عبد الباقي فرج: «في مديح الخسارات» / جواد وادي
(الزمان اينفو) ـ يشي عنوان الديوان بأننا سنلج تفاصيل خسارات شاعر لا يمتدح إنجازاته الحياتية كمبدع نص، بل بقصدية البوح لكل العثرات التي استوطنت في تفاصيل وجوده، وهذا يعني بأنه شاعر غير مهادن ولا يبحث عن الضجيج بطريقة مشاكسة وفجة مثلما التجارب الأخرى، لكنه شاعر كتوم ويعمل بصمت، ليضيء محطات من نور قلبه، وأحاسيسه، وصدق مشاعره، بنصوص تتشح بالألم والمواجع، ولعله، وهنا تكمن حسنة الشاعر، يتقصد بأن يكون مغايرا للمألوف.
وهذه أصوات نادرة من هذه الشاكلة بعطائها الشعري الممتع، لا كسواه ممن يجعل من أناه بضاعة كاسدة لتعويض الوهن الشعري الذي بات ظاهرة معظم الشعراء الذين ابتلي بهم المشهد الشعري الراهن، فتردى كثيرا المنجز الشعري العربي المعروف بقاماته الكبيرة وأصواته التي ملأت الدنيا بعطاء أثث هذا الجنس بالجميل والبهي، الأمر الذي أصبحنا نبحث عن الأصوات الجادة كمن يبحث عن أبرة في الرمل، ولم نجد غير الثغاء بمجمل ما نقرأ ونسمع، ليظهر لنا بين الفينة والأخرى صوت وفي وصادق يسعى جاهدا وسط هذا الضجيج المتعب أن يطفو بثقة ليشفي غليل المتلقي الباحث عن الانصات لشعر يتسم بكل المواصفات الشعرية الحقيقية، من توظيف لغوي الى صور تهز الوجدان بمرجعيات واعية ودربة تعرف ماذا تكتب وكيف تكتب، بتوظيف موسيقي وبحمولات معجمية تمنح القارئ لحظات من المؤانسة وتعيد البهاء للشعر الذي وللأسف فقد بعض مقوماته بسبب “الغزو” الذي عبث كثيرا بماهيته وقدسية عطائه وعظمة اسمائه.
من هنا نشعر بالغبطة ونحن نستشرف بين لحظة وأخرى على تجارب جادة وجميلة لنعيد الثقة لهذا الجنس الإبداعي بمصالحة بهتت كثيرا بين محبيه والعاشقين له، فما احراك ببقية الذين لا يطيقون حتى سماع كلمة شعر، بسبب التحولات الجديدة في تكنولوجيا التواصل الذي بات نقمة حقيقية على الناس بدل أن يكون نعمة للاقتراب من كل التجارب العالمية وفي شتى صنوف الابداعات الأدبية والعلمية وما سواها، وهذا ما يضير المتلقي الجاد الذي راح يخوض وحيدا في هذا البحر المتلاطم ولا من نصير يؤنسه ويتوحد مع همومه المشروعة في تهذيب الذات التي خربتها التكنلوجيا الحديثة ومثالب العصر بكل سوءاته.
من هنا نشد على يد الشاعر عبد الباقي فرج ليسهم مع بقية الأوفياء لهذا التأسيس البهي في بناء نص شعري جميل وممتع من خلال تجربته المميزة وتحديدا ديوانه “في مديح الخسارة” لنكتشف من خلال لحظات قراءة متوهجة أننا أمام شاعر لا يغرد خارج النص كما هو مألوف الآن، بتجربة تمسك بقوة وبكثير من القسوة بمروءة شعرية وفية لهذا الجنس وتطرد الغبش المخيم على العديد من التجارب، لأنه ومن خلال نصوصه يعيش بكثير من العمق بوفاء الممتحن بخساراته ليسطرها على البياض بأدوات متكاملة البناء والمعجمية والوفاء للنص وبتوظيفات شيقة وبعيدة عن الملل. كلما خططت لكتابة قصيدة أودت بها سخريتي ولذا سأغري ذاكرتي بفواجع أقل وعيوني بتصفح الغبار.. لهذا النص أكثر من عتبة موحية وبانتقالات يوظفها الشاعر بجمل شعرية صادمة لأن أدوات التأسيس مع الفواجع تأخذ منحى تصاعديا وملتبسا، وهذا ما يضيف للشاعر ايلاما على مواجعه التي تتوزع بين السخرية والفواجع والغبار بإغراءات قد تخفف مواجعه وهي مغامرة غير محسومة النتائج. في نصه الثاني “الشاعر”، نكتشف