خَلُّوا بَيْنَ لَمْرَابَطْ سِيدِ مَحْمُودْ وَأَرْحَم الرَّاحِمِين..(تَأْبِين) ..القاضي أحمد عبد الله المصطفى
كانت فكرتي المسبقة حول الوزير لمرابط سيد محمود ولد الشيخ أحمد فكرة شاب معارض بتطرف لنظام ولد الطايع عن أحد رجالاته الأساسيين، ولا حاجة لتفصيل مضامين تلك الفكرة لما تحمله من معاني مغالية في السلبية.. وربما زاد تلك الفكرة أن لمرابط رحمة الله عليه، كان خلال ذلك العهد الموفد السياسي في كثير من المناسبات إلى مدينتي..
ولكن لما بدأتُ الاقتراب من الشأن العام منذ سنة 2005، أَخَذَتْ تلك الفكرة في التَّزَحْزُحُ، إذ عرفت أشياء لم أكن أعرفها، وفهمت أمورا لم أكن أفهمها، منها أن مناهج جميع أهل السياسة تخرج من مشكاة واحدة.. وأن الموظف العام يستطيع أن يخدم بلاده وفق قناعاته ورؤيته، بنسبة معتبرة مهما كانت الظروف المحيطة به، وأن نظرة العامة إليه ليست دائما موضوعية ولا سليمة.. وربما نَصَبَهُ الناس “أبَا رِغَالٍ”، يرمونه كلما انتهى بهم “موسم”، معتقدين أنه “دليل” كل توجه رأوه ولم يرضوه.. ولعل رجال الشأن العام، من “أصحاب الأحوال”، لا من “أرباب الأقوال” كما قال الإمام الغزالي رحمة الله عليه عن المتصوفة، فلا يُعرفون إلا بالمعايشة والمخالطة.. ولم تلبث تلك الفكرة أن انقشعت عني، على أعتاب ما سمعته في السنوات اللاحقة ـ والرجل خارج المسؤولية ـ من شهادات في حقه، من أشخاص مختلفي الأعمار والتوجهات والمواقع، والمناطق، تُجمع على وطنيته الصادقة، وكفاءته العالية، وإخلاصه وتفانيه في عمله، زيادة على أخلاقه الرفيعة.. وكانت خاتمة حسناته اشرافه على تكوين وتأطير وتأهيل نخبة من أبناء البلد، في القضاء والصحافة والدبلماسية والإدارة، في المدرسة الوطنية للإدارة، هم اليوم شهود عدول على ما يتمتع به من خصال رجل الدولة.. لم التق به إلا مرة واحدة، وبشكل عابر، في التأبين الذي نظمه الطلاب القضاة بالمدرسة الوطنية للإدارة إثر وفاة المغفور له بإذن الله القاضي محفوظ ولد لمرابط، إذ شرفني الزملاء بالدعوة للتأبين، وكان حاضرا، وفي مداخلتي أشرت بلطف في البداية إلى أن زملائي المتدربين في “غنى عن بقية أشهر من التكوين”، إشارة إلى السنة الثالثة الزائدة، التي مددت بها المدرسة بإدارته تكوينهم، خروجا على نص النظام الأساسي للقضاء.. فقطع الزملاء والحضور الكلمة بالتصفيق، فصفق معهم وتَبَسَّم، وعند نهاية التأبين، وفي زحمة الحاضرين شق المجتمعين، وسلم علي، مبتسما، وبعد السلام، والإشادة بالمداخلة، قال لي:” مَاكَطْ أَجَّابَرْنَ”، قلت له: “حَكْ”، فرد بقوله: “يَالَّ نَجَّابْرُ”، فقلت له أيضا “حَكْ”، ولم يقدر الله أن نلتقي بعدها.. صحيح أن ولاية أمور الناس العامة وما ينشأ عنها من مسؤوليات شرعية وأخلاقية، وما تفرضه من قرارات، ومُسَايرات، وما يحيط بذلك من ظروف، قد لا تسمح للمرء بأن يخرج منها نظيفا من الأوزار والأخطاء.. ويعرف هذا من درس التاريخ السياسي قديما، وحديثا، وأطلع على سِيَّر العظماء والنبلاء، ورجال الدولة، لكن ذلك لا يقدح في أصحاب تلك المسؤوليات، إذ لم يمنع من تعظيمهم وتبجيلهم والاعتراف بفضلهم.. وكمسلمين، فإننا جميعا نعترف بذنوبنا، ومعاصينا، وإفراطنا وتفريطنا، ولا نجد في ذلك نقيصة، بل إنه من سيد الاستغفار ” أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بذنبي”، حتى إذا ارتبطت بالشأن العام، ونتعلق بالرجاء، ولنا في ذلك سلف صالح.. فهذا أعدل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وخليفته الصديق رضي الله عنه، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عند موته ” ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي عز وجل.. ليت صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت لي، وأني خرجت منها كفافا، لا لي ولا علي..”.. وخليفة المسلمين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، عند موته يقول: ” ليتني كنت رجلا من سائر قريش بذي طوى ولم أل من هذا الأمر شيئا..”.. وعمرو بن العاص رضي الله عنه، عند حضور أجله يقول: ” ..ثم ولينا أشياء لا أدري ما حالي فيها..”.. ثم إن النزاع والخلاف، والاتهام، والمطالبة بالحق، تنقضي في شرعنا بالموت، الذي لا شماتة فيه، وكلنا إليه صائر، ولا نجزم بحالنا ولا حال غيرنا بعده.. ونقاش تاريخ مرحلة ما، ليكون علميا، ومستجمعا لشروط السلامة من الأغراض والتعصب، والأهواء، يجب أن يتأخر عن لحظات رحيل الفاعلين فيه.. وكما قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عند موته لمن حضره من رعيته ” خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ أَرْحَمِ الرَّاحِمِين”، فإنه يسعكم ـ أيها الناس ـ أن تُخَلُّوا بين لمرابط سيد محمود وربه أرحم الراحمين.. يا من كتب على نفسه الرحمة لعباده، إن لمرابط سيد محمود عبد من عبادك فارحمه برحمتك التي وسعت كل شيء، يا أرحم الراحمين.. القاضي أحمد عبد الله المصطفى
القاهرة
10 مارس 2015