الخطاب السياسي .. ضمور المحتوى و غياب الكاريزما / الولي ولد سيدي هيبه
قال جل من قائل: “وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ” يعرف د.مازن الوعر الخطاب السياسي فيقول “هو تركيب من الجمل موجه عن قصد إلى المتلقي بقصد التأثير فيه وإقناعه بمضمون الخطاب عن طريق الشرح والتحليل والإثارة.
ويتضمن هذا المضمون أفكارا سياسية، أو يكون موضوع هذا الخطاب سياسيا. ويهدف السياسي من خطابه إلى تغيير النفوس والعقول والأفكار والواقع مما يجعله في حالة لها صفات وسمات وهيئة معينة”. في ظل ما تشهده ساحة البلد السياسية المضطربة، من حمى التجاذبات الحادة و التي لا تلتقي عند ثوابت و لا تتعارض عند مفاصل شكوك، لا ريب أن الخطاب السياسي سيظل لدى أغلب الأحزاب الناشطة في الموالاة و المعارضتين المحاورة و الراديكالية مفتقدا لقواعد قيامه و قيم مرتكزاته و دعائمه وعاجزا عن تحديد زمانه و الإشارة إلى مكانه و التعريف بمكانته و إبراز العلاقة و السياق لديه. و إنها هي القيم مجتمعة التي يعتمد عليها الخطاب السياسي و يقوم فيها و بها على التفاعل الذي تتبدى من خلاله الحدود الفاصلة والروابط الجامعة، تفصل الأنا عن الآخر وتجمعها ومن يحالفها أو يشبهها أو ينتمي إليها، وتتبدى من خلاله كذلك المكانة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأدوار التي يلعبها كل طرف في التفاعل أو حوله كما يرى “بول تشيلتون P. Chilton” في تحليله للخطاب السياسي. و لا بد للخطاب السياسي الرفيع، إن ارتسمت معالمه و تحددت و صحت ماهيته، أن يتسم بالحكمة و فصل الخطاب و هما أحد العوامل الهامّة التي كانت أساس و بناء وقوة مُلك نبي الله سليمان عليه السلام، فقد عطفت هاتان الصفتان على صفة شد ملكه. وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه كأنه منذر جيش صبحكم ومساكم – كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم. كما أنه لا بد لمن يخاطب بالحديث السياسي من صفات وانطباعات معينة قد لا تجب بالضرورة في أي حديث آخر، لأنه للسياسي أهدافا يرجو تحقيقها من خلال خطابه علما بأنه قد يحرك ساكنا و يسكن متحركا، وقد يقيم الدنيا وقد يقعدها أيضا. و فيما لا بد أن يشتمل في الخطاب السياسي التفاعل على نوع من التفاوض والتداول؛ تداول الواقع، ومراجعة فرضياته السياسية الكبرى المهمة، ومحاولة فرض ما يفترض أو يسلِّم به على الآخرين، و أن يشتمل أيضا على توقُّع ما يفكر فيه الآخرون والتنبؤ بما يدبِّر المنافسون وما يؤمن به “الأعداء” ومن ثمَّ تفنيده أو إضعافه أو تشويهه وتقبيحه. و في هذا فلا شك في أنه يتحقق قدرٌ كبير من التفاعل في الخطاب السياسي بفضل قدرة الّلغة على الدلالة بمستويات مختلفة، وقدرتها على التعبير عن الواقع، ثم التعبير عن التعبير عن الواقع. يتحقق قدرٌ كبير من التفاعل في الخطاب السياسي بفضل ثراء تعابير اليقين والشكّ و تعابير الضرورة والالتزام الأخلاقي والديني والاجتماعي – تعابير “افعل” و”لا تفعل” و”يجب” و”ينبغي” و”لا بُدَّ” و”علينا”. و بالطبع لا شك في وجوب أن يرتكز الخطاب السياسي الناضج إجمالاً على تصنيفات ثنائية متعارضة، وربما متصارعة، بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين العدل والظلم، بين الشرعية وعدم الشرعية، بين الوطنية والخيانة، بين الحرية والقمع. فهل أدرك سياسيو البلد يوما، على قصر أعمار تجاربهم و عدم خلوها من التشبث بعواطف و مفاهيم الماضي الحاضر في واقع التناقض و المتشذرم المعيش، أن لمفهوم الأدوار أهمية خاصة في الخطاب السياسي أي ما يؤديه المشاركون فيه من وظائف وأدوار اجتماعية أو سياسية أو عسكرية، سواء كانت هذه الأدوار حقيقة أو مُفترضَة أو مرجوة أو مسلوبة من الآخرين، والعلاقات التي تربط بين من يؤدون هذه الوظائف ويلعبون هذه الأدوار- “الحاكم” و”المحكوم” و”الراعي” و”الرعية” و”الرئيس” و”الشعب” و”الحكومة” و”المعارضة” و”اليمين” و “اليسار” و “الوسط” و “الحقوقيون” و “النقابيون” و”الفئات” و”أعضاء غرف البرلمان” و”الوزراء” وهكذا؟ و هل أدركوا كذلك يوما ما للوعي بالمكان والمكانة من أهمية خاصة في الخطاب السياسي كما أسلفنا ، ومن ذلك ما يتعلق بمفهوم “الحدود” و”المياه الإقليمية” و”دول الجوار” و”الشرق” و”الغرب” و”الاحتلال” و”الاستقلال” والهجرة” و”الشمال” و”الجنوب” وما يرتبط بكل ذلك من استعارات وتصورات وحقوق وواجبات. و هل تحلت أحزاب البلد السياسية بمثل هذه الثوابت و المنطلقات و وعت أن الخطاب السياسي لديها، إن كان نضج،ن يشتمل على قدر وافر من التفكير الاستعاري، على معنى أن للاستعارة وظيفة مهمة في صياغة التصورات وتجسيد المفاهيم والأطروحات السياسية و أنه من خلال الوعي بالمكان والتصورات الاستعارية التي ترتبط به، تتشكل و تنتظم الجماعات والقوميات والشعوب والأقليات والدول والدويلات، ويتشكَّل كذلك وعيها بمن ينتمي إليها ومن لا ينتمي، وتتبلور الهويّة السياسية والجغرافية والاقتصادية لتلك التجمعات، وتتطور مفاهيم “نحن” و”هم”. و من هنا و حتى يثبت العكس لهذا الجيل الوسيط و للذي من بعده فإن الخطاب السياسي لا يتمثل و يأخذ مطلقا صفته كيانا نافذا في عمليات ذر الرماد في العيون التي يقوم بها الكثير ممن تغص بهم الساحة و يحجبون في تكرار مقيت كل آفاق الرؤية، ممن يوصفون: · جزافا بالسياسيين المحنكين و الهادين إلى نهجها المستقيم، · افتراء بحملة فكر بناء، واعي و مدرك لأبعاد المسائل الوطنية الملحة، · عبثا و استهتارا بالثوريين على قوالب ماض هو متكأهم و وقودهم حين الضعف و اليأس و البأس، من خلال أسطوانات مشروخة و معبأة بمواقف لا تتغير و أشخاص لا يتبدلون فتتحجر و تصدأ، و لا يطالها النقد البناء، لا الذاتي منه و لا الخارجي، فتتهرأ و تضجر؛ أسطوانات يعين بعضُ إعلام ضعيف و مصاب بنفس علات غياب النضج و الحياد و المهنية و التقيد بحدود مساحة حريته؛ إعلام لا يحمل جينات التحول الإيجابي و لا يدفع على تغيير ملح لمحتوى هذه الحرية “المُقزمة” بل و إنه على العكس من ذلك يكرس خور هذه الحرية إمعانا في قصم ظهر المسار السياسي المتعثر و المفتقد عموما للمحتوى الرفيع و الحضور الكاريزمي للألمعيين من النخب و القواعد الراشدة و من القادة الفاتحين لأمصار السياسة البناءة.. إلا من رحم ربك… و أرى اللهَ من نفسه لأهل وطنه خيرا يرفع قدره و يحقق رجاءه و يهدي به سلفا صالحا من بعده خلفا حسنا موفقا فيثاب.