة المرأة في ذلك و نصيبها في إطار التمييز الإيجابي، –         و أطرا و سياسيين في جزء آخر من المحاور المتعددة الأوجه و الاهتمامات، –         و وزيرات سابقات و خبيرات اجتماعيات و مهتمات بشأن المرأة و نضالها، و داعيات لولوج النساء إلى المناصب القيادية، و عن يسارهما: –         بعض أوجه الطيف السياسي و من المجتمع المدني الناشط في المجال الحقوقي، و غير ذلك من الحضور المشارك في الحركة التنموية و التي منها المهتم أساسا بالمرأة، –         و عناصر نسائية تخوض غمار السياسة و تلعب فيها أدوارا جوهرية و متقدمة في المسار السياسي و مشاركة بحيوية في مضمار الدفع إلى الأمام بعملية الحوار المتعثرة من خلال تحريك الساحة إلى جانب العديد من الأطراف الأخرى سعيا إلى حصول اتفاق بين الفرقاء في الأغلبية و المعارضة يؤسس لقيام هذا الحوار و الوصول به  إلى تفاهمات تهدئ الوضع، تخفف الاحتقان و تخدم الوطن و ترضي المواطن. لكن، و على غير ما درج عليه المنتدى في حلقتيه الأوليين، فقد غاب عن المنصة “المؤطر الديني” هذه المرة. و إذ غيابه لم يمنع المنظرين و كل الذي عالجوا الموضوع، من زاويا اجتماعية و تاريخية و تنموية اقتصادية، من أن يقدموا مداخلاتهم كل حسب المحور الذي أسند إليه، و لا أن يسعوا بما أوتوا من معرفتهم بدينهم إلى إضفاء مصحة دينية على هذه المداخلات ونثر شذى عطرها على محتوى أفكارهم التماسا للبركة و استنصارا لها في رقية شرعية غير معلنة. و بالطبع فقد غلبت على الكثير من المداخلات لغةُ العواطف المتجاوزة و الاستعطاف المجامل الذي لامس أحيانا حد الابتذال المجاني، و السرد المنقى من مخزون أدبيات الماضي، و الاستنتاجات المخاطية التي تجافي هي كذلك معطيات الواقع الجديد و تتجاوز منطق الدولة المدنية. مداخلات حاولت من دون قصد سيئ أو نوايا مبيتة أن تستخدم النصوص القرآنية و الفقهية و الأحاديث و الشعر للتخفيف من بعض الضعف الذي اعتراها في هذا المنحى و وضعها في سياق مقبول. و الحقيقة أن بعض المداخلات النسائية امتنعت من أن تنطلي عليها الحيلة فانبرت رافضة لبعض ما ورد فيها و ما قد طبعه الغلو و الشطط من ناحية و قد سعت إلى تصحيح اعوجاج البعض الآخر مما ورد من ناحية أخرى و إن لم ترق بعض تلك المداخلات إلى المستوى المطلوب من النضج و القدرة على وضع الأمور في نصابها لإبراز وجه ناصع و واضح المعالم يبين عن مطالب كبرى شكلت في حد ذاتها ملفات مستقلة و ساخنة. و هي المداخلات التي لم ترق كذلك إلى درجة الكشف عن الآليات التي وجدت للوصول إلى ما دعته – في حالة محمودة من التوفيق المصطلحي إن جاز التعبير- “التمكين” للمرأة حتى تلعب دورها كاملا و تحقق مكاسب ذاتية برسم الحاضر و المستقبل القريب.   و لا شك أن اتسام عموم الحلقة بضعف المستوى عما كان منتظرا بعيدا عن اتهام كل المتدخلين الذين أبلوا بلا مقبولا كل في محوره و اختصاصه و اهتمامه بما سمح به المقام و أتاحت له المبادئ و ربما اعتبارات أخرى، أبان عن غياب النخبة النسائية، في حلبة يبدو أنها ما زالت ذكورية، و عن لعب دورها كما هو مطلوب بإلحاح شديد تمليه ضرورات المرحلة. من هنا فإن غياب هذه النخبة النسائية أو ضعف دورها على الأقل – إذا ما افترضنا جدلا أنها قائمة على مرتكز عملي صلب و أنها تحقق نتائج واقعية على أرضية البناء و التنمية بكل أبعادها – لا يضاهيه سوى ما هو حاصل من سوء تشكل و ضعف أداء النخبة الذكورية ذات المحصل العلمي الكثيف بمستوى الشهادات و الألقاب، على المستويين: ·        “الوجودي” المرتبط بتزعم الحراك التأسيسي للكيان الحديث و الثقافي الاجتماعي في ظل تحديات العولمة و الإشكالات الجديدة لتي تطرحها، ·        و “العلمي” المرتبط بضرورة رفع تحدي التنمية بالاهتمام بمقدرات البلد الهائلة من المعادن النفيسة و البترول في المياه الإقليمية من المحيط الأطلسي و في العمق الترابي، ·         و من الإصلاح الزراعي و الاهتمام بالثروة الحيوانية باعتبارهم أهم الركائز الدائمة منذ النشأة الأولى و لهم في الولايات المتحدة و فرنسا أسوة حميدة، ·        و غير كل ذلك مما كان لزاما و بعد مرور أزيد من نصف قرن من الاستقلال أن يكون قد غير من واقع البلد إلى