الثالوث العنيد : هوان النخب، الفقر و سوء التسيير/الولي ولد سيدي هيبه
نخبة الأمس و ضياع الهوية
إن حالة المسخ الحضاري التي تعيشها اليوم نخبة هذا الوطن في الصميم، رغم مظهر خارجي يوهم بالبقاء على الأصالة و رسوخ التميز، يزيد شدة كلما اتسعت دائرة انحسار الهوية و تلاشي المنطلقات و تداعي المرتكزات.
فهذه النخبة التي توحدت في هذا الاتجاه بمشاربها و اديولوجياتها المتعددة قد ساعدت في إضعاف مناعة مواطني بلدها بما تسببت فيه من إفقادهم مرتكز التوازن و مبعث الثقة حتى باتوا أمام متطلبات حاضرهم الصعب و مستقبلهم القاتم كأوراق الشجر تتساقط عندما تيبس فتهب نفسها للرياح تذروها في كل الاتجاهات و تسلمها لعيدان المكانس تزيلها و لأفواه المزابل تلتهمها. لقد بدا في منتصف الستينات أن النخب التي رأت النور- في أحضان مجتمعات تغط في سبات داخل شرنقة عقليات القرون الغابرة إن جاز التعبير- إثر عملية ولادة قيصرية تمت على أيدي قادمين من بلاد “المدنية الحديثة” لم تدرك خصوصية و استثنائية ما يحدث فعجزت بذلك عن إعداد الأسباب لاستيعابه و هي التي لم تكن كذلك تقرأ في كتاب التاريخ الذي لا يطبق كفاءه أبدا. و قد كان للانبهار بهذا القادم كذلك دورا خطيرا في إعداد هذه النخب للوثب من فوق محطة التاريخ التي هي على علاتها هي وحدها من يحدد الاتجاه ويسبر أغوار الطريق حتى يكون سالكا. بدأ المستعمِر عملية هدم الكيان الهش وتعطيل الانتماء التاريخي المذبذب حيث شرع في رفع الجدار العازل بينه و بين ماضيه. عمل في البدء على ترسيخ لغته المفعمة بعبارات التحرر من كل القيم و بإطلاق العنان لكل مكامن الهوى فيما سعى الثاني إلي الطلاق من لغته المقيدة عن ضلالات الهوى وعبثية التحرر اللامشروط. و لكن و بعد حين جرت لغة المستعمِر مجرى الدم في العروق في جسد ضحية سرعان ما ضاقت ذرعا بلغتها فنبذتها و رمتها بالعقم و نعتتها جزافا بعد ذاك بالأداة المقيدة والمعرقلة للتقدم و الحداثة. و قد وضعت هذه الازدواجية النخبة في قفص المحاكاة السلبية و فتحت الباب علي مصراعيه أمام عصر من المسخ الحضاري لا قبل لهذا الشعب بمثله. و كانت أولى بوادر هذا المسخ أن تجلت في التنكر للماضي الذي أوصل الأمة، على علاته و نواقصه، إلى مرحلة لم يملك المستعمر إلا أن يشيد بقوة تأثيرها عليه والاعتراف بأنها استطاعت الضرب بيد من حديد على يده حتى استجاب لجملة من المطالب المتعلقة في الأساس بماهية الأمة و خصوصيتها في منطقة تصب في حوضها المتسع روافد حضارية كثيرة. و يجدر التعرض في هذا المقام لأهم هذه المطالب توضيحا جليا وهي التي ظهرت أساسا في: – تحديد المظلة «المعتقدية” للدولة و للشعب والإعلان بذلك عن الفشل في تنصير البلد. و كان المستعمر قد أتسهل بعدما استتب الأمر له و خفتت أصوات بنادق المقاومة مهمة التنصير تكملة لما قام به في كل مستعمراته الأخرى و ذلك بإرسال بعثة تجريبية إلى ولاية “لبراكنة”. وتشاء قدرة الخالق بأن تمنى هذه البعثة الطلائعية كما ذكرنا في مقال سابق بفشل ساحق و مجلجل كما ذكرغابريال فيرال (راجع كتابه طبول الرمال Tambours des Sables – Gabriel Ferral)) الذي كان يومها ممثل الحاكم العام لغرب إفريقيا الفرنسية في سان لويس بالسنغالSaint Louis du Sénégal). و قد دعيت الدولة الناشئة بالجمهورية الإسلامية الموريتانية، – التعامل مع اللغة العربية كأداة معبرة عن كيان متميز و خلفية ثقافية ناطقة ومسجل جدير و متمكن للأحداث التاريخية و القانونية. ولإن كان المستعمر قد استطاع أن يلتف في الصميم على هذه المطالب – التي جاءت كما أسلفنا استجابة عميقة لرغبات نابعة من عمق الانتماء و الخصوصية – و أن يصل بفضلها إلى مآربه، فذلك لأنه تمكن في سبيل هذا المقصد من إضعاف جذوة الانتماء في أعماق نفوس النخبة. و بالرغم من ذلك كله فإن فرض هذه المطالب نفسها آنذاك كان وسيظل إلى الأبد الحقيقة التي لا سبيل مطلقا إلى تزييفها أو بالأحرى دحضها. اتخذ هذا المسخ- الذي أصيبت به الطبقة التي جرى تعليمها باللغة الفرنسية في أول الأمر و إرسال بعثات منها إلي باريس لمواصلة التعليم والتدريب- طابعا تبني: – الفكر التحرري الذي ذهب ببعضهم من الجيل الثاني الذي دخل المعترك السياسي خلال السنوات الأولى للاستقلال إلى اعتناق الشيوعية، – التوجه الشديد إلى الزواج من الغربيات ليس بوصفهن كتابيات و إنما إمعانا في الاغتراب، – التركيز على حب المدن دون العمق الريفي و الحضاري الذي كان يحسب على التخلف الفكري مما كان ساعد على تحفيز أهله إلي الهجرة منه إلى إلي المدينة، – التباهي بالثقافة العالية التي لا تعالج الواقع و تخلق عقدة الترفع و الاستعلاء – حب السلطة و المال سبيلا إلي خلق الفوارق التي تبرر استمرارية هذا الوضع الذي يضمن استمراريتهم على رأس الهرم. و لو أن الاستعداد لتقبل كل ما من شأنه أن يفسح المجال أمام إمكانية الحكم و السلطة كان قائما من قبل المستعمر و وسائله المطورة لأجل ذلك، فإن النحو الذي انجرفت إليه النخبة المصطنعة هذه واقع الأمر في هذه البلاد أخذ منحى خطيرا أسس لكل الفوضى التي ما زالت تعيشها و لا تجد المخرج منها. و لم تكن النخبة التي أفرزها فيما بعد الانفتاح على التيارات القومية العربية بأحسن حالا حيث لم تأخذ هذه الأخيرة إلا السلبي المصبوغ بمحاكاة الغرب الذي لم تسلم منه أمة و لا كيان. فبقدر ما كان المسخ على النحو الغربي على حساب الإرث التاريخي و المعتقدي و الإنساني، كان كذالك في الاتجاه الآخر على حساب التميز و الأصالة. وأعلم علم اليوم كالأمس مثله و ما التخبط السياسي والفوضى البنيوية للدولة الحديثة التي ما زالت سارية إلا نتيجة جد موضوعية لهذا المسخ الذي أصيبت به الطليعة أيام قيامها. ثم إنه ليس من الصعب إدراك ذلك بالنسبة لبلادنا التي ما زال عبق العطر الفرنسي الذي نثره المستعمر يوم توقيعه على وثيقة استقلال البلاد يفوح من ملابس بعض أفراد الطليعة الأولى و الذين ما زالوا على قيد الحياة يؤثرون كما كنوا يتأثرون. إن الإيمان بالوطن لا يترجمه سوى أمران الحفاظ على هويته من خلال التشبث بخصوصيته و العمل علي بنائه من خلال تسيير موارده البشرية و المادية المتوفرة. و لا سبيل إلى القيام بذلك ما لم تكن الطلائع مدركة بأنه مهما تعددت المشارب الثقافية و العلمية التي تنهل منها فإن ذلك لا يضاهي، لتفعيل حركيتها الضرورية من أجل خلق الكيان الواثق بنفسه و القادر على رفع التحديات، معرفة إرثها الحضاري الذي هو مصدر الإلهام الأول و الطاقة التي لا ينضب معينها. و الذي تبدو عليه موريتانيا من فقر تترجمه الأوجه الشاحبة و القامات الهزيلة و البنية التحتية التي تشبه أرض معركة و أشباه المدن التي تستحي الأشباح من سكناها و انعدام أطر فنية تنظم أيا من أوجه الحياة الحديثة التي تعج بالحركية و التطور وغياب الأمل في أعين الأطفال و الفرحة عن محيى النساء و الطموح عن قسمات أوجه الرجال. ثم إنه مما يؤجج هذا الفقر المدقع لحد الإعلان عن حلول المجاعات ما تشهده البلاد من استخراج لمعادنها النفيسة من باطن أرضها و من نفط ثمين من شطها دون أن تستفيد منه و لو فتاتا. و لو لم تكن هذه النخب مجردة من الإحساس بأن كيانها من هذه المعادن و ملوحة أجسادها من ملوحة بحرها لما كانت تقف متفرجة على هذا الاستنزاف البشع لخيرات البلد و لو بالمقابل الذي يظنون أنه ماء يغسل وجوههم بعد اتساخها بأدران الخيانة. ثم إن هذه النخب التي تعج بها الأحزاب و منظمات المجتمع المدني تبدو راضية بالوضع المأساوي و لا تحرك ساكنا لا سياسيا و لا ثقافيا و لا عمليا لمجرد التعبير حتى عن الاستياء. و لكن حينما يتعلق الأمر بتوزيع المناصب و الفوائد فإنها تعلي الصوت و تضرب على الطاولة وتهيج قرائحها بمعين معارفها لكي لا تفوت أحقيتها إن لم تكن أسبقيتها. لكنني بعلم ما في غد قلق إن لم يكن أمر هذه النخب كما سلف فكيف يمكن تفسير الوضع المأساوي الذي لا تخطئه عين في ظل الحديث عن المقدرات الهائلة التي لا تكف الأوساط الاقتصادية و المالية العالمية عن الحديث عنها بل و عن استغلالها دون ما انقطاع و لا أيضا مردودية اللهم على أفراد و من تحت طاولات الخزي و الخيانة؟ إن الرد عن هذا السؤال الملح يتطلبه البحث عن رفع التناقض الحاصل. و تبقى الجهة الأولى المنوط بها ذالك الرد هي التي أوصلت إلى الوضع المذكور مما يزيد الأمر سوء و يجعل صورة وضع البلد أكثر قتامة بل مدعاة لقلق أكبر. إنه من باب تحصيل الحاصل القول بأن بلادنا لم تعرف منذ استقلالها هدنة في معركة “الكيان” التي تخوضها على عديد الجبهات ما زالت عاجزة عن كسب أي منها. و إنه من نافلة القول كذلك أن الاستعمار الذي أعلن عمليا عن مغادرته كان فعليا لا يزال حاضرا من خلال نخبته التي اصطنع والفكر الذي أودعها إياه. ذالك الفكر المادي الذي كرس هدم الخصوصيات التاريخية وضخم حقل “الأنا” على ما كانت عليه حتى لتصبح حائلا دون إنصهار الجميع في جسم الوطن الواحد لتتحد الآلام وُتتقاسم الأفراح. وإن الوضع المأساوي الذي يلف البلد بردائه الأسود تترجمه بوضوح مجموعة من التجليات تلخصها محاور أبرزها: الفقر الماثل / جاور الماء تعطش إن الأنباء التي ترد و مصدر التقارير الأخيرة للمنظمة العالمية للأغذية التي تحدثت عن مجاعات فى عديد البلدان ز منها موريتانيا بسبب النقص الكبير المسجل في كميات الأمطار المتهاطلة البلاد خلال السنة المنصرمة تدل بما لا يقبل الشك على أن الدولة غير مستعدة تماما لتلافي هذا الخطر الداهم و الذي لو أنصفنا المنطق لقلنا إنه كان بجب أن لا يفاجئ دولة قائمة بكل أركانها علما بأن موريتانيا واقعة من حيث الموقع الجغرافي على مدار السرطان و تعدها منظمة “السلس CILLS” لدول السحل المتاخمة للصحراء و هي عضو فيها، و بدقةساحل الساحل أي أنها أكثر البلدان تأثرا بالجفاف و ندرة المياه و قلة الأمطار. و ما كان لهذه الوضعية أن تغفل اليقظة الدائمة و الاستعداد المطلق الذي يجب أن تكون عليه لتلافي تبعات التأثيرات النقص المسجل فيتم تفادي الكوارث على البلد و العمل على تخفيف وطأتها السلبية على المواطنين المنكوبين. و هنا تكمن إحدى أخطر الثغرات في عملية التسيير التي تباشرها القطاعات المعنية لبلد عضو في منظمة الأمم المتحدة ما يعني أنه في لب حركة النمو العالمي. وتقع المسؤولية الكاملة – فيما يتعلق بهذه الثغرات التي سنعرض لبعض أهماه و قد أوصلت الوطن إلى ما هو عليه من ضعف و عدم متابعة المواطن و مكافحة للفقر المدقع و أمية منتشرة – على كاهل كل النخب سواء منها التي لم تضطلع بدورها الذي كان أولا أو التي ولت و لتي ما زالت تنشط على كل الأصعدة و تهتم بشأن تسيير البلد و قيادته. و لما كان حتميا ذكر أهم أسباب الإخفاق المزمن في قيام دولة القانون و البناء و العمل و العدل و المواطنة فإن ما يبدو جليا: – عدم قدرة الدولة التامة على استغلال خيراتها الوفيرة التي تم استكشافها مبكرا كمناجم الحديد و النحاس و التي اشتهرت بها موريتانيا في كل أرجاء العالم حتى كاد قطارها يدخل موسوعة “غي نسGee ness ” لطوله و كثرة عرباته التي كان يجرها وهي تحمل خامات الحديد إلى ميناء انواذيب المطل على المحيط الأطلسي. – عدم التوجه المبكر إلى استصلاح أراضي ضفة النهر الخصبة و نشر ثقافة الزراعة التي من شأنها أن تكفل للدولة القوة الحقيقية ولشعبها الرخاء الدائم في ظل أمن غذائي محلي. – عدم التوجه المبكر كذلك إلى شاطئ أطلسي يوصف بأنه من أغنى الشواطئ بالأسماك و غيرها من الثروات الوفيرة، – عدم التخطيط لتعليم فعال و فني و هندسي يراعي و يأخذ في بداياته بعين الاعتبار مقدرات البلاد وضرورة المضي بخطى حثيثة و مطمئنة و بالسرعة المناسبة إلى “مرتنة” الوظائف و إسناد مسؤولية استغلالها لأبناء الوطن المكونين تكوينا مناسبا في الزمان والمكان المناسبين كذلك. – عدم استنتاج الدروس و العبر من المحن التي عرفتها البلاد و على وجه الخصوص و منها ما كان له وقع شديد على المواطنين كالجفاف الذي تواصل لأكثر من عشرين سنة متتالية أي من السبعينيات إلى غاية منتصف التسعينيات و الذي أتلف الحرث و أباد ثروة حيوانية كانت تعد بفخر كبير من أهم نظيراتها في شبه المنطقة كلها و شح الأمطار في التسعينات و اللألفين و هجرة المواطنين الذي ذاقوا مرارة الجوع و الفقر المدقع على كل الطرق المؤدية إلى العاصمة التي لم تلبث أن اكتظت بهم أحياء بائسة من الصفيح. – عدم استنباط الدروس كذلك من حرب ضروس كلفت البلاد أسعارا باهظة في الأرواح الشابة و في الأموال الطائلة التي أثقلت كاهل البلاد المثقل أصلا، بعبء الفقر و التخلف، بالديون الكثيرة مما تسبب فيما بعدها برهن كل مناجمها و ثروتها السمكية الهائلة بأيدي سماسرة الحروب ومستغلي ثروات الضعفاء. – عدم التوجه بالبلاد إلى التصنيع الخفيف، الذي لا يكلف في الأساس سياسات تكوينية مكلفة و معقدة، لتضمن به الاكتفاء الذاتي من الاحتياجات الأولية الضرورية و للتوفير بذلك جزء كبيرا من العملات الصعبة التي تحصن البلاد من صولات الأقوياء و تؤمن لها الضروريات الملحة عند حلول الأزمات الكبرى. و لقد كان من المكن جدا بلورة سياسية واعية مبنية على الحسابات الدقيقة و إرادة التنفيذ الصلبة و عمق الإيمان بصنع المستقبل الزاهي من خلال موجودات الحاضر ذالك بأن المقدرات الكثيرة من الحديد و النحاس بالكاد كان بدأ استغلالها. ولأن عدد المواطنين كان إذ ذاك يربو قليلا على المليون نسمة فإن كل الظروف الإيجابية كانت مجتمعة لانطلاقة قوية و متوازنة بالبلاد إلى رحاب الازدهار و التقدم ككل الدول الغنية التي سخرت عبر سياسات وطنية طموحة و جد معقلنة إمكانياتها لإسعاد مواطنيها. كل ذلك كان ممكنا التحقيق و في المتناول لما تهيأ لذلك من الأسباب الإيجابية. فمن ناحية كانت البلاد قد حصلت في وقت قصير على نخبة متميزة تخرج معظم أفرادها في المدارس العليا بالغرب و من بعد ببعض الدول العربية و كذا الكتلة الشيوعية البارزة آنذاك. و من ناحية أخرى فقد انكشف الستار مع تقدم التقنيات عن ثروات هائلة في كل أرجاء هذه البلاد الشاسعة منها ما هو مطمور في باطن الأرض و منها ما هو ظاهر على سطحها، ثروات إن أحسن استغلالها قد تدر على البلد و أهله خيرا كثيرا و تفتح الباب واسعا لتحقيق النماء و التقدم و تبسط الرخاء. و لو تضافر هذان العنصران لكان لهذه الدولة شأن و أي شأن و لكن هيهات فقد جرت الرياح بعكس ما يشتهي مواطنوها. فلقد دخلت النخبة الجديدة أنذاك صراعا على حلبتين لم يكتب لها النصر في أي منهما. فأما الجبهة الأولى فكانت المعركة الدائرة على محورها مع النفس التي أصيبت بازدواجية التفكير ما بين سلبيات الماضي و مساوئ المسخ بينما كانت تحصل المعركة الثانية على محور السباق إلى السلطة لذات السلطة و بكل الوسائل المتاحة. أما مكمن المرارة فكان في ضياع الشعب ما بين نخبة أنانية متسلطة لا تسعى له إلى تأمين عدل و لا حرية و لا تعمل على استفادته من مقدراته التي تستخرج من تحت قدميه و الفقر يطوقه وكأنما يصدق فيه “جاور الماء تعطش”. سوء التسيير: شرط النهايات تصحيح البدايات ولأن القاعدة الفقهية المعروفة، وقد أضحت بالقياس الصحيح قاعدة الدقة و المنطق عموما، تقول إن شرط النهايات هو تصحيح البدايات، فإن ما كان في بلادنا – و هي الأولى بتطبيقها- جرى على عكس إملاءاتها. فكل النهايات السيئة لنصف قرن من تسيير الدولة الحديثة ما كانت إلا لتقلب هذه القاعدة وتفصح أيضا عن حقيقة ما ظهرت عليه هذه النخب من ضعف قارب الشلل و تقصير شابه اللامبالاة خلال الحكم المدني الأول و من بعده كل الأنظمة العسكرية التي تعاقبت في سلسلة مقيتة من الانقلابات (1975-1984) و كذلك ديمقراطية مصطنعة (1996-2005) و أخرى زكاها الغرب و باركها(2005) بعد أن سلم العسكر الحكم للمدنيين زمام الأمور و من بعدها انقلاب (2008) الذي جاء بعد أن لم يستطع الحكم المدني المنتخب لضعفه أن يمسك بزمام أمور البلاد التي كادت أن تفلت من بين يديه و تحدث فوضى عارمة. و أما النخبة الأولى التي حكمت أيام الرئيس الأستاذ “المختار ولد داداه” فعانت حتى النهاية من ازدواجية شلت تسيير شأن البلاد الفتية و قد اتبعت معايير الغرب في التسيير الظاهري المعلن بينما ظلت في واقع الأمر خاضعة لعقلية و اعتبارات البنية التقليدية للمجتمع حيث لم تغب لحظة عن الأذهان فشلت بذلك حركية التنمية التي كان من المفروض أن تجري بسرعة قصوى علي أيدي شبيبة تمثل أزيد من ستين بالمائة من مجموع تعداد السكان. و مرة أخرى كانت الأمور تجري في عكس الاتجاه المرجو لها إذ وقع هذا الشباب الذي كان من المفروض أن يحمل مسؤولية بناء الوطن تحت تأثير هذه النخبة المترددة. و لم تسلم النخب الموالية المتشبعة بالفكر السياسي الجديد الذي كان يحمل على اختلاف مشاربه و توجهاته سمات الحداثة و منها الموغل في محاكاة الغرب في الشكل و في المضمون. فهي و إن أضافت توجها جديدا فقد وقعت في غرام السلطة لذاتها و لم تزد في العمل الميداني و لا في التوجيهات الشاملة لعملية تسيير المقدرات الكبيرة و توزيع مداخلها على أوجه العمل التنموي و التثقيفي الميداني: – من تشييد لصروح تعليمية تربوية خلاقة – و بناء منشئات صحية لائقة – و وضع سياسة ماء قوامها السدود و الآبار و غيرها، – و تطوير الزراعة النهرية و المطرية و في الواحات، – وقيام قاعدة صناعة صلب و نحاس على الأرض، – و تكرير للنفط في مخرجاته الأولية، – و معالجة للغاز الطبيعي للاستخدامات كلها، – و استغلال للثروة البحرية من أسماك و غيرها – و اهتمام بالشباب من خلال تشييد الصروح و المنشآت الرياضة و الترفيهية – و بناء جيش مهني و متخصص قادر على حماية البلد – و وضع أسس لديمقراطية نوعية نابعة من خيار الشعب و خيراته المستغلة برشاد و نزوع إلى العدالة. لكن غياب هذه الهواجس الحقيقية منذ البداية عند النخبة شكل في واقع الأمر انحرافا عن الطريق السالك إلى الدولة “الإيجابية” و ما تلا ذلك من تخبط و تنافس على السلطة كان ليصبح أمرا طبيعيا متوقعا ما لم تتولد من المعاناة إرادة جديدة تسعى إلى انتشال البلاد من هذه الوضعية المؤلمة التي جعلتها تجثو على ركبتيها وقد نال سوء التسيير من أحشائها و قضم أطرافها حتى لم تعد تقوى على إيقاف نزيفها واستنزافها الذي لا ينقطع. و لقد دخل سوء التسيير كأسلوب مشروع ينال به أصحاب كل نظام يحكم من الخيرات التي كلفوا بتسييرها و بات التعيين في المناصب العالية التي لها علاقة بالمال العام و توجيهه مكافأة لا تكليفا وطنيا للسداد و الرشاد و البناء. و دخلت عبارات هجينة لم تلبث أن اكتسبت شرعية الذكر كعبارات “اللكاك” و “أأفكراش” و” أحرش” و غيرها القاموس اللفظي العام. و لا تفوت الإشارة في هذا المقام إلى أن هذه الصفات التي أضحت كما أسلفنا شرعية محببة تطلق على كل من استطاع أن يؤسس حزبا سياسيا يتموقع من خلاله في الخارطة السياسية من خلاله و يضمن نصيبه من كعكة البلد التي لا ينالها إلا كل “فكراش”. و بالطبع فإنه كان لكل التحولات التي جرت على مر العقود الخمسة تزيد تأثيرها الخاص على العمل السياسي الميداني وهو ما تجلى في الصبغة التي صبغت الأحكام العسكرية المتوالية بها نفسها و استعانت بمنظريها الذين وظفتهم لتبرير وجودها و إكساب نفسها الشرعية المفقودة أصلا وكأنهم في حلبة رقص نمساوية تعاقب فيها كل أهل الطيف السياسي مذ كان البعض منه حركيا لينال كل قسطه من الدوران ونشوته في الميدان. و إن من الأحكام العسكرية من تبنى الأطروحات القومية و منهم من تبنى و لو بشكل غير معلن أخرى عقائدية، كما أن منهم من ارتمى في أحضان الأطروحات ذات الخلفية الغربية المتسمة بالطابع العلماني، ولكن – و هنا مربط الفرس- فإن كل هذه الاتجاهات التي، و إن كانت مختلفة بشكل حاد في التوجهات الفكرية إلا أنها التقت كلها و بصفة فريدة في أمر سوء تسيير المال العام و استغلال مقدرات البلد حيث أن النهب كان مشروعا بكل الوسائل بواسطة سياسات تنموية و برامج و مخططات معدة للنظام القائم يطبقها. و من الطبيعي أن هذه الوضعية الغير مستقرة أفقدت الثقة في البلاد و جعلتها عرضة للشركاء من الدرجة الثانية الذين يقترحون شراكة هي أقرب إلى المغامرة منها إلى التكامل الإيجابي المثمر و لنا في شركة ” ووتسايد ” Wood Side أوضح مثال و أسوأه، علما بأن هذه الشركة التي يرجع الفضل لبلادنا في رفع صيتها و سهمها بفعل نفطنا، باعت أنشطتها بعدما لم تترك من المستخرج من البئر الأولى «شنقيط” – و وا شنقيطاه! – ما تنتزع به ” فضلة من ضرس” كما نقول للتعبير عن أقل شيء و أخسه، لشركة اندونيسية لم تستفد من عملها البلاد الكثير الذي يساعد في دفع عملية التنمية فيما يجري الحديث عن شركة أمريكية تتحدث عن مقدرات كبيرة من الغاز و النفط سيجري استغلالها في الأمد القريب. مراجعة شأن النخبة رهان الغد كان ما يجري من سوء إدارة الدولة و تسيير مقدراتها و استثمار أموالها قدرا صنعه ظلم “القوة الغاشمة” و “التسلط الجاني” الذي سرى في جسمها كسريان النار في الهشيم على إثر الانقلابات المتتالية كما أسلفنا و طول حكم مدني شموليي جرى تحت مظلة حزب واحد (1960/1984). أما اليوم و قد ولى عصر الأحكام الشمولية و الديكتاتورية مدنية و عسكرية فإن الأمور لم تشهد تحسنا على أي من الأصعدة التي تشكل أركان الدولة القائمة. فعلى الرغم من الاستجابة السريعة و النوعية حتى للشعب الموريتاني بكافة مكوناته و شرائحه و أطيافه في اقتناص فرصة التحول إلى النظام الديمقراطي الذي تكون فيه الكلمة الفيصل له، فإن الأحزاب التي حاولت تأطيره إلى ذلك لم تفلح كلها. و للوقوف على هذه الحقيقة – التي لو استغلت ما كانت إلا لتبشر بتحول في العقلية السياسية – فإنه مطلوب و بإلحاح شديد مراجعة نتائج هذه الأحزاب و قراءة مضامينها قراءة متأنية و مجردة. أما و لم تظهر بعد مؤشرات على حصول هذه القراءة فإن حالة الأحزاب الراهنة لا تدل على كبير سعي إلى عمل سياسي من شأنه استغلال الديمقراطية التي انتسبت موريتانيا و بصفة ما إلى ناديها الذي يتوسع بفعل وعي الشعوب. و لكن على العكس من ذالك فإن الذي تبدو عليه كل هذه الأحزاب و تلك التي أفرزتها، بعد تواصل المسلسل الديمقراطي، الأطماع على غير أساس موضوعي و بغير الاستجابة للشروط التي تؤهل الأحزاب للظهور – كإطار سياسي يتمتع بالقدرة على ترجيح كفة الديمقراطية و التحفيز في خضم المنافسات الإيجابية على اختيار الطاقات القادرة على المضي بالبلاد نحو آفاق الدولة المتوازنة بإرسائها دعائم العدالة و الحفاظ على الخصوصية الدينية و التاريخية و الوحدة الوطنية – من صراعاتها المعهودة و المتجددة ما بين معارضة تسكن برجا عاجيا عاليا لا سبيل إليه وأغلبية في جراب السلطة تغلب على بعضها انتهازية مزمنة، يجعل الأمل في قيام ورشة تعنى بالبناء الوطني ضئيلا و ينذر بالمكوث طويلا في غياهب الجب و بأن الذي كان ما زال من سوء التسيير و ضعف الإدارة و انتشار الأمراض المقيضة بطبعها عملية التنمية و التقدم و المعروفة كالوساطة و الزبونية و الرشوة و الوساطة و المحسوبية و اللائحة تطول لتطل تنهش كيان الوطن و تلف مستقبل مواطنيه بالغموض المحبط والشكوك القاتلة. و المؤلم حقا أنه في خضم أجواء ملوثة بنخب استرضائية، مجاملة، نرجسية و عديمة العطاء في الميدان كهذه يكون الأمل ضئيلا في رؤية تباشير ميلاد “النخبة” التي تأبى لهذه الأرض بالهوان و هي الغنية بما تحتضنه في باطنها من نفيس المعادن و نفط و غاز و ما تتميز به فوق سطحها من إمكانات زراعية و رعوية و ما تمتلكه من قدرات سياحية بأوجه تجمع ما بين الرمال الذهبية و الشطآن الحميمة والواحات الغناء و الحظائر المحمية و الغنية بطيورها المتنوعة و حيواناتها النادرة و بمدنها كذلك القديمة التي تفوح بعبق التاريخ و تأسر الألباب بسحر منطق أهلها و حسن ضيافتهم