الأنظمة شبه الستالينية : سؤال الدولة والمواطنة
“العالم الثالث ليس حقيقة ماثلة ولكنه إيديلوجيا” حنا أرندت
ـ لم يتمّ بعد فحص النموذج الذي مثّلتْه الأنظمة العربية شبه الستالينية من حيث هي كذلك وبما هي كذلك. عنيتْ هذه الأنظمة خمس دول : العراق وسوريا والجزئر وليبيا واليمن الجنوبي (قبل الوحدة اليمنية سنة 1990).
ظهر هذا النموذج كما هو معروف غداة نكسة 67. وكما كانت التجربة الناصرية في انتصاراتها وانكساراتها معا قد مهّدتْ الأرضية لظهوره بقدرما ما كان المناخ الإقليمي والدولي لنهاية الستينات وبداية السبعينات حينها مناخا مساعدا. مثلتْ الأنظمة العربية شبه الستالينية بشكل عام “استمرارا” لمرحلة الاشتراكيات العالمثالثية في أفق ما بعد التجربة الناصرية. ومثلتْ أيضا تأكيدا في مستوى الشعارات المرفوعة على أن التحرر الوطني لن يكتمل قبل تجاوز الحدود الموروثة عن الاستعمار وخلق دولة موحدة. ومن هنا اعتبرتْ هذه الأنظمة ـ على الأقل على صعيد المفردات الدعائية ـ أنّ كياناتها الدولتية “أقطار”، أي دول مرحلية (وهي طبعا الفكرة الأكثر استنفارا في مفردات النظامين العراقي والسوري للأسباب المعروفة). فكل الاشتراكيات العالمثالثية رفعتْ شعار تجاوزِ الحدود الموروثة عن الاستعمار وتجاوزِ الؤسسات المرتبطة بها كما رفعتْ شعار التحديث الاشتراكي للبنى الاقتصادية كبديل عن التحديث الرأسمالي الموروث. غيرَ أن هذا الشعار سيصطدم في السبعينات بإشكاليات بالغة التعقيد أبرزها أن النموذج السوفيتي نفسه كان قد أخذ يتقهقر وأن الهيمنة الامريكية الاسرائيلية في المنطقة قد أخذتْ منحاها التصاعدي.
ـ2ـ
معروف أنّ ظهور هذه الأنظمة تزامن مع الطفرة البترولية التي دشنتْها السبعينات. وأن ثلاثة منها (الجزائر، ليبيا، العراق) استفادتْ من هذه الطفرة بشكل مباشر ووظفتْها في تكريسها الذاتي. غير أن تدفّق البترول حملَ في الساحة العربية ظاهرة جيوستراتيجية لم تكن متوقعة. فمنطقة الخليج بما تعنيه (كثافة سكانية صحراوية ضعيفة حينها، نفوذ أمريكي وغربي واسع، أنظمة عائلية تقليدية ذات توجه بالغ اليمينية إلخ) ستصبح شيئا فشيئا فاعلا اقتصاديا ثم سياسيا مركزيا. إلى ذلك، لم يسْع أي من الأنظمة “اليسارية” الخمسة إلى أن يكون لشعار الوحدة محتوى ما إيجابي. فتحول الشعار أساسا إلى غطاء غير ساتر لإرادة الاستفراد بالنفوذ الإقليمي (العراق /سوريا، العراق /ليبيا إلخ). انضاف إذًا إلى الهاجس الأمني الناتج عن طبيعة الدولة القطرية (مشكلة الشرعية) وعن الصراع الدولي (الحرب الباردة) وانعكاساته الاقليمية (صراع المحاور) هاجسُ المؤامرات المزمنة بين الأنظمة اليسارية العربية نفسها. وهو ما ضاعف الطابع البوليسي لدى هذه الأنظمة وجعلها تنظر بكثير من الانجذاب إلى ما عنـيَه، حقيقةً أو تمثّلا، النموذج الأمني السوفيتي خصوصا في مرحلته الستالينية.
ـ3ـ
هذا الطابع البوليسي المفرط أصاب الأنظمة “اليسارية” ـ أو شبه الستالينية ـ بتناقض حدّي متضخّم. فتحديث البنى على الصعيد الاقتصادي صاحبَه ـ في مستويات معينة ـ ارتداد إلى البنيات الاجتماعية التقليدية (الطائفية، العرقية، الجهوية إلخ) لاستثمارها أمنيا. وهو استثمار ستتمُّ ترجمتُه تدريجيا على الصعيد السياسي. فبين نقاط أخرى، عنيَ هذا التناقض من جهة أن الأنظمة شبه الستالينية هي فعلا الأنظمة الأكثر استقلالا في قرارها عن الدول الغربية. وعنيَ من جهة ثانية أن استقلال قرارها ظلَّ مرادفا لطابعها الأوتوقراطي وليس لامتلاك شعوبها ـ موضوعيا أو ذاتيا ـ لمستوى ما من حرية المبادرة الفردية والجماعية. الطابع الأوتوقراطي والشمولي (أو شبه الشمولي) جعل شعوبها تميل إلى السلبية وتشعر بالغربة وأضعفَ لدى شرائح واسعة نسبيا في بلدانها اهتمامها بانتمائها المدني. وقوض بذلك جزءا معتبرا من شروط ظهور المواطنة بالمعنى السياسي. أصبحتْ الهويات الجزئية والانتماءات العتيقة ملاذات مقبولة في مواجهة العنف المادي والرمزي الرسمي. كما أصبحتْ في مستويات معينة ومراحل معينة هذه الهويات الجزئية وسائلَ للحصول على امتيازات تعوّض غياب الحقوق، أي غياب المواطنة.
ـ4ـ
بعبارة أخرى وظّفتْ هذه الأنظمة الانتماءات التقليدية داخل الماكينة البوليسية المستوحاة من تجربة الأنظمة الكليانية المعاصرة. وهو ما ألغى شيئا فشيئا الدولة (أو نواتها النامية) لصالح النظام، أو بعبارة أدقّ ألغى الدولة خارج دائرة النظام. ثمّ ماهى بينهما. وبالتالي عني أن سقوط الأخير يقتضي لزوما سقوط الأولى والعودة إلى ما قبل الدولة وإلى انتماءاته “العتيقة” المحدثة. أقصد بالمحدثة هنا أن هذه الانتماءات لم تعد تعني تماما ما كانت تعنيه تقليديا لأن اعادة استثمارها في أفق الدولة الأمنية/النظام وبوسائلها الحديثة يغير محتواها ووظيفتها. أصبحتْ الطائفة أو الجهة أو الشريحة أو الانتماء العرقي أو القبلي فاعلا “معاصرا”، أصبحتْ أداة للحصول على امتيازات بشكل يتجاوز حتى ما عرفتْه الأنظمة اليمينية. وهو ما ظهرتْ انعكاساته مع الأزمة الجزائرية في التسعينات. ثمّ ظهرتْ بشكل خاص فيما حدث في العراق بعد 2003 وفي ليبيا بعد 2011 وما يحدث الآن في سوريا.
د.بدي ولد أبنو
* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل