العدالة التّوزيعيّة الدولية : في المسكوت عنه
د. محمد بدي ابنو*
“أيا يكن المكان الذي يقع فيه الغبن فإنه يهدد العدالة في كل مكان آخر لأننا جميعا داخل شبكة علاقات عالمية واحدة” مارتن لوثر كينغ
ـ1-
هل تتحمّل القوى الكبرى واجبا اقتصاديا ملزِما تجاه مستعمراتها السابقة أو، بشكل عام، تجاه الدول الأكثر فقرا؟ هل يمكن للمجتمع المُعَوْلَم أن يكون مولِّداً لمعيارٍ لإعادة توزيع الثّروات أَبْعَدَ مما يسمى بــ “الإعانات” أو “المساعدات” ؟ لنعد قليلا هنا إلى الفيلسوف السياسي الأمريكي جون رولس بحكم موقعه المركزي في الخطاب السائد : هل يمتنع فعلا على ما يسميه مؤلّف نظريّة العدالة Theory of justice مبدأَ الاختلاف أن يُوظف على مستوى دولي أو عابر للدّول ؟ فهذا المبدأ مرتبط في تصوره بالإطار الوطنيّ أو المواطني حصرا.
ينطلق رولس كما هو معروف من فكرة العقد الاجتماعيّ التقليدية. وهي عنده محايثة للدّولة الوطنية بالمعنى العرفي السائد. الأساس المعياريّ الّذي يرتكز إليه مبدأ الاختلاف كإعادة توزيع ينبثق في تصوره وتصور “أتباعه” من الدّولة، من حيث إنّها فضاء تضامن أو تكافل مواطني مفترض، وبالتّالي من الجسم الاجتماعيّ والسّياسيّ المحدّد بالنّسبة إلى الدّولة الوطنية. وعليه فدول العالم بالنّسبة إلى رولس كيانات منفصلة بما فيه الكفاية من حيث إنّها فضاءات مواطنيّة ومعياريّة مستقلة عن بعضها البعض. يبدو هنا وكـأن فكرة العقد الاجتماعيّ المجرّد هي الّتي تمنع رولس من فحْصِ معطيات العالم الدّوليّة الموضوعيّة من حيث يمكن اعتبارها، على الأقلّ في الحقبة المعاصرة، نابعًة في جزئها الأكبر من رَحِمٍ كبرى واحدة لعلائق القوى الاقتصاديّة والسّياسيّة : علائق صناعيّة وما بعد صناعيّة ودَوْلَوِيَّة وعلائق جيوستراتيجيّة واستعماريّة ومابعد استعماريّة وعولمية إلخ…
ـ2ـ
الواقع الضّمنيّ هنا هي العمليّة الاقتصاديّة بحدّ ذاتها. يبدو أن رولس يفصل فيها ما بين النّشاط الوطني والنّشاط العابر للدّول إثباتا للتمييز الكلاسيكيّ بين حقوق المواطن وحقوق الإنسان. بتعبير آخر، هدف العدالة التّوزيعيّة عند رولس هو حصرا “تعويض” المواطنين الّذين يكونون قد أُجْحِفُوا في بنود العقد الاجتماعي النظري الّذي يٌغترض أنه يربطهم بالمواطنين الآخرين داخل دولة ما. يأتي الاجحاف بداهة من الآلية الاقتصاديّة الاجتماعية لأنها منتِجة لأوضاع متناقضة مع المساواة المواطنيّة. وتصبح العدالة التّوزيعيّة من هذا المنطلق وسيلة يمكن من خلالها تخفيف الفجوة بين الحرّيّة والمساواة المكرستين نظريا في الدول الليبرالية. ولكنّ هذا التوجه لا شرعيّة له بالنّسبة إلى رولس إلاّ على المستوى الوطني.
ـ3ـ
إذا كانت الدورة الاقتصاديّة عابرة للدّول، بأيّ طريقة يجب أن تُقْصَر بنود العقد الاجتماعيّ الافتراضيّة على الإطار المواطنيّ الرّسميّ للدّولة الوطنية ؟ وحده الصعيد الوطني أو القومي يحوي في نظر رولس على المحدّدات الخاصة بما يسمّيه البنية الأساسيّة Basic structure . تبدو بالفعل مشكلة رولس ومتابعيه الكثر أنه ينظر للدّول القائمة وكأنها صادرة في وجودها عن مسارات مستقلة عن بعضها البعض. وهو ما يتضارب مع الواقع التاريخي لأغلب دول العالم الثالث كدول موروثة عن الاستعمار. مشكلة المجتمعات المحرومة في النّظام الدّوليّ راجعة ببساطة بالنّسبة إلى رولس إلى كونها عجزتْ عن تكوين بنيات مؤسسية دولتية وبالتالي أنساق سياسيّة تتيح لها تحكّما أحسن في مواردها وتحسّنا في ظروف معيشتها على العموم. وهي رؤية تمثل فقط جزءا من الحقيقة الميدانية.
ـ4ـ
لنعد قليلا إلى ابن خلدون. يصدر التّحليل الخلدونيّ بداهة عن أفق يختلف عن معهود التّحليلات المهيمنة منذ الثّورة الصّناعيّة. ولكنْ من المفارقات أنّ التمدّدات المتتابعة للفضاءات السّياسيّة الّتي روّجتْ لها هذه الأخيرة والّتي تُسمّى مرحلتُها الحالية، عن حقّ أو عن باطل، عولمة، لها بعض العلاقة بما يركّز عليه ابن خلدون ـ ومتابعاه المقريزي وابن تغري بردي ـ من أن الكيان السياسي (“الملْك”) أو “الدولة” ليستْ إلا اسما آخر للسوق. لا يمكن للدّولة في التّصوّر الخلدونيّ أن تُفْصَل عن السّوق ولكن ليس بالمعنى الذي سيظهر لا حقا في التحليل الماركسي. ليس الإنسان، بصفته صاحب حقّ، إلاّ ترجمة لوعيه بشرطه الاقتصاديّ عن طريق ما يسميه ابن خلدون بالوازع. إنّهما وجهان لواقع واحد يُوَسِّطُهُ الوازع. بوجه من الوجوه، السّوق هي جوهر المجتمع، ولكنّها أيضا، بالنّظر إلى تنظيمها السّياسيّ، العلّة الفاعلة الّتي يميّزها المدّ والبسط أو اللاّمحدوديّة، من جهة، ومن جهة أخرى “الفكرة والسّياسة”. الحقيقة أن ابن خلدون يصدر عن أفق “عولميّ” من حيث إنه ينظر إلى حدود السوق على أنها الحدود السياسية الفعلية. فالفضاء الذي تكتمل في إطاره دورة السوق (إنتاجا، وتوزيعا، واستهلاكا) هو وحده الفضاء السياسي الفعلي في تصوره.
ـ5ـ
يقترح رولس ما يسمّيه واجب الإعانة بدل نقل مبدأ الاختلاف إلى المستوى العالمي. ولكن هذا الاقتراح بذاته يكشف المأزق المنهجي الذي واجهه رولس وما تزال الفلسفة السياسية السائدة بشكل عام تواجهه. فهي تتفادى غالبا أن تأخذ على محمل الجدّ كون الدّول القائمة تشارك في عمليّة اقتصادية سياسية واحدة عابرة للدّول في سياق مفارقي يزداد تقوقعا وعولمة في آن. فمثلا رولس حاول بوضوح تجاهل الأنساق الفعلية التي تربط الدول القائمة والتي تشكل بنية منظومات الجغرافيا السياسية كما هي. فالنظر إلى الدول القائمة ككيانات سياديّة تتعامل فيما بينها على قدم المساواة القانونية يصدر عن دوغمائية متعمّدة وحاجبة. والتخوف المسكوت عنه هنا بداهة هو أن المطالبة بعدالة توزيعيّة تنطوي في أغلب الأحيان على فكرة تعويض بالنّسبة إلى أضرار ماضية – حاضرة. في مستوى أعمّ، فإن الارتهان النظري لخطاب الدول عن نفسها ـ تّمثّلاتٍ ومفرداتٍ سّياسيّة ـ يكشف عن الصّعوبة الكبرى في تصوُّر فضاء مواطنيّ عابر للدّول يكون التّرجمة السّياسيّة للمجتمع المُعَوْلَم.
* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل