الشامي… مدينة للبحوث و التطبيقات العلمية؟!
في الصين الشعبية طبقت القيادة العليا سياسية “الوزن و المقياسين” الصارمة منذ عقود حتى تمكنت من الخروج ببلاد المليار و الثلاث مائة مليون نسمة من دائرة التخلف و سطوة الإقطاع و طموحات التيارات الرجعية إلى فضاء التقدم العلمي و المنافسة الاقتصادية من الإبرة إلى الصاروخ و من الجزر الصناعية إلى الفضاء المأهول. و بالطبع فقد اعتمدت عمليا هذه السياسة الفريدة على فتح المدن، المطلة على المحيط الهادئ كـ”شانغهاي” إلى “تيانجين” المحاذية للبحر الأصفر، على الاقتصاد العالمي و الشروع في تحويل التقنيات و كل أوجه التكنولوجيا الحديثة، و من ثم التأسيس فرفع قواعد البنية الاقتصادية في كل ولايات العمق بحسب مقدرات كل منها و في تكامل متقن و تجانس لعملية التنمية الشاملة.
و فيما يغط أهل هذه البلاد الليالي في سبات التخلف الشديد و يستيقظون على الخلافات السياسية العقيمة و معزوفة “الماضوية” الجامدة المقيدة و المراجعات الاجتماعية على غير ما هدى أو منهجية و هم يولون بناء صرح الوطن الدبر و يواجهون الجد بالهزل و يتحاورون بلغات بائسة توقفت تراكيبها اللفظية و دلالاتها على وقع عصور غابرة طمرتها لغة العلم المشرق الناصعة و العلوم الإنسانية البناءة، يتغامزون و يتلابزون في فضاءات الخشونة المتجاوزة؛ و فيما هم على تلك الحال تمخر أمم الدنيا من حولهم عباب بحور العلم و الإبداع و سمو النفس و ترفعها عن جهالات و اعتبارات القرون الماضية و ظلاميتها و تتنافس على استغلال المعارف للوصول بالإنسان فيها إلى قمة الرضا و منتهى العطاء. هي أيضا حقيقة أخرى ماثلة أمام سكان هذه البلاد شاءوا أو تعمدوا رفض النظر إليها تجعلهم أمام تحديات تتعلق باستمرار كيانهم في عالم متحرك و متغير بالعلم و تطبيقاته و بالإبداع و تجلياته على أرض الواقع. و قد أوحى هذا المنعرج إلى عديد دول العالم بحراك جديد نحو إفادة أممها من العلم و جعله بديلا للخلافات حول أمور وقفت طويلا حائلا أمامها و الرخاء رغم ما تمتلكه من موارد متنوعة محفوظة بكرا في أحضان كل طبيعتها و تضاريسها صحراوية كانت أم جبلية أم غابة أم أحراشا أم نهرية أم بحرية، فاتجهت إلى بناء مدن للعلم تؤوي جامعات بمستوى عال و مختبرات للتجارب العلمية و معاهد للهندسة و صروح بحثية تستقبل الالمعيين و المبدعين. و هي المدن التي نجحت و تحولت إلى مؤسسات و كيانات مستقلة في العديد من الدول النامية و لا حقا دولة من اللاحقين بالركب بعدما ظلت حكرا و في سرية تامة على الدول الغربية و اليابان. فبعد ما حذت الصين و من قبلها كوريا الجنوبية حذو الولايات المتحدة الأمريكية التي آوت مدينة “السيليكون فالي” العلمية، المخبرية في كل العلوم و على راسها علوم الحاسوب و تطبيقاته، قامت الهند بتشييد مركز تكنولوجي يضم أكثر من 1500 شركة تكنولوجية في مدينة “بـنغالور” و تقوم الاكوادور في أمريكا اللاتينية بتشييد مدينة مماثلة ستضم جامعات و معاهد من أحدث و أرفع طراز و مستوى و مماثلة في احتواء كل العلوم للتي سبقتها في العالم المتقدم و حتى ينهل من علومها و يستفيد مواطنوها و منها و يقام بناء الدولة العلمية الحديثة على أسس جديدة و الامثلة كثيرة في آسيا في دائرة دول النمور. و قريب منا تقوم السنغال بالتجربة ذاتها لتأطير طاقاتها العلمية و الاستفادة من مستوياتها البحثية العلمية و الإبداعية في شتى العلوم و هي التجربة التي بدأت تؤتي أكلها حيث التصنيع من القاعدة يعرف تطورا مضطردا بعقول و سواعد سنغالية محضة علاوة على عقولها من علماء و مهندسين و اقتصاديين التي تشارك عبر العالم في رسم مستقبل معرفي علمي لبلدهم. هو توجه عالمي نابع من قناعة حكام هذه الدول و مثقفيها و متعلميها و صناعييها و رجال أعمالها و سياسييها و فاعلي مجتمعها المدني، قناعة بأن العلم حصانة من التخلفين الحضاري و المادي حيث أنه شعاع يطرد بضوئه الوهاج جحافل ظلام الخرافة و يبدد قوى القهر النفسي و الجسدي. و هي أيضا القناعة التي تطلبت من أهلها نبذ جملة من “الكوابح” النفسية