أف لسياسة لا تلامس جراح الشعب/الولي ولد سيدي هيبه
و تمضي قاطرة التخلف تجر وراءها قطارا من الهوان و الخلافات و الغفلة عن فك طلاسم و عقد القضايا الشائكة المزمنة، و تملأ صَدْرَ واقع البلاد في سيرها رعبا و كأن ركابها على رؤوسهم الطير. ففي الوقت الذي تتهافت على مقدراته و خيراته جماعات من الضواري المُستنسخِين للقبلية في قوالب التنظيمات المافيوزية المنبثقة عنها و في قوالب أخرى متمردة أخذت على حساب المستضعفين من الإثنيات و الطبقات المهمشة أشكالها و تمحورت في جوهر الحراك السياسي ذي النزعة الحقوقية بأن أشركت في الكعكة التي أعدت منذ أيام الاستقلال الأولى و زاد حجم طحينها مع بروز الحركات الإيديولوجية كل بما حملت من توجه أحادي المشرب و الغاية، إلى حين هذه الفترة الغارقة في العجز عن فرز جيل يتسلح بإرادة الحوار و رغبة السلام و التمكين للعدالة بعدما تهيأت للأمر كل الأسباب من صميم ثورات العالم الإيجابية من حولنا على اعتبارات الماضي الكابحة. في كل يوم يلوح في أفق العمى المسدود ضجر و حسرة و تباك على حكم يحسبه الكل ملكا له قد ضاع و مكانة استبيحت، وهنا هم و غم و واقع عنوانه “حسرة شعب” لا يدرك قوة عصفه إلا من هو في عين إعصاره، و على بعد رمية عصى من الاتجاهين في كل لحظة صخبُ خيام الشعر و منصات مهرجانات السياسة المتمردة و المطالبات الحقوقية المرتفعة على ساحل بحر من الفقر، وحدهم الشعراء المغمورون و السياسيون المترفون و الأغنياء المسترخون على الأرائك و السندس الخضر بمقدرات البلد و خيراته يركبون أمواجه العاتية، تنفخ الريح في أشرعة أخيلتهم الجامحة و يمخرون عبابه سالمين غانمين. ضجر، حسرة، تباك، هم، غم، صخب شعر، أوتار سبعة لغيثارة وطن باكي حزين و شعب بائس مسكين. لا الذين يكابرون أمام فرص إشراكهم في الحكم و قد ضيعوها ينصفون فيختارون نهجا غير التهويل و المكابرة و الإصرار على الزج بالوطن في دوامة حصار الخلافات و متاهات عقوبات ذلك من تقييد للواقع عن التحول في تلمس أعمى و يائس لاسترجاع سلطان عقولهم الذي ضاع منهم في سراديب الكبر المظلمة؛ و لا اللذين أيدوا فكرة التماهي داخل أغلبية مؤيدة للنظام استطاعوا أن ينصهروا في بوتقة واحدة لتأمين المسار الجديد الذي ارتضوه و يوجهوه بدفة الحضور المعطاء. ثُنائية حطت الوطن و المواطن في وضعية غير مريحة و العالم في حيرة شديدة من وضع هجين. و أما خِيام الشعر التي لا تنقضي فإنها أصبحت تتكشف عن مسرحية هزلية تدور فصولها بأسرع من حلم على خشبات تنصب كل ليلة للتلفزيون و الإذاعة على أديم أرض باردة موحشة و حالكة الظلام، إذ كيف للشعر الحالم الطروب و الجاد الآسر الذي ترسمه لغة السمو و التحليق في المآثر و التمكن من ناصية لغة المشاعر العفوية و القدرة على التوجيه الراشد السديد، أن يلامس و يدغدغ و يطرب النفوس المحاصرة و كيف لصداه أن يطرق مسامعها و يخفف من وطأة التأزم و الاحتقان الذي تعانيه ما لم يكن ثمة متسع لصفائها. و في غفلة من الواقع المرير تمضي كل مرة ساعات الشعر نشازا كأنها مصرفة في “زمن متعدي” ليبقى الواقع بمده و جزره يلف البلاد بثوب من الشكوك و يكبس على أنفاس الشعب في جهل حقيقي بمصير لا يقدم له ساعدا و لا فكرا و إنما تظاهرات للتأييد و الدعم والمساندة هنا و حشود و مطالبات و تنديد هناك.. ثنائية الفعل كأنها منشار يشطر صفحة البلد إلى قسمين.. – إعلام مؤيد خافت و مشتت لا يقوى على توحيد المنهج و الخطاب في الداخل و لا يصل منه صدى إلى الخارج، – و إعلام في المقابل صاخب لا ينشد التماسك و يدفع إلى التشرذم، يهيج و يؤجج النوايا العدائية في الخارج إلى حد التحريض على العصيان… إعلام و إعلام، لكنهما وجهان متناقضان لـ”إساءة واحدة”. فترة ليست بالقصيرة من الخلافات السياسية المزمنة تغيرت أمور إلى الأحسن نسبيا و ساءت أخرى إلى الحضيض. ففي ظل ظرفية دولية تذكر بأزمات أواسط و نهاية القرن المنصرم حدث تراجع محمود – في سابقة غير معهودة – في مسطرة الأسعار عموما و في أسعار المواد الاستهلاكية الأولية بالدرجة الأولى و أسعارالغاز و مواد البناء التي كانت تؤرق المواطن و تثقل كاهله عموما مما أسهم بالفعل في تخفيف معاناة الشعب و تجديد الأمل لديه في إمكانية بزوغ شمس غد مشرق واعد رغم تراجع هذا المد منذ فترة مع ضعف الزيادات في الرزاتب؛ أمل كادت تحمل بعض أصدائه إلى الداخل مركبات استقر نسبيا عن أصحابها سعر المحروقات الذي كان هو الآخر مضرب الأمثال في الارتفاع دون التراجع. و شهد قطاع الصحة و التداوي على مستوى القاعدة و ولوج المرافق الصحية تحسنا عما كان مقلقا تجسد في أمرين أولهما اقتناء التجهيزات الضرورية الأولية و منها آلات التصوير الطبقي و مستلزمات الجراحة، و ثانيهما سقوط تكاليف استعجالية الدخول إلى المستشفيات و تلقي الإسعاف عن كاهل بعض الفقراء و المعوزين. و لم يكن التعليم الذي يعاني فسادا كبيرا بأسوأ حظا. فبعد سنوات مضطربة من الإصلاحات المرتجلة و المجحفة و هوان المعلمين و الأساتذة و التقليل من شأنهم و التشكيك في أهليتهم أعلنت السنة الحالية 2015 سنة تعليمية بـ”امتياز” لتشهد سياسته نظريا على الأقل رغبة في مراجعة كل أوجه الاختلالات التي يعاني منها التعليم عموما. و يمكن في هذا الصدد ذكر ما حصل في بداية السنة من تخفيف محمود لأعباء الأهالي بتوزيع مجاني لبعض مستلزمات التلميذ المدرسية المكلفة رغم استخفاف البعض بمثل هذه الإجراءات المصاحبة. و أما ما ساء فهو العمل السياسي الذي يكرس أصحابه، في الموالاة و المعارضة، خلال حملات محمومة و خطابات و فلسفات مكرسة كلها لتحقيق طموحات ذاتية لا صلة لها على أرض الواقع بالوطن و المواطن. ففي حين يسعى الطرف المعارض إلى قلب الجرة و ما فيها دون الاكتراث بقابلية كسرها بمنطق “بكل ثمن” يتزلف الآخر في تدافع يقصي فيه كل الآخر بمنطق “أنا و بعدي الطوفان”. فأف في كليهما لسياسة تغفل الوطن و تمرغ وجه المواطن في وحل أطماعها الأنانية.