ذكرى الاستقلال ..ذكرى لأب الأمة المختار ولد داداه
صباح يوم قائظ في بئر أم كرين،من منتصف الثلاثينات،تصل رفقة من التجار البيظان إلى البئر،بعد أن أخذ منهم العطش،أي مأخذ ويأذن لهم الحاكم الفرنسي، بسقي قربهم والتزود من الماء،لكن ’’الرفقة’’ التي أعجبها حجم الدلو وقوة رشاءه،تقرر أن تضمه إلى متاعها وتغادر..ليجري بعد ذلك حوار ساخن بين القائد الفرنسي ومترجمه
القائد : إن رفقة البيظان الذين سقيناهم قبل قليل من بئرنا سرقوا الدلو، هكذا كان جزاءهم لمن أحسن عليهم.
المترجم : سيدي القائد ..إن البيظان لايسرقون وبإمكانك أن تتأكد من ذلك أرسل خلفهم بعض الكوميات.
القائد : يبعث مجموعة من الكوميات لإعادة رفقة البيظان،فيما يقوم المترجم باستدعاء الفرقة ليبث لهم وصية هامة.
المترجم : عندما تمسكون بالرفقة وتعيدونهم إلى بئر أم اكرين وتجدون عندهم الدلو، فعليك أن تسقطوه في البئر،وتؤكدوا للحاكم الفرنسي،أنكم لم تجدوا برفقتهم أي شيء.
يستجيب الكوميات،ويسقطون الدلو في البئر،بعد أن يكتشفوا بالفعل إن ’’رفقة البيظان’’ سرقوا الدلو.
عادت الرفقة خائفة من الانتقام الفرنسي،فيما كان كوميات قد عملوا بنصيحة المترجم،وأسقطوا الدلو في البئر.
المترجم : سيدي القائد لقد تأكدتم بأنفسكم أن ’’البيظان’’ لايسرقون ..ولكن قد يكون الدلو قد سقط في البئر إنه أمر طبيعي في حياة البدو…وبعد لحظات يعود أحد الكوميات ..بالدلو : لقد دخلت البئر وأخرجته منها
القائد : دعوهم يذهبون
المترجم : سيدي القائد ..لقد أفزعناهم وأعدناهم من بعيد،كما أن كوميات قد اتهموهم بالسرقة،أنني ألتمس من جنابكم تقديم تعويض مادي بسيط لهؤلاء البيظان.
يستجيب القائد..ويأمر للرفقة ببعض النقود..ويغادرون بئر أم اكرين بعد نجاتهم من عقاب محقق.
لم يكن المترجم الرحيم..غير الأستاذ المختار ولد محمذن ولد داداه الذي سيتولى بعد ذلك بفترة رئاسة،الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
رسميا ولد المختار ولد داداه سنة عام ’’ رحمة باب’’ 1924 لكن رفاق ولد داداه،وأقاربه يؤكدون أنه ولد قبل ذلك بسنوات،ولأبيه محمدن ولد محمد المختار (داداه) وأمه خديجة بنت محمود لابراهيم،عاش الطفل المختار…عاش المختار ولد داداه سنوات عديدة بين ربى بوتلميت،ورمال آوكار الأبكم…قبل أن تستقبله مدارس المستعمر الفرنسي سواء في المذرذرة أو بوتلميت قبل أن يلتحق بالثانوية في السنغال،ومنها إلى فرنسا حيث حصل على شهادة في الحقوق خولته العمل كمحام لدى المحاكم الفرنسية في السنغال، لكن ذلك كان مسبوقا بسنوات متعددة،عمل خلالها ولد داداه مترجما لدى الحكام الفرنسيين في عدد من ولايات الشمال الموريتاني.
متأخرا دلف الرئيس السابق المختار ولد داداه، حينما ،قرر الأستاذ المختار ولد داداه الانضمام إلى حزب الاتحاد التقدمي الموريتاني ويعد هذا الحزب ذو الاتجاه المعتدل أكثر الأحزاب الموريتانية قربا من الإدارة الفرنسية،وبسرعة واصل ولد داداه الترقي في الحزب ليصل سنة 1985 إلى رئاسة المجلس التنفيذي للحزب الأقرب سياسيا من الفرنسيين وقد عين ولد داداه رئيسا لمجلسه التنفيذي عام 1958.
بحسب خصومه فإن المسار السياسي صنع على ’’عين فرنسا’’ وهي من ظل يدفع به إلى الواجهة،لينتخب رئيسا للوزراء سنة 1958،بعد انتخابات (وي و نون) المشهورة.
لم تكن وي ونون بحسب الأديب أحمد سالم ولد ببوط إلا خيارات’’ والمخير ماه مغبون’’ أما ولد داداه فقد كان يرى
وي ونون الا خيارات
والمخير ماه مغبون
وي امحالي فالحسنات
وامحالي فالفظة نون
أما ولد داداه ورفاقه فقد رأوا أن التصويت لنعم قد يضمن مصالح كبرى لموريتانيا الفتية.
بعد ذلك بسنة واحدة أسس المختار ولد داداه حزب التجمع الموريتاني
وفي سنة 1960 أعلن المختار ولد داداه استقلال موريتانيا عن فرنسا،وبدأ رحلة ’’الكفاح الجديد’’ من أجل بناء موريتانيا، المعاصرة، وتحت خيمة ترأس ولد داداه أول اجتماع لأول حكومة موريتانيا.
ومن بين رمال نواكشوط،حيث تنشر أشجار اليتوع وتنتشر فيه قطعان كثيرة من الذئاب، قرر ولد داداه إقامة دولة أطلق عليها بعد خلافات كثيرة اسم الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
واجه ولد داداه أزمات كثيرة خلال فترة حكمه،كان عليه أن يجمع رفقة زملائه من الزعماء والوجهاء، الدعم والاعتراف بجمهورية موريتانيا الإسلامية، كان الأفارقة والأوربيون سباقين إلى ذلك الاعتراف،أما العرب فقد قرروا معارضة استقلال موريتانيا حفاظا على وحدة ’’أراضي المملكة المغربية’’ باستثناء تونس التي وفرت دعما كثيرا لموريتانيا.
معركة الاستقلال
على الصعيد الداخلي واجه ولد داداه الكثير من الأزمات،لم تكن المعارضة الداخلية للرئيس ولد داداه ضعيفة،ومع ذلك تمكن ولد داداه من إزاحة أغلب خصومه أو منافسيه،وعلى التوالي أزاح ولد داداه من طريقه كلا من سيدي المختار ولد يحيى أنجاي، وبا صامبولي، وسليمان ولد الشيخ سيديا ،فيما خاض صراعا طويلا مع النائب الأول لموريتانيا أحمدو ولد حرمه وببنانه ومسانديه داخل حكومة المختار الذين فضلوا اللالتحاق بالمغرب قبل أن يعود اثنان منهما ويبقى الثالث حتى آخر أيام حياته ،وغيرهم من الرفاق الذين خاضوا تجربة الاستقلال،ووضعوا الأسس الأولى لميلاد الدولة.
على الصعيد الداخلي واصل ولد داداه،تدعيم البناء الداخلي وواجه بقوة خصومه في حزب النهضة،ولاحقا في حركة الكادحين الموريتانيين،قبل أن يجمع الجميع في ’’حزب الشعب’’ الذي كان الانتماء إليه ركنا واجبا من أركان ’’ الموريتانية’’
على الصعيد السياسي استطاع ولد داداه حفر مكان مناسب له ليس على المستوى الوطني،ولكن أيضا على المستوى الإقليمي والدولي،وبحنكة المحامي وقدراته الفائقة،ورفقة فريق دبلوماسي متمكن استطاع ولد داداه استجلاب تمويلات كثيرة،حولت موريتانيا إلى ورشة أعمال.
عشر سنوات من الصراع والبناء، كانت كافية، ليكون السنوات الخمس الأولى من عقد السبعينيات، مناسبة للإقدام على قرارات كبيرة،مثل تأميم ميفرما، وكذا الإعلان عن عملة وطنية حملت اسم الأوقية،وكذا إنشاء طريق الأمل الذي يعتبر شريان الحياة الأول في موريتانيا.
غير أن السنوات الثلاثة الأخيرة،كانت كافية أيضا لإيجاد مبررات كثيرة لعسكريين ومدنيين متعددين من أجل الإطاحة بالمختار ولد داداه.
فبحسب هؤلاء،فإن ماري تريز،أصبحت تتدخل في كل صغيرة وكبيرة.
وبحسب هؤلاء أيضا،فقد كان إقحام الجيش الموريتاني في حرب طويلة مع جبهة البوليساريو خطأ كبيرا استنفد خزينة الدولة الموريتانية،وحطم معنويات الجيش الفتي،كما حطمت قوته المادية…وأثرت الأزمة على الدولة التي لم تدفع رواتب عمالها مدة شهرين.
ولد داداه.نفسه بدا محبطا،وفي اجتماعاته الأخيرة بمكتب حزب الشعب كان ولد داداه يعبر عن رغبته الدائمة في مغادرة السلطة، خصوصا أنه لم يعد يثق كثيرا في المقربين منه،خصوصا،أحرى العسكريين والمدنيين الذين يخططون للانقلاب عليه.
فشلت أول محاولة انقلابية،اتهم المختار ولد داداه صديقه وأصيله وزير الدفاع محمد ولد الشيخ ولد أحمد محمود وعددا من الوزراء والمسؤولين القريبين منه بالسعي إلى الإطاحة به،أبعد ولد أحمد محمود عن وزارة الدفاع،ومنها إلى بوتلميت قرر الرجل الذي أسس الجيش الموريتاني أن يبتعد ابتعادا كاملا عن السياسة والأضواء وبتصميم لا رجعة فيه لا يزال ولد أحمد محمود وهو شيخ مسن يواصل اعتزال عالم السياسة.
آخرون يؤكدون أن المختار كان على علم بمحاولة الانقلاب العسكري ضده،وأن جهات دولية متعددة،أكدت للمختار أن بعض الضباط والمدنيين سيطيحون،به،لكن الرجل ترك الأمور تسير..ربما لم يكن يتوقع أن الانقلابيين سيعاملونه معاملة غير لائقة ’’حيث تعرض لضربة بمؤخرة مدفع على الرقبة،ثم نقل إلى سجن بعيد في ولاتة أقصى الشرق الموريتاني،حيث تفاقمت ظروفه الصحية،قبل أن تطلب فرنسا السماح بنقله للعلاج،لكن العسكريين رفضوا في البداية،قبل أن يطالبوا بتعهد مكتوب بإعادته خلال شهر،وبعد شهر كان وزير الخارجية شيخنا ولد محمد الأغظف في باريس يطالب الفرنسيين بالوفاء بوعدهم وإعادة ولد داداه إلى موريتانيا،لكن الرئيس الفرنسي جيسكار ديستيه رد قائلا ’’ليس من تقاليد فرنسا تسليم مريض إلى أشخاص يمكن أن يسهموا في إيصال الأذى إليه’’ لم يكن الأمر رحمة من جيسكار بولد داداه،فلم تكن الإطاحة بالمختار إلا جزء من سياسة فرنسا في ’’ رعاية مستعمراتها القديمة’’
على الصعيد الشخصي يوصف المختار ولد داداه بأنه رجل هادئ متشبع إلى حد كبير بالثقافة الموريتانية الأصيلة،يكثر الاستماع ويملك قدرة هائلة على النقاش والحوار،كما أنه رجل واقعي،بعيد عن الاستبداد.
كما لا يوصف ولد داداه بالفساد،فكل الذين عارضوه وحتى الذين أطاحوا به لم يستطيعوا أن يوجهوا إليه أي تهمة بالفساد، كما أنه لم يترك ما يدل على ذلك.
عاش ولد داداه بقية حياته في فرنسا رافضا عروضا مغرية بإعادته إلى السلطة،أما مجرد عوته إلى الوطن فقد كان عملا غير مناسب بالنسبة للأنظمة التي أعقبته لكن ولد داداه عاد أخيرا وقبل وفاته بعامين لا أكثر …أقام في منزله بنواكشوط،كان المرض يلح عليه،ليعود لاحقا إلى فرنسا حيث غادر الحياة، في 14/أكتوبر /2003وفي فترة مليئة بالاستقبالات الرئاسية الحاشدة والمثيرة،خصص جيل كبير من سكان نواكشوط الذين لم يعاصروا حكم ولد داداه،داعا مهيبا لجثمان أول رئيس لموريتانيا،قبل أن يودع ذلك الجسم الثمانيني في أحد القبور في ’’مقبرة البعلاتية الشهيرة شمالي بوتلميت،هنالك أيضا يجد المختار كثيرا من الأشخاص الذي كان يعرفهم بدقة ..هنالك والده محمدن ولد داداه،وأعمامه الأدباء ..شيخنا والمختار …وهنالك أيضا الزعيمان الروحيان الذان عاشا بعض الخصام مع ولد داداه ..عبد الله وسليمان ابنا الشيخ سيديا.
نقلا عن السراج
هنالك الكثير من الأهل والرفاق …يمكن لولد داداه أن ينام نومة هادئة ..لأنه في البعلاتية التي المنطقة الأكثر’’قداسة ’’ لدى سكان بوتلميت.
لا يزال ولد داداه ..رغم كل ما كتب عنه الإسم الأكثر نصاعة في التاريخ السياسي المعاصر لموريتانيا،وربما الأكثر إثارة أيضا