الكتابة للرؤساء/ الدبلوماسي الدولي والإعلامي الكبير باباه سيدي عبد الله
الديبلوماسي الدولي باباه سيدي عبد اللهكان قمة فى الروعة ردُّ الأستاذ الخليل النحوي على سؤال ” الصفحة الأخيرة” له إن كان هو من كتب خطاب تنحي الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله. لقد كان الرد غاية فى التواضع واللباقة، وذكَّرني – والشيء بضده يُذكر- بأشخاص من أهلنا على نقيض الأستاذ النحوي، يتباهون بأنهم “أقلام” الرؤساء، ثم ينكشف أمرهم لسبب من الأسباب، لعل أطرفها أن يحتفظ الكاتب الأصلي بالنسخة الأصلية لديه، ويطلب الرئيس تعديل فقرة أو استبدال كلمة، فيجد مدَّعِي كتابة الخطاب نفسه فى ورطة، خاصة إذا اتصل بالكاتب الأصلي لإنقاذ الموقف، فردَّ مجيبُه الآلي : ((لا يمكن الإتصال بمخاطبكم…نأسف لعدم تلبية النداء)).
هذا ما حدث ذات يومٍ حين كتب أحدهم خطابا لأحد رؤساءنا وردت فيه عبارة ((وشائج القربى))، وصعُبَت على الرئيس قراءتها مرات متتالية، فاستدعى مساعده وهو يبتسم – وشر البلية ما يضحك- ليدور بينهما الحوار التالي : الرئيس: هذا الخطاب جيد…من كتبه؟ المساعد مزهوًّا: نحن كتبناه فى الديوان يا فخامة الرئيس، و ما معنى هذه الكلمة: وشائج؟ إذا كانت لا تعجبكم نبدلها؟ لقد سألتك ما معناها ولماذا كتبتموها أصلا؟ لقد أفسدتْ عليَّ الخطاب…إنها صعبة النطق و قد لا تكون عربية أصلا، فأنا لم أسمعها من قبل، ونحن رائحون إلى “برَّانيين”. أتريدون مني أن أفضح أمامهم؟ ولكُم أن تتصوروا بقية الحوار: المساعد – يتصبب عرقا لِما افترى على الله من ادعاء ما ليس له، ويخرج مهرولا يبحث عن الكاتب الحقيقي للخطاب الذي تعذَّرَ الإتصال به هاتفيا فأرسل إليه من يُحضره- حيا أو ميتا- فوجد هذا الأخير نفسه فى مواجهة مساعدٍ ثائر أوشكت وشائج علاقته مع الرئيس أن تنفصم. بادره المساعد بالقول : ما معني ” وشائج القربى”؟ ولماذا تكتب لنا هذه العربية الكحلاء؟ بدل عنا هذه الكلمة، وأعطنا النص الأصلي، ولا تغلق هاتفك بعدها، وإذا كان لديك عمل معنا فلا تخرج دائرة انواكشوط حتى نسمح لك…و….و….. والواقع أن إعداد خطاب رئيس دولة يحترم نفسه لا يمكن أن يكون عملا فرديا، حتى وإن عُهد إلى كاتب متمرس بكتابة مسودته الأولى. ويعتني الرؤساء المحترمون بخطاباتهم التي يختارون لها لجنة صياغة من أبرز الكتاب والسياسيين والخبراء المتخصصين، ويراجعونها أكثر من مرة، ويتدربون على إلقاءها، ويشاهدونها مسجلة قبل عرضها على الجمهور، فلا تخرج للملأ إلا وهم عنها راضون. ويتسغرق إعداد خطابات الرؤساء فترات تقصر وتطول بحسب موضوع الخطاب ( على سبيل المثال: فى بعض المرات استغرق إعداد خطاب عيد العرش فى عهد الحسن الثاني ثلاثة أشهر، وكان الملك يتدرب على إلقاء خطَبه أمام مستشاريه كالطالب الجامعي، و استغرق إعداد خطاب باراك أوباما الأخير حول حالة الأمة شهرا من الكتابة وإعادة الكتابة والمراجعة مع الرئيس، وتهذيب بعض الجمل، وحذف أخرى،والتدرب على مطابقة ملامح الوجه مع التأكيد على جمل معينة…). ومن أحدث الأخطاء التي وقع فيها رؤساء لم يطَّلعوا على خطاباتهم فى الوقت الكافي ما حدث سنة 2007 للرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي الذي تسلَّم مسودة خطابه فى الطائرة وهو فى طريقه إلى داكار، ولم يتمكن من تملُّك النص وتهذيبه بالشكل المطلوب فاعتُبِرَ خرجة سياسية غير موفقة. وفى عالمنا العربي،تميز زعماء – من طينة الراحلين جمال عبد الناصر، وأنور السادات، و الحسن الثاني، والملك حسين بن طلال، وغيرهم قليل- بالإعتناء بخطبهم نصَّا وتفاعُلاَ وتأثيرا فى المتلقِّين. و على الرغم من بعض الهنات الناجمة عن تسلل اللهجات إلى بعض خطب هؤلاء الزعماء، فإن خُطبهم التاريخية تفوح بعبق جمالية لغة الضاد ،و جُملِها الناطقة دبلوماسية ولباقة و حزما و قوة عند الإقتضاء. لقد أحاطوا أنفسهم بكوكبة من خيرة المستشارين والكتاب، من أمثال محمد حسنين هيكل، موسى صبري، أنيس منصور، عبد الهادي بوطالب، عبد الحميد عواد، وغيرهم ممَّن يُمحضون النصح، ويتقنون اللغة، ويُحسنون توجيه الرسائل، ويعرفون أن “الأسلوب هو الرجل : L’HOMME C’EST LE STYLE “. إن عدم الإعتناء بالخطاب نوع من إهانة المخاطِب و المخاطَب، ففي عصرنا لا يزال هناك من يؤلمه إهانة “سيبويه” و ” موليير” و ” شكسبير” فى مراقدهم على أيدي خطباء يتهجَّونَ اللغات كأطفال الروض، ويهشِّمون بناءها كما يعبث فيل بمخزن للخزف. من صفحة الكاتب والديبلوماسي الدولي باباه سيدي عبد الله