حديث السبت: لماذا تأخّر العالم العربي وتقدّم المسلمون الآخرون ؟
د. محمد بدي ابنو *
“المتشائم يرى صعوبة في كلّ فرصة والمتفائل يرى فرصة في كلّ صعوبة” يُنسب إلى تشرشل
ـ1ـ
“لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟”. كما هو معروف، هذا هو السؤال المركزي لــ”النهضة”، وإن كان طرْحُه قد بدأ على الأقلّ منذ القرن السابع عشر. وزادتْ بشكل خاص حدّة طرْحه بعد معاهدة كارلوڤجي (1699).
لنلاحظ أن الصيغة الحالية للسؤال تعود إلى الثلاثينات من القرن الماضي (كتاب شكيب أرسلان الصادر سنة 1939). بهذا المعنى فإن العقود السبعة الماضية قد حملتْ تغييرا كبيرا في الإشكالية. بمعنى ما يمكن أن نقول إن سؤال شكيب أرسلان قد تغيرَ جذريا وأصبح حاليا : لماذا تأخر العالم العربي وتقدّم المسلمون الآخرون ؟ طبعا ليستْ هذه الصيغة دقيقة تماما ولكنها تعني ما تعنيه. بعبارة أخرى فإن دولا إسلامية عديدة (اندنوسيا، تركيا، إيران إلخ) قد قطعتْ خطوات معتبرة على صعيد عقلنة الفضاء العام في المستويين الاجتماعي والاقتصادي بينما يبدو العالم العربي ـ أو أجزاء واسعة منه ـ أكثرَ المناطق مقاومة للإصلاح. بمعنى ما أصبح العالم العربي مشكلة العالم الاسلامي.
ـ2ـ
لنتذكر ـ باختصار يقتضيه السياق ـ أن مفهوم العالم العربي هو مفهوم حديث النشأة. تعود التسمية نفسها إلى تداخل وتفاعل بين الاصطلاح الأوربي والاصطلاح العثماني. ظهر المفهومُ جزئيا في القرن التاسع عشر في إطار تفكّك/تفكيك الامبراطورية العثمانية من جهة. ومن جهة أخرى في إطار التأثر العالمي بظهور مفهوم الدولة الوطنية الأوربية المبنية أو يُفتر ض أنها مبنية مدنيا ـ عكسا للإمبراطوريات القديمة بما فيها العثمانية ـ على وحدة الانتماء الثقافي اللغوي (كواقع أو كمشروع). طبعا كان خلْقُ بدائل تعوّض تفكّك الامبراطورية صريحا في المراسلات الاستعمارية (مثلا مشروع نابليون الثالث لتكوين مملكة عربية تابعة لفرنسا في شمال افريقيا مركزُها الجزائر ثمّ توسيعها تدريجيا نحو الشرق الأوسط إلخ). وجاءت الأربعون سنة الأخيرة من القرن التاسع عشر لتصوغ أفقا سياسيا في اتجاه مشابه (مثّلَ في البداية انتشارُ الصحافة المصرية / الشامية أهمّ أدواته). غيرَ أن نفس التوجه الجيوستراتيجي الذي قاد إلى تفكّك/تفكيك الامبراطورية العثمانية ثم إلغائها قد قاد أيضا إلى تفكّك/تفكيك العالم العربي إلى دول قطرية (مؤتمر برلين بالنسبة لدول المغرب وإفريقيا ولاحقا سايكس بيكو بالنسبة لدول المشرق).
ـ3ـ
لم تنجح الدولة القطرية التي ظهرتْ بعد الحرب العالمية الثانيةـ لا داخليا ولا خارجيا ـ في أن تكسب مشروعية ذاتية. ظلّ العنفُ أداتَها الأساسية لفرض وجودها من حيث هو أساسا ـ وربما حصرا ـوجودٌ يبرّر نفسَه بالأمر الواقع. إنها موجودة لأنها وجدتْ، كتركة استعمارية. وتماهتْ في أغلب الأحيان الدولة القطرية مع النظام الحاكم. تّمّ ذلك التماهي في الأنظمة الملكية الجدّ يمينية. تماما كما تمَّ ـ بشكل أكثر تغولا ـ في الأنظمة اليسارية شبه الستالينية. وانضاف إلى هذه الوضعية أن الأنظمة الأكثر استفادة من الطفرة البترولية منذ بداية السبعينات هي تحديدا الأنظمة الملكية العائلية وتزامنيا الأنظمة شبه الستالينية المفرطة في “الأورويلية”. وبقدر ما ساعدتْ نهاية الحرب الباردة على فكّ القبضة البوليسية عن عدد من دول العالم بقدر ما تضاعفتْ هذه القبضة في العالم العربي. السؤال التلقائي الذي ظهر مع ما عُرف بالربيع العربي تعلّق بداهةً بمدى قدرته على وضْعِ حدٍّ لهذه الوضعية الاستثنائية. إلا أن تحول “الربيع” إلى حروب أهلية وثورات مضادة قدّ غيّر الأفق بسرعة.
ـ4ـ
إلى أين ؟ تضمّنَ تقريرُ ٢٠١٥ الذي أصدره الاتحاد الأوربي (معهد الاتحاد للدراسات الأمنية) عن مستقبل العالم العربي ثلاثة سيناريوهات ممكنة في العشرية القادمة. في السيناريو الأول سيجد العالم العربي نفسه سنة ٢٠٢٥ في مواجهة ثلاثة تحديات رئيسة : ارتفاع البطالة الشبابية، تزايد المطالبة بالمشاركة السياسية، تجذّر العنف الإرهابي. سيكون عقدٌ من الزمن قد ضاع دون حصول تقدّم على مستوى تصفية العنف واستعادة الاستقرار. وسيظل شبحُ الإرهاب والتأجيل المستمر للإصلاحات ثنائيةً جدلية يتغذى كلا طرفيها من الآخر. كما ستتوسع مناطق العنف في دول المشرق ودول المغرب حتى ولو لم تصل إلى مستوى العنف الشامل. وهي حالة ستمنع طبعا ـ حسب التقرير ـ من حصول أي اندماج اقتصادي في المنطقة العربية كما ستحول دون إحراز أي تنمية.
ـ5ـ
أما السيناريو الثاني فهو أكثر تشاؤما. فظهور حركات مثْـلَ تنظيم الدولة سنة ٢٠١٤ قد يكون بداية دخول العالم العربي في مرحلة عنف شامل وتدمير غوغائي كلّي للمؤسسات والبنيات التحتية التي اُأُنجزتْ في القرن العشرين. وستستهلك مواجهة هذه الحركات كلَّ طاقة أصحاب القرار. وهو ما سيعني مزيدا من إهمال التربية والتعليم ومن إهمال التنمية الاقتصادية، ومزيدا من المترشحين لحركات العنف العشوائي. انعدام الامن وفوضوية المداخيل، وازدياد التبعية للواردات خصوصا في مجال الغذاء وانعدام أي مستوى من الاندماج الاقتصادي بين الدول العربية وبالتالي تضاعف الخضوع لإكراهات السوق الدولية ستقود كلُّها إلى حالة عامة من الشلل الاقتصادي ومن شمولية العنف. وتبدو في هذا المسار الافتراضي الدولُ التي كانت محطّ آمال كبيرة أكثر عرضة للانتكاس. فتونس التي بدتْ النموذجَ الأكثر جاذبية منذ انطلاق “الثورات”ستعرف الحالة الأسوأ حسب هذا السيناريو وستعود إلى مربع الاستبداد والحكم العسكري.
ـ6ـ
عكسا لهذين المسارين المفترضين فإن السيناريو الثالث بالغ التفاؤل. فهو يتوقع قفزة نوعية يحاول التقريرُ أن يتلمّس أسسها في البيانات الاجتماعية الاقتصادية لمختلف الدول العربية. يتوقع التقرير أن هذا السيناريو في حال حدوثه سيرتكز على رافعتين تصدران عن تنسيق فعلي للجهود بين أصحاب القرار السياسي والاقتصادي في كلّ دول المنطقة. أولاهما سياسات تربوية تكاملية تسمح للتعليم بأن يتصدّر سلّمَ الأولويات. والثانية خلق فضاء اندماج اقتصادي يسمح بتفعيل مشروع السوق المشتركة (كنموذج يَستثمر تجربةَ السوق الأوربية المشتركة) الذي يتحدث عنه التقرير بكثير من الحماس كمشروع قابل للتحقّق في العشرية القادمة .
ـ7ـ
يمكن أن ننظر هنا إلى هذا التقرير في إطار وعي أوربا المتزايد بخطر ما يحدث الآن لمستعمراتها السابقة في إفريقيا والعالم العربي. فهو بالنسبة لها خطر متفاقم على أمن دول الإتحاد ومكانتهم في العالم. وهو لذلك خطر يأخذ معناه في مواجهة النفوذ المتزايد للصين ودل شرق آسيا. لذلك ينصح التقرير ضمنيا ـ وبحماس لافت ـ بالعمل على ظهور مؤسسة سياسية جامعة تتجاوز الدول القطرية يتوقع السيناريو التفاؤلي (الثالث) أن تمثِّـلَ في سنة 2025 صيغةً مطورَة للجامعة العربية. بهذا المعنى فإن سؤال شكيب أرسلان لاسيما في صيغته المعدّلة أصبح سؤالا أوربيا كما هو سؤال إسلامي. فأوربا التي كانت ترى في بقاء الدول العربية القطرية حاجة أوربية أساسية أصبحتْ ترى هذه الدول، في صيغتها القطرية المفكّكة، خطرا وجوديا عليها في ظلّ التشكّل الراهن لخريطة التوازنات الدولية.
* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل