رسالة من تحت “الزيت”..!! / حبيب الله ولد أحمد
سيكون غريبا أن تتحدث إليكم سمكة تافهة، تحاصرها “الزيوت” وتستعد للموت في أية لحظة. أعرف أن علاقتكم بسمك بحركم سيئة جدا، وأدفع بالقول إن ذلك بسبب حكوماتكم، و ليس من عندكم، ولا من عند سمككم . حكوماتكم المتعاقبة منذ1978 أسلمت بحركم ـ بكل ثرواته وأسماكه ـ إلى الأجانب من صينيين وأوروبيين وغيرهم.
ليس من مصلحتي ـ كسمكة تافهة ـ أن أنسف ثقة ليست موجودة أصلا بينكم وبين حكومتكم الحالية، لكنني أردت تسجيل براءة ذمة السمك من تأزيم العلاقة معكم. أنا أعتبر نفسي سمكة موريتانية، أعيش في بحركم ، وأعرف أنني انتمى لنفس الوطن الذي تنتمون إليه. قبل سنوات كانت جدتي توصينا بالاختباء عن السفن الأجنبية، والصيادين الأجانب وشباكهم وصناراتهم، وكان صادما أنها وقعت أخيرا في حبال شبكة صيد أجنبية ،وهي التي كانت تقول لنا دائما “الموت في مطبخ موريتاني ولا الحياة في مبردة أوروبية أو أجنبية”..!! كانت تقول لنا إنه من الغريب أن الموريتانيين يشترون كلغ السمك بثمن طن منه في بلدان أخرى، مع ما يزخر به بحرهم من أسماك هي الأغلى والأكثر تنوعا وتكاثرا في العالم. دعوني أمسح دمعة رثاء وأنا أتذكر جدتي الراحلة، كانت موريتانية حتى الزعانف، وكانت لديها قدرة فائقة على تمييز شبابيك الصيد التقليدية الموريتانية، وكانت تقودنا إليها هربا من الصيادين الأجانب، وعندما تعلق إحدى أخواتنا في صنارة موريتانية نرى دموع الفرح في عينيها وهي تقول “لقد ذهبت إلى حيث يجب أن تذهب” كان بجدتي حنين لا ينقطع إلى وطنها موريتانيا ،هي كانت سمكة كبيرة النفس والاعتزاز بالانتماء للوطن الموريتاني. أعود إليكم ،وأنا اكتب من تحت “الزيت” ولعلكم سمعتم عن بقعة “زيت” تظلل الشاطئ الموريتاني قبالة العاصمة منذ عدة أيام. في الواقع كنا قبل أيام في إحدى الشعب المرجانية بعيدا عن الشاطئ في زيارة لعمنا المريض، وكان كل شيء طبيعيا إلى أن علت الأفق من حولنا غلالة سوداء، تنفث رائحة لا تحتمل، وغبارا داكنا. بدأنا بإبعاد الصغار والمسنين إلى العمق، حتى لا يتأثروا بهذا الوافد الرهيب. عمنا المريض ـ وهو عميد الأسرة ومجربها ـ قال إن الأمر يتعلق بصورة طائرة عكستها أشعة الشمس على منطقتنا من البحر، وكان تحليله ساذجا، فهو لم ير تلوثا في حياته ولا يعرف شيئا عن بقع “الزيت” الملوثة، أما أنا فبفضل الله ـ وبفضل “الفيس بوك” و”التويتر” والإطلاع الواسع على الشبكة العنكبوتية ـ فأعرف الشيء الكثير عن التلوث البحري وهذه هي المرة الأولى في حياتي التي أراه وأعاينه. لم يكن من الوارد إقناع العم الذي لن يقتنع إلا بما يعتقده، ولذلك كان أهم شيء بالنسبة لي هو إجلاء أفراد عائلتنا نحو مكان آمن، وعلى عمق مريح، ولم تكن العملية صعبة فالعائلة لم تعد جرارة، فمن لم يمت من أفرادها بالسفن الفرنسية، مات بالسفن الصينية، ومن بقي بعد السفن الإسبانية، تخطفته السفن الإيطالية وهكذا. نحن الآن تحت “الزيت” وبقعته الرهيبة في عمق يصل حدود ال3000 قدم تحت البحر . وطبعا لاتصل إلينا روائح البقعة، مع أن ظلامها لا يفارقنا، وفى ذلك حكمة بالغة فإذا كان الموريتانيون من البشر يعيشون ظلاما دامسا بسبب الانقطاعات المستمرة للتيار الكهربائي، فمن العار أن لا يعيش السمك الموريتاني معاناتهم، ويتدثر بالظلام تضامنا معهم. والحقيقة أن الحكومة الموريتانية هي التي أفسدت العلاقة الحميمية بين الموريتانيين وسمك بلادهم، فهي ضعيفة وعاجزة عن حمايته و توفيره لهم، أو على الأقل مساعدتهم على رؤيته ، فمن المخجل أن يموت مواطن موريتاني دون أن يرى سمكة ،وهو على شاطئ هو الأطول والأغنى سمكا في العالم. الحكومة تركت السمك نهبا للأجانب، وحرمت مواطنيها منه، وهذه جريمة حقيقية سأظل أقول إنه لا دخل لنا معشر الأسماك فيها من قريب ولا من بعيد. لا أدرى إلى متى سنبقى في هذا العمق الذي لم نتعود الحياة فيه، خاصة وأن نوبات ربو وحساسية بدأت تداهم الصغار والمسنين، وعمنا تفاقمت وضعيته وازدادت سوء ،وبالمناسبة نحن نعانى ـ مثل البشر في موريتانيا ـ من ضعف الخدمات الصحية، وعادة نتعالج في شعاب طحلبية قريبا من جزر “الخالدات” وهي تابعة لإسبانيا ومكلفة جدا، لكن الخدمات هناك جيدة، وكنا بصدد الذهاب إليها بعمنا في رحلة علاج، لكن البقعة الزيتية قطعت طريقنا، وحالت دون إتمام إجراءات السفر، وسمعنا أنها قضت على أرواح بريئة من بني جلدتنا ، مع أنها يقينا أرحم بهم وبنا من الصين والإتحاد الأوروبي وحكومتنا الفاشلة في نواكشوط..!! سنتحمل، فذلك قدرنا، والله الذي حفظنا من سفن الصيد الأجنبية، وصنارات الصيادين الأجانب، قادر على حفظنا دائما، وإنقاذنا من هذه البقعة اللعينة. لا نريد شيئا من حكومتنا في نواكشوط، لا نريد منها إنقاذا ولا تدخلا ولا إجلاء، فلو كانت تهتم بنا لما تركتنا نهبا للأجانب، ثم إنهاـ وأقولها بمرارة صادقة ـ ضعيفة وعاجزة، فلديها مواطنون في الخارج سجناء ومطاردون ومخطوفون لا تستطيع مساعدتهم، وعاصمتها تعيش ظلاما دامسا، وهي لا تفعل شيئا أي شيء لحل مشكلة الإنارة، أما مواطنوها المرضى والفقراء والمظلومون فقد ضيعتهم، وهي لما سواهم أضيع ..!! وفى الخريف الماضي عجزت عن مواجهة 20 ملم من المطر في العاصمة التي غرقت تماما ، وبالتالي فإن مطالبة الأسماك لها بالتدخل هو نوع مستهجن من طلب ما لا طمع فيه، وهو سوء أدب مع الله. أنتم أيها المواطنون الموريتانيون نحبكم في الله، وكما قالت جدتي رحمها الله “الموت في مطبخ موريتاني ولا الحياة في مبردات الأجانب” وذلك تلخيص لشعورنا اتجاهكم. نعرف أنكم تعانون ربما أكثر من معاناتنا، وأنكم تتعاطفون معنا، لكن ما باليد حيلة، فأنتم مثلنا تماما مغلوبون على أمركم..!! واثقة أن هذه البقعة ستزول، وأننا “سنرجع يوما إلى حقلنا ونغرق في سابغات المنى”، وأن سمك الموريتانيين سيعود للموريتانيين ذات فجر قادم، حيث لا سفن ولا زوارق ولا صيادين أجانب. يومها ستكتشفون معنا أن حكوماتكم كانت تكذب بنا عليكم، وتكذب بكم علينا، وتكذب بنا وبكم على نفسها وعلى الآخرين ..!! دعواتكم بأن تنكشف هذه الغمة، وأن يعود الصفاء لكل الشواطئ الموريتانية الجميلة، والتي لا نملك غيرها وطنا، كما أنكم لا تملكون غير تلك اليابسة ـ الضيقة عليكم ظلما وفقرا وتعاسة ـ وطنا.