أحسن و ساهم في كسر حدة، إن لم يقض عليها، مخاطرَ ما أصبح يعرف بالملفات الوطنية الكبرى المتعلقة بالاسترقاق و النظرة الدونية الاقصائية و هاجس الوحدة الوطنية الذي يعانيه كيانُ البلد و الأدهى و الأمر من غياب ضعف إرادة تسويتها و انعدام آليات تحقيق ذلك في أجواء مشوبة باستقالة النخب العلمية عن التخطيط الميداني لاستغلال خارطة هذه الخيرات و مراقبة و حماية عوائدها و السهر على توزيعها بعدالة نانطلاقا مما يفترض أن يكون وعيا لديها بأن الفقر و الغبن المتمثل بالتباين في الاستفادة مما هو متاح هي الاسباب الرئيسيه التي تقبع وراءها كل  تراكمات هذه القضايا و تفاقم كل الاختلالات الخطيرة التي تحمل طابع وعلامات الصراعات القائمة على اختلاف تسمياتها و تصنيفاتها إثنية كانت أو طبقية أو قبلية صامتة على خلفية امتعاض لا يسمي نفسه و لكنه لا يخفى في دائرة التراتبية و التشذرم الذين لا تخفيهما و بكل سذاجتها “السياسةُ” بما يبين عنه تعدد الأحزاب المنشأة في مرحلة التأسيس ة الاطلاق على اعتبارات تأخذ كل معناها من هذه التباينات و تتناول بمقتضاها الشأن العام و تتخندق في شتى مفاصل تركيبتها و في صميم فلسفتها التي من المفروض أن يكون قد ولى زمانها. و يصطدم واقع المطالبة بحقوق المرأة كاملة بالغياب الملحوظ لنخبة نسائية متماسكة فاعلة و منتجة لخطاب متوازن و مقنع في الحقلين (المعرفي- العلمي) و (الثقافي-السياسي) و يكون قابلا للترجمة العملية على أرض الواقع. و لا يعني ذلك أن هذه غير موجودة مطلقا و لكنها مشتتة و دون المستوى الذي يضمن فعاليتها و يؤهلها لانتزاع تلك الحقوق بمقياس و أدوات الندية و القدرة على تسليط الضوء الكاشف على القضايا الرئيسة التي تستأثر باهتمام الحركة النسائية في البلاد و في تقاطع  مع معظم دول العالم و مصممة على أن لا تغادر حتى يتحقق موضوعان رئيسيان هما المساواة ورفع جميع أشكال التمييز ضد المرأة، ومحاربة العنف ضد النساء بجميع أشكاله. و هي القضايا و الحقوق التي إن تحققت ستؤول نتائجها حتما  و في المحصلة النهائية إلى خدمة الحراك العام للبلد و تخلق ذلك التوازن الغائب الذي يمكن به و معه الرقي عن جدارة بواقع البلد إلى غاية الانسجام مع حركة العالم من حوله و يحجز نتيجة لذلك هذا الوطنُ مقعدَه على متن قطار العولمة السريع. و حتى لا يظل هذا الكلام: –         نظريا لا يرقى إلى مستوى يُحمل معه بكل أبعاده على محمل الجد، –         و بعيدا على “قضية” المرأة أن تستفيد منه في شتى مناحي التجاوب مع مطالبها في المساواة مع الرجل، –         و لا يظل أيضا الكلام حول هذا الإشكال من قبيل الانصياع و اللهث وراء التبجح بمعرفة سياقات المصطلحات القاموسية النظرية و المفاهيم العالمية التي أصبحت جزء من الديكور الجديد لسياقات العولمة الأشمل في مضمار حراكها العام باتجاه “شمولية” لم تعد تعبأ بتاء التأنيث و لا جمع المذكر السالم بقدرما تؤمن فقط بالمُفرز و المُنتج الاستهلاكيين، –         و لا تظل عاجزة أو قاصرة عن الانسجام مع الروح “الإيجابية” في هذه المصطلحات و تلك المفاهيم و تبنيها منهجا و سلوكا و مطلبا عمليا على أرض الواقع. و لإن كان قد ضاع وقت ثمين يقدر بعشرات السنين منذ الإستقلال و تلاشت فرص عديدة لتشكل هذه النخبة فإن المتغيرات الجديدة و نسبة الوعي المضطرد و استجابة الدولة لإملاءات الواقع و بروز مؤشرات قوية تعطي إمكانية تلافي هذا الوضع المختل من جهة و إمكانية انطلاق جديد إلى الآفاق الرحبة المتاحة من جهة أخرى في ظل تقلص العقبات الكبيرة التي كانت تقف حائلا أماها. و قد يصبح بناء هذه النخبة النسائية المتماسكة و المتحركة في آفاق التغيير محفزا حقيقيا و محركا ديناميكيا للنخبة الذوكورية المتكئة على معارفها النظرية التي تحصلت عليها في الاغتراب خارج الوطن و عند عودتها دفعت إلى الاغتراب مجددا لكن هذه المرة داخل الكيان و من ثم ما أقدمت عليه بموجب ذلك من تسخيرها نفسها للمفاهيم الرجعية و الإقطاعية حتى باتت نافخ الكير و مذكي جذوة الجمرة النائمة تحت الرماد و موقظة كل “نيرون” كان نائما في أحضان الجمود.    الولي ولد سيدي هيبه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى