رواية”أَعْشَقُنِي” رسالة إنسانيّة خالدةيتوجب عولمتها
ليس مفروضاً احتراف الأدب للقراءة بنهم وعلى نفس واحد لرواية ” أَعْشَقُنِي” للمبدعة الفلسطينيّة،ذات الجذور الخليليّة والمقيمة في عمان،الدّكتورة سناء الشّعلان. يكفي القارئ تذوّق الجميل وتخطي الاعتياديّ والنّمطيّ والمنهجيّ العالميّ في مستوى الخيال،والتّسلّح والاستعداد لخوض آفاق جديدة،ليسافر إلى رحلة مستقبليّة،حيثُ الرّوائيّة تسحر ذهن القارئ بأحداث تدور في بداية الألفيّة الرّابعة.
يجود خيال الرّوائيّة بلغة تحقّق مطالب الشّعر المرهف،بتقديم مجتمع إنسانيّ قد استقرّ في المجرّة الكونيّة،متنقّلاً بين كواكبها بوسائل متطوّرة،وذلك بعد حروب ضارسة،مستعملاً تراسانات فتّاكة أدّت إلىانقراض الثّروة النّباتيّة،فصارت ذكرى وموضع دراسات،وهناك تطّور تكنولوجيّ يحقّق إشباع حاجات البشر،مثل التّغذية بتناول الأقراص،وهناك تنعدم الموسيقى والشّعر والرّوحانيّات،حيث التّناسل تتمّ ميكانيكيّاًً بتوصية من الوالدين مع تقديم مواصفات الوليد للحكومة التي تقوم ببرمجمة المولود؛فلا زواج ولا زفّة ولا سهرة حناء ولا حمام العريس ولا دخلةولا زغرودة أم العريس.
“هي هي،اشتراناها بطيخة… طِلعتْ حمرا ومليحة” هكذا الطّقس في بلدتي،وأنا البعيد عنهامنذ ثلاثة عقود ونصف،أمّ الفحم الفلسطينيّةالحبّيبة.لا ولا وفق الطّقوس الأوروبية الشّائعة وصرخة نشوة المحتفين” فيفا يي سبوزي” (فليعش العروسان)،ولا ولا وفق الطّقوس الأمازيغيّة البربريّة*،وأصررتُ في حفل زواجي من الكاتبة المغربية زينب سعيد إنجازها بحذافيرها لما فيها من جماليات محرّمة على العقل الأوروبيّ،عشتُ تلك الطّقوس ووصفتها آنذاك كما في الرّابط أدناه .
بيد أن “شمس” الوليدة هناك في بداية الألفية الرّابعة، وبسبب خطأ تكنولوجيّ في استئصال بعض الجينات جاءت إلى تلك الدّنيا بخصال تعيد إليها بعضاً من الصّفات الإنسانيّة المنقرضة،تتمرّد وتحبّ،وهناك الحبّ منقرض،”خالد”(وهو)أيضاً لأسباب ما يتقاسم خصال إنسانيّة مع شمس؛يشاركها التّمرّد،يجمعهما العشق،ويقرّرانأن يُنجبا وريثاً بطريقة إنسانيّة منقرضة،فيتناكحا دون الطّقوس.
تفيض قريحة الدّكتورة سناء الشّعلان في وصف الدّقيق والعميق والسّائح والمارح من المشاعر الهائمة في الذّهن البشريّ بإناثه وذكوره،بلغة متمترسة وعذبة تحلّق بالقارئ عالياً،وتغوص به عميقاً،وترجعه سحيقاً في الدّكتورةإلى حيثيّات النّشوة والكراهية والحقد والحبّ … الخ من الأحاسيس المهمّة لأنّها مدموغة بالخالق الأعلى.
تحمل “شمس” من حبيبها” خالد” الذي يسافر إلى كوكب آخر لتجنّب العقاب، وتعاقبُ الحكومة الحامل بـ “ورد”،كما يريد الأبوان تسمية الجنين،فيما تُعتقل “شمس”،وتبدو على مشارف الموت لتلف دماغها،وتقرّر الحكومة استغلال جسدها،ووهبه لدماغ مريض آخر ليعيش به،وهو القائد العسكريّ الكبير في المجرّة”باسل المهري”.
