حديث السبت: من هو شارلي؟ عودة إلى الجانب المسكوت عنه
د. محمد بدي ابنو
“يكفي الحشود أن ترى الدم المراق كي تتعطّش لإراقته. تماما كما يدشّن القدح الأول مسارا طويلا من العربدة”. لورد بايرون
ـ1ـ بالرغم من أنّ كتاب إيمانويل تود “من هو شارلي؟؟ سوسيولوجيا أزمة دينية ” صدر فقط أمس الأول الخميس فقد جعلتْ منه باريس خلال بضع ساعات سجالها المفضّل. يكاد لا يخلو مقهى كما لا تخلو جلسة من نقاش حوله.
الماكينة الإعلامية الضخمة قد أخذتْ تسابق أنفاسها، من واجهات المكتبات الى أغلفة الصحف إلى الحوارات التلفزيونية. الحكومة الفرنسية “اضطرتْ” للردّ على تود ساعات بعد صدور” من هو شارلي ؟” عبر مقال نشرَه رئيسُها فالس في يومية لموند تحت عنوان “ضدّ التشاؤم السائد والذين يريدون نسيان 11 يناير”. ـ2ـ كما كتبتُ إبّان أحداث “شارلي أبدو”، فقد كان واضحا أن حالة ما سميتُه حينها بالإجماع المنافق ستتفكّك بسرعة. وهذا بالذات ما تشهد عليه ظاهرة كتاب “من هو شارلي؟”. يَعتبِر تود أن ما قام به في هذا الكتاب هو أساسا دراسة علمية جرْدية. ولكن ما يلفت الرأي العام والماكينة الإعلامية إلى “من هو شارلي؟” ليس طبعا “علميته” ولا “جرديته” وإنما جانبه السجالي. فقد يكون أهمّ ما نجح فيه هذا الكتاب هو أنه نَـقَل ما كان نقاشا في حلقات ضيقة إلى سجال في الساحة العامة. حدة الردود أو وطابعها العنيف والسريع بما فيها الرد الحكومي تدلّ على أن تود نجحَ في فتح ملف محرج كان ينتظر من يعيد مراجعته. أما العناصر الأساسية لهذا الملف فتلخّصها الفقرة الاولى من كتابه التي تتحدث عن حالة هستيريا جماعية عرفتها فرنسا بعد حادثة شارلي إبدو. ـ3ـ الواقع أن كتاب ” من هو شارلي؟ ” أراد دعوة الرأي العام إلى إلى إعادة النظر فيما يمكن أن نسميه بالدلالات المسكوت عنها “رسميا” والتي عنيها عمقيا “إجماع″ ما بعد احداث شارلي وعنيتْها بشكل خاص مظاهرات ١١يناير وشعارها ” أنا شارلي” . يجيب تود عن سؤاله من هو شارلي ـ من هو هذا المتظاهر الفخور بشارليته يوم 11 يتاير ـ بأنه غالبا ما شخص ينتمي عائليا إلى الفئات الدينية التقليدية التي ناهضتْ تاريخيا الثورة الفرنسية وقاومتْ اللائكية كمساواة بين الطوائف الدينية. أما في الهرمية الاجتماعية الحالية فـ” شارلي” محظوظ اقتصاديا ينتمي إلى الفئات المهيمنة ويحمل في لا وعيه مستوى معتبر من العنصرية وكره المسلمين. ـ4ـ حاول تود أن يتتبّع الخرائط الإحصائية التي تكشف عن الانتماءات الجغرافية والاجتماعية الاقتصادية لمتظاهري ١١يناير. وحاول أن يثبتَ من خلالها أن الفئات التي نزلتْ للشارع ورفعتْ شعار الدفاع عن اللائكية هي غالبا فئات مناهضة تقليديا للأخيرة ورفعتْها وترفعها الآن فقط كشعار مزيف لا يستهدف إلا المسلمين. وبالتالي فظاهرة “أنا شارلي” تعني بالنسبة للمؤلف إعلان الطبقات الميسورة ذات الخلفية التقليدية الكاثوليكية عن هيمنتها في مواجهة الأقليات. وهو ما يعني في نظره أن هذه الفئات تريد أن تمنح نفسها حق الاستهزاء بالفئات الأقلّ نفوذا. فـ” السخرية من الإسلام تعني محاولة إذلال الأقلية الأضعف في المجتمع″. ـ5ـ الذين شاركوا في مظاهرات “أنا شارلي” لا يعون بالضرورة دلالة شارليتهم المعلنة. أي أنهم في تحليل تود يحملون دلالة غائبة عن وعيهم