في واد الصمت/ د.بدي ولد أبنو
ونزلْنا وقتَ الأصيل في وادي الصّمت قُرْب باب السّلطان نتَخفَّى عنْ أعينه بالعري والعمى. وفي دهشة النّزول بَحْثا عن أثرٍ لأهل السُّلطان في الوادي، أخذَ الوجل ينزف بالشكّ والحيرة.
الوادي خرابٌ يمتصُّ أنفاسه، تتناثر فيه شجيراتٌ سيقانها من الخور، وأغصانها من الوجع، وثمارها من عنفوان الموت. وفي وسط الوادي طبلٌ ضخمٌ منتصبٌ كأنَّه رحى المحال أو قرون الجريمة. والطّبل على قتامة لوْنه وشدّة إحكامه لا يَسْتُر ما به فيبدو عمقُه منْكشفا بيِّنا. وفي داخل الطّبل قومٌ يظلِّلهم النُّعاس… يجرُّ بعضهم بعضا. يغرزون أسنانهم في الرّيح ويَضربون ظهورهم بالمعاول. قال ابن الحاضرة: “هؤلاء الطّبّالون حين يكفّون عن دقّ الطّبل يَكُون هذا شأنَهم داخلَه حتّى يعاودوا الدقّ.” قال الّذي له عِلْم بالسّلطان: “اللّهمّ من صعِد منهم الجبل؟” قلنا: “ماذا تعني بصعود الجبل؟” قال: “السّلطان ليس في الوادي، السّلطان على رأس الجبل.” قلنا: “وأيّ جبل تعني؟ ” قال: “انظروا خلْف باب السّلطان؟” ونظَرنا خلْف الباب فإذا جبل أشمّ من الأعضاء البشريّة الـمقطّعة: رؤوس رجال، ونهود نساء، وقلوب أطفال. وعلى قمّة الجبل حشْدٌ من الغلمان والحشم يتصـبّبون عرقا كأنّه صفير النّهاية، يحملون زمرة يرتفع على جباهها السّلطان يخطب، وهي تُصفّق صمتا، ليس فيها من ينبس ولو سرّا. قال الجنة بن أبي المتيم: “إنّني أرى الزّمن حوْلَ هذه الزّمرة ينفصل عن ذاته، إني أراه يسافر في الويل حيث الويل بذاته يتحد.” قال الّذي له علْم بالسّلطان: “ذلك شأن الزّمن حِين يحترق.” وغرقنا في المساءلة برْهة. حكى بعضٌ وأنشأ بعضٌ. قال ابن الفارقة عن الغلمان: “لو شاؤوا لشربوا من عرقهم المنصبّ.” فما إنْ أبصرْنا عرَقهم حِينا حتّى تراءى لنا يتخفّى حين ينصبّ تحسَبه يتبدّد عدما. قال بعضٌ عنْ غلمان السّلطان إنّهم أوجه له، وقال بعض إنّ السّلطان لا أوجه له إنّما يكتفي بأقْنِعة. وظَهَر الموتُ كلُّه ينْـبُتُ في وادي الصّمت وتتمدّد جذوره في كلِّ الأوديّة. قال الّذي له علم بالسّلطان: “أرأيتم كيْف جَمَعَ في هذا الجبل رؤوس الرِّجال ونهود النّساء وقلوب الأطفال؟ هذه الزّمرة تذكّرني آلاما منْغرزة. كنتُ يوما أحسب أنّ للسّلطان وجها آخر يَحْمل كلّ خيرٍ إلى النّاس ولكنّ النّاس لا تعْرفه. كنتُ أَحسب أنّ من النّاس بطانة تَمْنعه من حَمْل البشارة. كنتُ أَحسب أنّ خلْف البطانة وجها آخر لا تسدّ الطّريق دونه إلاّ هذه البطانة. وتعرّى الحلُم بعدُ وبدَتْ المرارة. كان يومَ مكاشفة فظيع.” قال ابن الحاضرة: “ما أخال السّلطان إلاّ قد حلّ في كلّ منّا. إنّه يَمتلك كلّ القلوب.” قال الّذي له علم بالسّلطان: “كلاّ، إنّه قطّع كُلّ القلوب. أرأيتَ هذه الزّمرة الّتي يَحملها غلمان وحشم السّلطان؟ تلك الزّمرة الّتي يَحْمِلها الغلْمان والحشم همّها الصّمت والتّبجيل. تلك هي بطانة السّلطان تسبِّح بحمده وتَذْكر أسماءه ليل نهار.” قلنا: “وهؤلاء أيضا يَشربون الرّمل؟” قال: “أبدا. ألا تُبصرون وترون كمْ جَمَعوا من الرّؤوس والنّهود والقلوب ليربوا ويعظّموا الجبل، وكيف بعد ذلك يحملهم الغلمان والحشم؟ إنّهم يشربون المزن ويمتصّونه حتّى لا تَسْقط قطرة من المطر.” وأَخذنا نزيد استتارا بالعري، نضعُ جلابيب من التّجلّي والمكاشفة، خشية وتخوّفا من حرّاس البلاط. واقتربنا من باب السّلطان لنسمع خُطبته. قال الّذي له علم بالسّلطان: “ألا ترون لسانه؟ لقد جاء بهذا اللّسان من خلْف البحر ليلقي به خَطْبَه.” ونظرْنا فإذا لسانٌ يتدلّى من عيني السّلطان، ويغطِّي صدره… لسانٌ مزبدٌ بماض من الأنين، والشّعبِ القابعِ، والهزيعِ العويلِ. وفي اللّسان قشورٌ من الحروف تتدلّى خلف الجبل يكبُر فيها مُحالٌ عقيم. ويُزركش المحالَ ماض كأنّه تَنادي الهسيس المتنافر. وفي غيوم من الصّمتِ الأليم أخذتْ كلمات السّلطان تتساقط كرقاب تُقطّع: ” أيّها النّاس اسمعوا وعوا، وإذا وعيتمْ فاسجدوا لي واركعوا! ألا إنّ في البـرِّ موتا وقتلا، وفي البحر رُعبا وهلعا. منْ شاء فليصمتْ ومن شاء فليمتْ. كبُر اسمي وتنزّه. ولأهل السّلطان السّماء والأرض، ولبطانتي النّهر والمزن، ولجمعي الرّمل والقهر. ألا قاتل الله الرّهطَ البغاةَ، ومكّنني من رقابهم، وسلّطني عليهم ليكون شأنهم الرّجم والصّلب! أولئك قومٌ كفروا بنعمتي وجحدوها. ألا إنّهم لحجّتي دحضوا، ولشرب الرّمل رفضوا، فَلَهم العطش إلى يوم الدّين. أيّها النّاس لقد حكمنا – وحُكْمنا عيْنُه الرّشد والعدل، وكلُّ ما عداه باطلٌ ولغو- حَكَمْنا بإرسال جيوش جرّارة خلف رهط الرّفض، وبتمْزيق جلودهم إربا إربا علّ ذلك يكون عبرة لمن يَعتبر. أيُّها النّاس إنِّي أعلم أنّ قوما مـمّن لا عهد لهم ولا ذمّة قد اتّبعوهم، وأنصتوا لهرائهم، وأبوا أنْ يشربوا من الرّمل -والرّمل لذّة للشّاربين- وبلغَ بهمُ التّعالي والكبْر أنْ طلبوا الماء ونادوا بالشّفاء. ونحن، عدلا ورشدا، كنّا حرّمنا الماء، وقلْنا إنّه علْقمٌ قاتل لا يلِد إلاّ مزيدا من العطش. وإنِّي اليومَ، وقَبْل الغد، لفاعلٌ فعلتي. وإنِّي وكما قال العبد الصّالح لأرى رؤوسا قدْ أينعتْ وحان قطافها، وإنِّي لصاحبها. ألا إليكمْ بُعثتُ ولكُمْ بلَّغت ” ولم تنته كلمات السّلطان، وهي تلهث في طواحين الجبل، حتّى كان القومُ قدْ انطلقوا يبحثون عنّا في كلِّ الأوديَّة الدّانية والقاصية. واندفعنا نروم موئلا. فما شرَّقتْ إلا غيومٌ عاقرة.
صدرت أودية العطش عن دار قلم، باريس، 1993، وأعيد نشرها سنة 2004 ثم 2011 عن دار الراعي الجزائر، كما صدرتْ عن دار العرفان، الرباط، 2012، وتصدر عن منتدى المعارف، بيروت 2015