تنجح العمليّة،وسرعان ما يكتشف “باسل المهريّ” هويته الجديدة بوصفه اثنى سراء ضئيلة الجسد وحامل أيضاً،يمتعض،يزدري،يحتجّ،ويقرف من أنّه أنثى.والجدير بالذّكر هنا تسجيل مأثرة قدرة الكاتبة على إظهار الجانب الذّكوريّ بأحاسيسه والإطناب في الوصف التّقريريّ النّاجع والنّاجح لعقلية الذّكر،وهي بذلك لا تخصّ عقليّة الذّكر العربيّ،بل تعمّم التّجربة على الذّكر في كلّ مكان زمان ومكان.والرّوائيّة في الآن ذاته تشير إلى التّعاليم السّماويّة الإسلاميّة التي تحصّن المتمسّكين بها من المضاعفات النّاجمة.
بيد أنّه لأسباب بيولوجيّة،ومنها التّبادل الهرمونيّ بين الجنين والحامل ذي العقل الذّكوريّ،يبدأ الأخير بالتّفاعل مع جنينه واستقراء مطالبه والاطّلاع على سيرة صاحبّة الجسد “شمس” وهدفها من تمرّدها في الإنجاب بطريقة إنسانيّة.واضح أنّ التّواصل مع الجنين قد أيقظ لدى العقل الذّكوريّ عناصر إنسانيّة منقرضة،ورويداً يرتضي بحالته،لا بل بعد مراجعة مذكّرات “شمس”،وهناك رسائل عشق هائلة يتعرّف عليها”باسل المهريّ”،فيقرّر أن يجاهد،وأن يتحمّل،وأن يقدّم التّضحيات لإكمال مشروع الولادة على الطّريقة الإنسانيّة الطّبيعيّة ليصرح بتماهي:”أَعْشَقُنِي”،ويكمل المشوار برضا تام.
“أَعْشَقُنِي”رواية ذات مضامين تخصّ البشريّة،وذات رسالة تنبيه لمُسيري الإنسان للعواقب الوخيمة التي تتأتى عن النّهج الحالي،وتدعو الكاتبة،بنت الخليلمرقد الآباء، إلى العودة إلى التّعاليم الأولى.
” العودة” إلى أرض الوطن مسألة فلسطينيّة بامتياز،فما زال اللاجئ الفلسطينيّ أينما كان،محافظاً على مفاتيح بيته المهجر منذ أكثر من ستة عقود،وفوق كلّ شيء، وكمهنته الأزليّة الأولى،الحفاظ على مفاتيح القيم الإنسانيّة كما ورثناها من أبّ الآباء ،سيدنا إبراهيم عليه السّلام.
الرّوائيّة سناء الشّعلان أعادتني إلى جذوري الخليليّة،فالمحاميد أخوة الجبارين في بلدتي أمّ الفحم ينحدرون من بيت جبرين في الخليل،و” أَعْشَقُنِي ” أعادتني إلى “أنشودة بهاء الدين “.(صدرت عن مكتبة الارتقاء الرّقميّة عام 2013 في الرّياض).
وهي تقديم لحكايتي” الطفل الذي جلب السّلام” المنشورة بالإيطاليّة والفرنسيّة والعربيّة.كنت قد دُعيت لتقديمها في أيّار 1998 في مدينة بيلونو الإيطاليّة،وقُبيل أيّام من الموعد سقط أطفال فلسطينيون شهداءً في القدس،فأستحوذ بهاء الدّين شخصيّة الحكاية على ذهني.ذلك الطّفل الفلسطينيّ الذي يضطر للتّهجير عنوة من أجل جلب السّلام لأولئك المرضى،القادمين من أصقاع الأرض،والمتشبّثين بتلابيب وطنه مطالبين بالسّلام.يسافر بهاء الدّين يلتقي حضارات،ويكتشف هزلها ومكننة المشاعر الإنسانيّة وفقرها للسّلام الحقيقيّ،ويعود بتلخيص وخطاب يدعو فيه لأنسنة الإنسان الحالي.
عوضاً عن خلاصة الحكاية،أقدّمها في مدينة بيلونو الإيطاليّة بأنشودة،أهديها للكاتبة العملاقة الدّكتورة سناء الشّعلان.
هكذا تبدأ :
أنشودة بهاء الدّين:
من فجر الزّمن الحرّ
إلى غداة المدن الوديعة
إلى شروق الشّهوات
شرعت يدي لبيادر الحلم
والكلام الأصيل
يهديكم لمسّ الصّلوات
من بيارق الحبّ الأول
من بلد القدس
لكم يا أهل بيلونو السّلاما
هذي حكايتي
وبهاء الدّين يمقت
سرد المسير
اجترار المسافات
ويضيع في العاصفة
كلما ذهب لنفسه
رجموه بالصّاعقة
كلما عرّج
على ضفاف حلمه
رشقوه بالنّاصية
كلما آخت أشعاره
ترانيم القوافل
قذفوه في البركان
وهاجوا
وما فرّ
وما كرّ
وما لانت له قانية
فيا أهل بيلونو
لكم الرّغد
ولكم مني السّلاما
وهكذا تنتهي :
والآن
وقد اتّخذ المخلوق
شكل شاشة الكمبيوتر
وفي الفايل
خزّنا رائحة الياسمين
الصّواريخ النّوويّة
تعبر القّارات
دون إذن
تصيب أهدافها
بكلذ يقين
سأدعو للصّلاة الحّة
والحوار المتين
ماذا تريد يا أبتِ
هل تزوّجت البندقيّة
وامتطيت
شهوة السّياسيين
لم تصبغ شعرك
بكبريت رصاصهم
لتنجب الدّولة
فحافظ على
شهوة الكون فيك
على عظمة الفكرة
وأذهب إلى عاصمة
النّازحين عن
صدر أمّهم
اذهب وفاوض
واسحب ترابك
من تحت
أقدامي
لكن لا تساوم
على فطرة الخالق فيك
لا تساوم
وافضح كلامك الحرّ
يا ابن أمي
لا عليك
سيلتقطة عابرو
الزّمن اللّوطي
على جثتك وأرضي
وسيسجله الهواء
في مفكرة الدّكتورة
فاسحبّ يديك
وانظر في الأفق
صوّب أمامك
وكلامك للتّاريخ افضح
لا تجعله أبداً
في القلب يجرح
واذهب إلى
عواصم الزّجاج
والبيوت الحريريّة
قل نعم
كيفما شئت
وأينما شئت
لكن
لا تراهن
على شبق
الكلام الحرّ فيك
لا تناقش
على لغز الروح
الموهوبة فيك
لا تجادل
على زركشة التّهاليل فيك
لا تساوم
وانتظر
يحق لك الانتظار
فمن السّواعد الحرة
من العرق البريء
سينفجر الانتصار
فاذهب في القبائل
تنشر أغنيتك الأولى
على رماد الورى
ولتغني مثلما
كنا نغني
وندعو النّاس للخرافة
ندعو النّاس لبداية
البدايات
والأهازيج البسيطة
شكراً للكاتبة الدّكتورة سناء الشّعلان لهذه الدّعوة الذكية،العودة إلى المفاهيم والأحاسيس الأصيلة التي من خلالها تقوم بطقسها الأبديّ بوصفها ” بنت الخليل” للبشرية جمعاء مُحذرة من مغبة طول هجرة الفلسطينيّ عن دياره،إذ إنّه لا يأل جهداً أينما كان في تقديم حلول سلام لشعوب الأرض.
الثقافات الحالية بحاجة إلى مفاهيم والخيال في “أَعْشَقُنِي” برسائله الاجتماعيّة والعلميّة والفنيّة والسّياسيّة حاضر بكلّ قوّة.لذلك أقول لا بدّ من عولمة هذه الرّواية، كما عوْلمَ آباؤنا الأولون-بكلّ نجاح- تعاليم الفجر الحرّ منذ زمن إبراهيم عليه السّلام.
بقلم د.صلاح محاميد/إيطاليا