عندما يغيض الأدب و تتملق الصحافة / الولي ولد سيدي هيبه
النفاق.. هو تكريم فقط للفائدة ” فصل في الأدب: “ليس أبهى لباسا صنعه الإنسان في تاريخه الطويل من حلة فتل خيوطها مِردَن الحضارة وحبكت نسجها كف الثقافة وزين متنها خياط الإبداع. وإن البشرية ما كانت لتبلغ هذا الرقي الحضاري لولا وجود الحالة الإبداعية التي بنت معالمها ورفعت أركانها. ولئن كان للإبداع معارف ومصارف فإن مصرف الإبداع>>
ومعرف الثقافة بجناحيها الفكر والأدب ظلت الشاهد الأرقى على الإنسانية وعلى الهوية الحضارية. وبهذا ظلت العناية بالإبداع لأهميته ورعاية المبدعين لندرتهم علامة فارقة في بناء الأمم والحضارات والرقي بالإنسان في كل مكان” د. سمير العمري لا شك أن بلاد شنقيط رغم صراع التناقضات الكبرى منذ كانت و كيفما كانت على أديمها و في عقول أهلها عرفت ذات فترة نبضا ثقافيا مميزا صقل القرائح و عبد طرق الإبداع إلى حد بهر معه أهله الشرق و الغرب و أصبحوا مضرب المثل في قوة الحفظ و رجحان العقل و مستودع الضائع من نفائس اللغة و البيان و رقيق الآداب المقيدة بالشرع و نفائس أملاءاته الجمة. و إنه لم يخل وجه من أوجه الحياة رغم “حكامة السيبة “الغير رشيدة” من أدب رقيق أو عنيف يحدد ملامحه و يحيط بمقاصده و نوازعه في السلم كما الحرب و في المهادنة بينهما. و قد تشكلت بذلك في هذه الربوع الجافة القاسية و العارية من كل مقومات الجمال ثقافة ذات ثلاث شعب العلم الضرعي و الأدب المرصع بكل الأغراض و “السيبة” الموزونة على نسقي الثقافة العالمة بالدين و المتدثرة بالآداب إلى الغايات التي تنزع في مجملها إلى تناقض أزلي يولد أسباب الاستمرار للبقاء بطابع استثنائي. و لما أن انتهى الاستعمار، بفعل ضعف المقاومة و قوة حجة المتعاونين و حسن تعاونهم لصالح دولة مركزية دفعت إلى نشأتها ظروف التحولات العالمية، فقد حمل رجال من أهل البلد ينتمون لدائرة المعرفة مهمة التأصيل للموروث من العلوم و الثقافة و الآداب في الواقع الجديد و نهج مسار يحفظه و يطوره لصالح أجيال المستقبل في سياق تداول إشكاليات الهوية والقدرة على تخطي كل حواجز الواقع وحدود السياسة والعنصرية نحو أفق إنساني رحب يكون هو الدور الريادي للمبدعين من أدباء ومفكرين من أجل صياغة وجدان الأمة في تنوعها و اختلافاتها جيلاً فجيلا في منهج متكامل لتأصيل الهوية فكراً وأدباً و لمحاربة التبعية والتشتت وبناء جسور تواصل إنساني قائم على الاحترام والتفهم والتفاهم. و هي المهمة التي أخذها هؤلاء على عواتقهم أو هي أكثر من ذلك تجلت عندهم في حلل عديدة تم التعبير ضمنها عن هذا المقصد و ظهرت الأطر التنظيمية تلو الأخرى لتكرسه و لو أنها لم تفلح تماما لما ظل يصاحب النشأة و العمل قبل الاضمحلال من ذاك النتف المزمن الحضور من معدن “السيبة” الذي يكدر الصفو و يؤجج الخلافات القاتلة دون إفناء بما كان و يؤسس للتالي، دوامة أزلية لا يموت معها الأصل و لا يحي الفرع إلا ليكون أصلا لفرع حتى استقر الأمر عند ميلاد اتحاد الأدباء و الكتاب الموريتانيين و منه إلى حلبة الخلاف و الصراع و الاضمحلال لميلاد جديد قيصري منتظر. فصل في الصحافة: منذ أكثر من أسبوعين و بعض القنوات التلفزيونية و المحطات الإذاعية تتنافس مع بعضها البعض في بث مناقشات حوارية حول حرية الصحافة والشروط و الضوابط الأخلاقية والمهنية و مدى التزام الصحفيين بها. لكن بقدر ما لم تجلب هذه الحوارات على الغالب الأعم نتائج قيمة لمجال عمل محوري يعاني، بقدر ما كان انقسام الضيوف في معظم الحلقات إلى فسطاطين لا يقربهما قاسم و لا يجمعهما فكر أو طرح و لا لغة أو أداء أو ممارسة. من جهة فسطاط “قدماء” المهنة و رواد حقلها منذ نشأته، و إن لم ينتم أغلبهم للحقل من قبل فقد كانوا شاهدين على تحول سياسي غير مسبوق حصل على إثر عصف رياح مفاجئ لديمقراطية جاءت هي الأخرى على إثر انهيار المعسكر الشيوعي الذي كان يشكل قطبا فعالا في توازن عالمي يعاني اليوم. و من جهة أخرى يصطف الفسطاط الثاني من “الجدد” الذين لا ينتمون في أغلبهم كذلك إلى الجسم الصحفي و يتحركون على أرضية غير ثابتة و زلقة، حدودها غير محددة و مسامية لا تمنع تسرب المطامع إلى مهنة الصحافة التي و إن بدت سهلة في بعض أوجهها، إلا أنها في واقع الأمر هي بامتياز مهنة صعبة للغاية في الفهم و الممارسة و تتطلب الكثير من المهارات المعرفية و اللياقة الإدراكية و الثقافية و البدنية العالية بقدر متطلباتها الكثيرة و المفروضة مهنيا و أخلاقيا من أجل حماية البلد الذي يمر على بعض هشاشة بمنعطف إقليمي و دولي بالغ.. أو لا يقال إن الصحافة تمثل السلطة الرابعة في الأنظمة الديمقراطية؟ وأنها كذلك مهنة المتاعب وضعف الدخل؟ صحيح أن الصحافة التي هي نمط التعبير الخاص للإعلام، هو بلا شك النشاط الذي يعنى بجمع و مراجعة و التعليق على الأحداث لرفعها إلى المتلقين في الوسائل الإعلامية مع التقيد بمضامين النظام الأخلاقي للمهنة الذي يعتمد على حماية مصادر المعلومة، و المراسل و الصحفي المحقق، مرورا بالآخرين من المنتمين داخل الحقل إلى اختصاصات أخرى التي منها الرسم الصحفي و الكاريكاتير و الاستقصاء الصحفي بالصور و سكرتير التحرير و ناقد الفنون و الافتتاحي؛ علما بأنه في العالم من حولنا استطاعت الصحافة في الدول التي اكتسبت فيها أحرفها الذهبية أن تجعل مواطنيها يلتحمون بدوائر الأحكام و النظم السياسية المسؤولة عن قيادتها و تسيير شؤونها. نظريا، تتم الممارسة الصحفية داخل البلد في محيط تطبعه حرية كبيرة وصلت به إلى حد حصولها على المرتبة الأولى من عموم الأقطار العربية و في مرتبة متقدمة على مستوى القارة الإفريقية. و هو الأمر الذي يتناقض مع تأثيرها السلبي نسبيا لسوء استخدامها في النهج و الغايات على المستوى السياسي و بالنسبة للتعاطي مع القضايا الوطنية الكبرى، و معالجة الأوضاع الاجتماعية المرتبكة و المختلة في جمودها و في متابعة عملية التنمية المطلوبة بإلحاح للخروج من الركود الذي يسببه التخلف المزمن و الاختلالات التي تجد الحلول الناجعة من ضعف في محاربتها. و تمكن ملاحظة صنفين من الصحافة. الأول بأيدي الرعيل الأول و تمارس على يده الصحافة في أغلب الأحيان بنوع من النفاق الكامن على حساب المهنة و قواعدها و أخلاقياتها. و هو الصنف المستثمر لأهداف مادية أنانية لصالح الفاعلين السياسيين المغدقين من كل الجهات و المشارب و التوجهات، و للجهات المفيوزية و النذلة التي تعمل على إدامة سطوتها على الممتلكات العمومية و اقتصاد البلد. أو ليس يقال إن “النفاق هو تكريم فقط للفائدة “؟ و أما الصنف الثاني، الذي يغص بالقدرات العالية التي تفتقد إلى القدوة المهنية الصرفة، فعوض أن يتناول القضايا العميقة و أن يخلق واقعا صحفيا قادرا على الالتحام بالمتطلبات الحقيقية للظرف الحاصل، بل إنه يتوقف طويلا و كأنه من قلة عمل على تغطيات الملتقيات و الورش و المؤتمرات و اللقاءات دون أي بعد تحليلي أو نقدي. و يبقى هذا الصنف من الصحافة الأكثر انتشارا و إتباعا في البلد تماما مثل الكثير من الدول الإفريقية و في ذالك أسوء العزاء. فحيثما لم يعد الإعلام الغربي الذي أرهقته المحليات المؤسسية و لم تعد تخصص لهذه التظاهرات سوى مقتطفا قصيرا أو حيزا ضيقا من التناول، تقوم وسائلنا الإعلامية غالبا بنشرها ضمن تقارير منفصلة أو بالأحرى موضوعا أو أكثر يستغرق دقائق عديدة في النشرات المصورة و على أثير الإذاعات و في أعمدة الصحف الباهتة. أما و الأمر على هذه الحال التي لا تستجيب لمتطلبات الدولة الحديثة و تنميتها، فإن بعضا من هذه الصحافة الملتزمة و المسؤولة يحاول جاهدا أن يشق طريقه في وسط غوغائية المشهد الذي ما زال مشابا بالعديد من النواقص و الهفوات و أن يسمع صوته الذي مازال كذلك مترددا و خافتا. و عندما يغيض الأدب و تتملق الصحافة فإن البلاد تصبح أشبه ما تكون بالمركب الهزيل في مهب ريح عاتية وسط الأمواج الهادرة لمحيط لا سواحل له ،فلا بدا سيغرق و يغيب عن فضاء العطاء و الإبداع أهله.. كل أهله، فسلام عندئذ على السامعين في بؤرة الصمم.