و العقبات الاجتماعية، و صرامة في تنفيذ المشروع بما أوتي أصحابها و الساعون إلى تجسيدها على أرض الواقع من الوسائل القائمة و لكن أيضا بما هو متوفر من خيرات البلد في استدراك واعي لضرورة تقنين استخراجه و استخدام جزء منه لقيام هذه الصروح التي من أهم أدوارها أنها ستذيب حتما جليد كل الاعتبارات المناقضة لمسيرة التنمية. و في السعودية تشيد مدينة مماثلة لإعداد السعوديين لمواجهة المستقبل و تخرج طواقم من العلميين القادرين على توجيه دفة التنمية المتوازنة و المستقلة بكفاءات وطنية قادرة على دخول سوق المنافسة و ولوج فضاء التبادل. و بينما تسير سياسات معظم بلدان العالم النامية في هذا الاتجاه، تظل بلدان أخرى غارقة إلى الودجين في ممارسات من زمن غابر و تُوَلي العلم و التنمية الدبرَ في غفلة لا تحمل من الأسماء و العلامات إلا ما يكون من القبلية و الطبقية و الصراعات العقيمة على السلطة في غياب تام للرؤى التنموية و الخطاب السياسي الموجه لبناء الدولة على أسس متطلبات الحداثة و العدالة و الديمقراطية. و لأنه من المسلمات أن الوقت يظل أبدا في قبضة “الفعل الحميد” فإن التفكير في مثل هذه الخطوة وارد في بلد يمتلك كل مقومات التنمية و شتى مناحي أوجه العلم التطبيقي من المعادن و الطاقات و الثروات الطبيعية التي تشكل كلها مجالا خصبا للبحث و الإنتاج و التحويل و التصنيع و التطوير والمعالجة و غير ذلك من مجالات الاستغلال و الانتفاع و إثراء عملية التبادل في عالم القرية الواحدة. كما تمتلك البلاد لأجل ذلك ساحلا استراتيجيا متمثلا في موقعها على المحيط الأطلسي و تضاريس ملائمة لقيام مثل هذه المناطق العلمية و الاقتصادية و التجارية كما هو حال إنشاء منطقة نواذيبو الحرة. و لو كان للفكرة أن تستحق مكانا من التفكير و حيزا من الإرادة الوطنية و حبا في البلد و تشبثا بمستقبله فلا بأس في تحويل مدينة الشامي الفتية ذات الموقع المتميز إلى فضاء مواتي لتجسيد هذه الفكرة إلى فضاء للأبحاث العلمية والتطبيقات التكنولوجية. و لن يطول الوقت في وضع الأسس لها حتى تلفت الانتباه و تغري بنجاعتها كل الصروح العلمية التي من حول العالم قد ضاق ببعضها المكان في بلدانها و تسعى إلى التمدد لكي لا ينكمش أو ينحسر عطاؤها، فتقبل على الشامي المتسعة الفضاء متعاونة و مستثمرة و مستعينة للمضي إلى المستقبل على ساحل رحب الأفق و مضمون العواقب المحمودة. و هي الفكرة إن تجسدت صرفت حتما عن بعض إدمان التخلف و الانغماس المرضي و الأخذ، في كهوف العقليات السقيمة المنتنة، بدواعي التخلف في حمى نرجسية كاذبة و ادعائية بالالمعية جريئة و استعلائية هابطة و في غياهب ظلامية مغرقة في الخلافات التي ولت عهودها و بطلت مرتكزاتها. كما أنها ستؤمن حتما إدراكا جديدا بقيمة المقدرات التي حبا الله بها البلاد و أولها تلك الدفينة في عرض المحيط و التي في حيزها الترابي و من معادن متنوعة و مصادر متنوعة و هائلة للطاقة لتطبيقاتها العديدة. فلماذا لا تفكر الدولة بمفهومها الشامل الجامع المانع، أي تلك التي تصغي إلى كل الأصوات المنادية بالنهوض بالبلد من كبوة التخلف و رفض الاستسلام لغياب الرؤية و ضعف الطموح، في تدارس مثل هذه المقترحات و الدفع باتجاه حصول تصورات عن قابلية تجسيدها على أرض الواقع. و حتى لا تكون الفكرة من باب “الطوباوية” فلا شك أنها تتطلب تأملا كبيرا و إمعان نظر و دراسة و سبر و جمع للآراء و الرؤى و التصورات التي تشكل في مجملها أساس الاهتمام بها و تثمين جانب التفكير فيها. و هذا بالطبع ما هو مطلوب حتى يتجسد على أرض الواقع ما يكون من ضروري الاستعداد الذهني للنظر بعمق في مستحق التنمية و التحول في هذه البلاد الراكدة في بركة التخلف و حتى تتحرك أيضا آلية التطبيق العملية الميدانية لمتناول الأفكار. و مهما كان الوقت الذي تتطلبه هذه المرحلة طويلا إلا نتائجها هي التي ستبطل الحسرة عليه علما بأن ضياعه من قبلها كان أشد سلبية و أقوى نسفا لقواعد بناء الدولة و شموخها في وجه التحولات المتلاحقة. /الولي ولد سيدي هيبه