المباشر. فهم كأفراد، حين يٌنظر إلى سلوكهم أو يٌستمع إلى كلامهم، يظهرون أناسا طيبين لطيفين. ولكنْ “اسميتهم”، كما يقول الفلاسفة، تتعارض مع حقيقتهم العامة. أي أن حقيقتهم الجماعية تختلف عما يوحي به أي واحد منهم حين يُنظر إليه فرديا. يستنفر تود هذا الاعتبار المنهجي التقليدي في العلوم الاجتماعية كي يقول إن دلالة مظاهرات 11 يناير ليستْ فيما يوحي به الأفراد الذين شاركوا فيها ولا حتى في تصوراتهم الذاتية الواعية. فحين يتمّ اعتبار إحداثياتهم الاجتماعية ومحركاتهم الجماعية الضمنيه يتبين مفارقيا أنّ نزولهم إلى الشارع يكشف عن نفسه عمقيا كمترجم لرغبةٍ في الانكماش والتقوقع منغرسة في لاوعيهم المشترك وكسلوك عنصري تجاه المسلمين من حيث هم أقلية فرنسية متواضعة الإمكانيات ومن حيث هم أيضا آخر أجنبي يجسّد شبكة حية من الصور النمطية. بالنسبة لتود فإن مظاهرات ١١يناير لم تَـعْن إلا عكس ما ادّعتْه من مثُل المساواة والكونوية. فالمطالبة بحق السخرية من الشخصية المركزية للإنتماء الديني لأقلية فقيرة ليس شيئا آخر غير محاولة للتأكيد على هيمنة فئات معينة. فئات تريد أن تحتفي ذاتيا بهيمنتها وأن تمنح نفسها الحقّ في أن تبصق على دين الأقلية غير النافذة. ـ6ـ واليساريون الذين قادوا المظاهرات من مراكزهم الحكومية الحالية؟ هم الوجه الآخر لشارلي في نظر تود. فقد أصبحوا قوة يمينية ملحقة بنفس الفئات التقليدية التي كانت تاريخية معادية للثورة. فشلَ الحزب الاشتراكي في التأثير على هذه الفـئات ونجحتْ هي في المقابل في تجنيده واستتباعه. أصبح حزب الاشتراكيين في الحقيقة حزبا يمينيا. يأخذ تود هنا على محمل الجدّ ما يقوله الفرنسيون عادة على سبيل التنكيت من أنه يحكمهم تناوبيا حزبان يمينيان أحدهما يٌسمى الحزب الاشتراكي. فهو يخلص إلى أن الاشتراكيين الحاكمين حاليا في فرنسا هم ذاتيا معادون للعنصرية ولكنهم موضوعيا عنصريون وإسلاموفوبيون. لقد أصبحوا حملة لواء ما يسميه كتاب “من هو شارلي؟” بالهستيريا اللائكية الجديدة. فالذين نزلوا إلى الشارع يوم ١١يناير تظاهروا وهم يتوهمون أنهم يدافعون عن حرية التعبير ولكنهم في الحقيقة كانوا يدافعون عن “حرية أن نستهدف مجموعة معينة وأن نحقد عليها، وأن نفعل ذلك بضمير مستريح”. ـ7ـ ما الذي حدث ؟ المنحى العام بالنسبة للمؤلف هو أنَّ تَـراجعَ الكاثوليكية التقليدية وتأثيرها قد ترك فراغا وجوديا خصوصا لدى الفئات الأكثر ارتباطا بها والتي ناهضتْ باسمها الثورة الفرنسية. هذا الفراغ هو الذي يبحث في الاسلاموفوبياعما يملأه. بالرغم من أن المؤلف يشير إلى العوامل الجيوستراتيجية التي تقف أيضا خلف الاسلاموفوبيا (لاسيما في فصل طريف تحت عنوان “فرنسا والألمان والعرب”) إلا أنّ مركز اهتمامه في الكتاب ومنهجيته قد دفعاه إلى إبقاء هذه العوامل هامشية. وظَـلّ السبرُ الديمغرافي للسيكولوجيا الجماعية الفرنسية وتحولاتها محور تفسيره للحالة التي عرفتْها فرنسا وأجزاء أخرى من أوربا بعد أحداث شارلي إبدو. ومن الواضح في هذا السياق أنّ إيمانويل تودّ وضع الأصبع على نقاط إيديولوجية حساسة كانت تتـمنّع، في فضاء الرأي العام، على الممارسة المفضّلة للعقل النقدي. * مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل [email protected]