الضيق الحقيقي الذي يعانيه الشاعر حين يعدد عتبات غير متقاربة في لحظاتها لحالات عراقية من حيث همومها ووجدها وحتى نقائها الإنساني لأنها تزحم وجوده برمته، يعتمر العمامة وهو ملاحق من حالات حبو بصمت مخادع امام طغاة صغار موغلين في السادية والفتك. بينما تنأى بجمر الشعر تنوء عمائم برؤوسها ورؤوس تتقاذفها التيجان الشاعر هنا تختلط أنفاسه مع الناس والتراب والوجع اليومي بكل ويلاته ووجوده المدمر، ويتواشج مع من يشاركه الأرض والخراب وقصائد الألم من أقرانه الشعراء، يتوزع بين الانسان الشاعر الذي لا يمتلك من حياته غير أدواته البسيطة في تأثيث البياض ببراءته، وبين عمائم تصول وتجول وطغاة بتيجانهم التي تتقاذفها الريح والتوق للدماء، فأي قدر لعين هذا الذي يجعل من الشاعر الأكثر إحساسا بالنوازل المميتة. لماذا هذا التسلسل في تناول النصوص وعدم اختيار قصائد قد تتفاوت في لغتها وتوظيفها ومهاراتها في الكتابة الشعرية وهي الحاضرة هنا بقوة؟، لأنني ببساطة وجدت أن كل القصائد تزحمك بشوق القراءة العاشقة والمتأنية دون أن يترك لك حرية الاختيار لقراءة نص دون غيره، لأنها مثلما الصبايا الفاتنات لا تعشق واحدة دون أخرى، لئلا تترك وراءك عويلا يهشمك فتشعر بالخيبات وأنت تمايز بين واحدة وأخرى. وهذه بظني خيانة للذات القارئة لترف اللحظة الشعرية المعبرة. أجدني كقارئ وشاعر، أمام شاعر صارم في لغته وانتقالاته واستعاراته وخياله الشعري بصور تعتمد على الضربة الصادمة للخروج من عتبات النص وأنت في غاية الانبهار. في نصه “باقلاء” يتبين وبجلاء كما اعتدنا من تجارب شعراء تركوا بصمات في المشهد الشعري العراقي تحديدا، أن الشاعر ابن بيئته والحامل لهموم وتفاصيل هذه البيئة، بمسراتها وأوجاعها وتفاصيلها، أرضا وضرعا وبشرا، وأكثر ما يضيم الشاعر وهو بهذا الكم من الأحاسيس الإنسانية، سعيه كشاعر يريد أن يقول ما لا يقوله غيره، بأنه الأبن الشرعي لهذه التربة المباركة وناسها الطيبين، حتى وأن غاب عنها جسدا، لكن روحه تظل تحوم في كل تفاصيل المكان، بذرته الأولى ومراحل صباه. في بلد البترول يأكل بشهية المترفع الباقلاء المسلوقة راميا بقشورها لشحاذ لا يتوانى عن حمد الله بينما يبتسم حصان بخبث. الشاعر الوفي للمكان يسعى لالتقاط صور قد تبدو للعابر لا معنى لها، لكن بالنسبة له تشكل عالما متحركا يعج بالصور حتى وان لم تظهر في واجهة المشهد، لأنه يقرأ بفطنة كل ما يختبئ وراء الظاهر ليسقطها على البياض. في نصه “المسبحة”، يوظف الشاعر مفردة المسبحة بوظيفتها القريبة والبعيدة، وشيجة مع الزمن ودورانه وبلاويه، وربما بنشوته، مارا على سني حياته ليربطها بدوران حباتها التي وعلى حين غرة قد تنفرط وتتناثر في أمكنة لا تعرف للوصال معنى. المسبحة المعلقة على كتف عباءتك المذهبة بالحكايات ما زالت تشتعل كل مساء لأبطالك الرافضين دور الرواة إنها إشارات وضيئة وشديدة الألق لربط المسبحة بالعباءة العراقية رمز الشموخ وهي تتماوج باللون المذهب وتشتعل كل مساء لكل من يرفض أن يكون ملقنا بالحكايا دون أن يكون هو صاحبها والعارف بدوران خرزاتها وهي تتصاعد مع أنفاس الشاعر. يكرس الشاعر معظم نصوص الديوان اهداءات لأصدقاء وأحبة مروا في حياته وما زالوا يستوطنون في وجدانه، ولكونه لا يمتلك من أدوات التعبير عن الوفاء لهم غير الكلمات، أبى إلا أن يزيّن حضورهم الجميل في متون الديوان عرفانا بوفائه لهذه الثلة من الأصدقاء، مبدعين ومناضلين أثيرين على قلبه وعشقه الإنساني لهم ليلازموه في رحلته الشعرية التي يأبى ألا أن ينادمه في هذا الطبق من يحب من الأوفياء، من مات منهم ومن لا زال يضيء وجودهم دواخله. وعليه يهدي الشاعر نصوصه لكل من: الشاعر الراحل مهدي محمد علي| أبو سعيد “شقيق الشاعر”| حذام الحمداني “زوجة الشاعر عبد الكريم كاصد”| عبد الصاحب محمود| مظفر النواب| جواد الربيعي| عبد الكريم كاصد| طه ياسين| عبد القادر العيداني| أحمد اللويزي| نلاحظ من خلال هذه الاهداءات أن الشاعر شديد الوفاء لعلاقات المخلوقات الجميلة التي أوحت له بهذه النصوص الباهية المهداة لهم. في النص الذي يؤطر عنوان الديوان “مديح الخسارة” والذي تقصّد الشاعر أن يهدي المديح بغرائبيته إلى خساراته فيقول: “إلى خساراتي مع خالص مودتي واعتزازي” الخسارات الخسارات أدمنتها تراكم الخسارات ازدراء الحكمة وتراكم الانتصارات انتظار الهزيمة “مديح الخسارة”. فذلكة التوظيف هنا تمنح النص غرائبية بحيث يعود من العسير الولوج لدواخل الكاتب لمعرفة نواياه لفك هذه الثيمة في تناظرات الجمل وتناطحها حتى نخور نحن من فك هذا الاشتباك، وهنا نفهم ولو بقليل من الحدس قصدية الشاعر، رغم أن التأويل يبقى سيد المصالحة مع النصوص الجادة. ننتقل من خلال متون الديوان، إلى الجانب الآخر من كينونة الشاعر، تلك التي فرضتها حالة الاغتراب، ليبقى لصيقا بماضيه وذكرياته وأرضه وأهله وصحبه ورفاقه، وهذه التفاصيل وغيرها ليس من السهل نسيانها أو تناسيها وهي التي تشكل عتباته الأولى في البوح وتلمس الأشياء بكل عفويتها وصدقها. قبل لحظات فقط وطأت قدماي شمال العالم حيث الثلج لا يغطي بياضه الناصع سواد العالم “شتاء دائم”..
هذا الاستطراد الذي عناه الشاعر في هذه المكابدة الحقيقية يختزلها بلحظات وكأنه وصل للتو لهذه الأرض المكسوة بالثلج رغم سنواته الطويلة للعيش عليها وداخل تفاصيلها، لكنه لا زال بذات الوشيجة القوية لنفحات تلك الأرض الطيبة والتي لا يمكن أن تضاهيها أكوان الدنيا برمتها، لأن ترابها مداف بدمه فكيف يتسنى له أن يغادرها وروحه ما برحت تهيم بها، رغم آلاف الأميال وهو بعيد عنها جسدا لا روحا. وهذا لعمري أصدق مناحي الانتماء الحقيقي لربوع تلك الأرض الطاهرة. يتضمن الديوان نصوصا عديدة تتفاوت في طولها وكلها تتسم بالقصر للابتعاد عن الملل الذي قد يعتري القارئ إن كانت طويلة، وهذا هو منحى الشعراء في راهن الكتابة الشعرية. كلمة أخيرة: أرى أن الشاعر عبد الباقي فرج يصنع بنباهته الشعرية حشدا من الكلمات تتمثل في صور ومحطات مكانية وزمانية يضعها أمام القارئ ليكون من الصعوبة بمكان الإمساك بمتوالياتها، فالشاعر هنا يفتخر بأن ملكوت اللحظة الشعرية لم تعد بذات المؤانسة التي اعتادها وهو يطهّر ذاته الكسيرة من درن الراهن، وكأني بالشاعر يلوذ بالأضرحة خوفا من سياط تترصده يراها قادمة نحوه، ولا من يعينه على التصدي لها، وجسده يلفح أصلا من سياط مضت، ولا يدري من أين يأتيه ذلك الإحساس الصوفي طاغيا لينسيه حرارة الألم وقسوة الأسى وهو يتنقل من لفحات صارمة لأخرى أشد وأمضى. تتوزع النصوص على 96 صفحة من القطع المتوسط، والديوان من إصدار مؤسسة أروقة للدراسات والنشر في مصر.