الشاعرة المغربية مليكة العاصمي .. سيدة الإبداع

هي بالفعل سيِّدة الإبداع الشعري النسائي المغربي ورائدته البارزة. هي علامة مضيئة ذات إشعاع باذخ بهيّ في مجموع المدوّنة الشعريّة المغربيّة المعاصرة. فلقد استطاعت شاعرتنا باقتدار ووعي كبيرين منذ أواسط الستِّينيات من القرن العشرين وإلى الآن، أن تشق لنفسها مجرىً خاصّاً بها في أرخبيل هذا الشعر مستعينة على ذلك بإزميل متميّز متألّق باهر التجلّيّات .

مليكة العاصمي فرائدها الشعريّة القيّمة لا تشبه غيرها. لها طعمها ومنحاها الخاصّان . لها قسماتها الجماليّة الثريّة المتنوّعة . وهذا ما جعلها تنأى بمنجزها الشعريّ ? طيلة تجربتها الشعريّة المديدة ? عن الكتابة السهلة . لم تقنع بالعاديّ المتداول. لم تتسابق كغيرها ممن سارعوا وسارعن إلى إصدار الدواوين المتشابهة واحداً تلو الآخر في زمن قيّاسيّ، فقد كانت تعتبر مثل هذا الصنيع ضدّ الكتابة الشعريّة الحقيقيّة، لأنّها اعتقدت ولا تزال تعتقد أن الشعر الناضج الحقّ مثل الحرير الأصيل لا تنتجه دودة قزّ ترعى أوراق توت صناعيّ، وهذا ما لا يمكن الحصول عليه بين يوم وليلة. إنّه محتاج إلى الصبر والرعاية لكي يكتمل ، لذلك فمهره غال جدّاً. أليس أنّ الموهبة المتّقدة هيّ المتوصّل إليها عبر المكابدة المستمرّة والتزوّد المثمر العميق من الثقافة المتنوّعة والممارسة الرصينة والاستبطان الضروريّ حتّى تنضج وتصبح مؤهّلةً للانتشار على صورة لائقة بالإبداع الأصيل وبمبدع هذا الإبداع الأصيل؟ . إنّ كلّ هذا في اعتقادي هوّ ما سعت الشاعرة مليكة العاصمي إلى تحقيقه بامتيّاز، وهو ما بوّأها المكانة التي تستحقّها . بل هو ما جعل متونها الشعريّة عالقة بالذاكرة الجمعيّة، مترعة بالعذوبة والعمق والإدهاش. كلّ ذلك في زمن عربيّ تراجع حضور الشعر فيه. إذا كانت مليكة العاصمي قد تفتّحت مداركها على الإرث العائليّ الوطنيّ المستمدّ مشروعيته من الثقافة الأصيلة والالتزام بالعمل الوطنيّ الصادق ، مما ساهم حتما في تفتّح وتشكّل وعيها في وقت مبكّر جعلها دائمة الولاء لذلك الإرث؛ فقد جاءتنا كشاعرة من انتسابها إلى الجيل الشعريّ الستِّينيّ العربي . ذلك الجيل المتميّز الذي عصمه انخراطه الشرعيّ في جيل الحداثة الشعريّة الأولى من السقوط في التفاهة والضياع والعدميّة والإحساس باليأس الكامل. إنّه جيل على الرغم من تنوّع شعرائه وتباينهم، فقد كان معظمهم ? ومنهم شاعرتنا ? قد امتلك الموهبة الحقيقيّة المتّقدة والتمكّن الحصيف من الثقافة العربيّة قديمها ومعاصرها والاهتمام البالغ بالمعرفة في شمولها الإنساني ووضوح الرؤية للعمليّة الشعريّة المستكملة لكل العناصر الفنيّة . هذا هو ما مكّن هذا الجيل من لعب أدوار مميّزة كان لها القول الفصل في تأصيل القصيدة المعاصرة وإحكام بنائها ولغتها وتوسيع آفاقها وفضاءاتها والوصول بمنجزاتها إلى تخوم بعيدة. توهّجت شعلة الشعر عن وعْي وفهم حقيقيّين عند هذا الجيل وتناغمت مع حركة الواقع وجدليّته ومتغيّراته، فاتّسمت بالحسّ الثوريّ النابض بالأحاسيس والمشاعر الوطنيّة والقوميّة ، وخاصّة بعد الأحداث المزلزلة التي عرفها اليوم الخامس من حزيران وما آلت بعدها إليه الأوضاع المتراكمة المليئة بالمتناقضات المنسحبة على كثير من الحالات التي ما زلنا نعيش الكثير من ذيولها لحد الآن. لقد استطاعت مليكة العاصمي عبر مدوّنتها الشعرية المنشورة لحدّ الآن أن تتميّز بصوتها الخاص، وسواء أتعلّق الأمر بالإفصاح عن ذاتها أم عن وطنها وقوميّتها. إنّها منحت لذائقتها الفنيّة الفرصة لكي تعبّر عن همومها الحميميّة حين أفصحت عن زخمها العاطفيّ الخاصّ في شتّى توتّراته وانعطافاته، في وجوده المحاصر وحريّته المحدودة، في غضبه ورضاه، في تواضعه وفي خيلائه، في انفتاحه على الآخر، في إخلاصه للمبادئ التي نذرت نفسها لها. غير أن صوت الذات هذا لم يتغيّر مع تغيّر الشروط التاريخية التي دعت إليها هذه المبادئ، لذا فإنّ شاعرتنا لم تَنْحُ في شعريّتها منحىً وجدانيّاً فردانيّاً بقدر ما كانت معاناتها عبر شعرها مرتبطة بواقع ذي ملامح محدودة في الزمان والمكان. أكيد أنّ حضور أناها الفرديّ في شعريّتها لم يغيّب على الإطلاق أناها الجمعيّ الذي بسط نفوذه على معظم تجربتها ، دون أن يؤدّيّ ذلك إلى ذوبان إحدى الإنيـتين في الأخرى لأنّهما يتكاملان ، ودون أن يذهب هذا التكامل بنبرة صوتها الخاصّ بها. إنّ نبرة صوت الشاعرة مليكة العاصميّ يتميّز بجسارة لافتة للنظر الناقد، جسارة قلّما نجدها عند غيرها من الشواعر المغربيّات ، وخاصّة في ذلك الوقت الذي عاش فيه المغرب أزمنته الصعبة الضاجّة بالإحباطات والانكسارات في سنوات عاريّات لم تتذوّق طعم الفرح، سنوات مثقلات بالمآسي المروّعة والتطاحن السيّاسيّ الفاجع. كانت شاعرتنا دائماً مهمومةً بقضايا وواقع بلدها ، يعنيها أن تعيشها وأن تقول كلمتها فيها لا بالتعميم ولا بالتجريد، بل بالغوص فيها بكل ما في قلبها من توق إلى الفعل وحرص شديد على اتّخاذ موقف واع متمرّد، موقف يدين ما في ذلك الواقع من مآس وقهر ومنغّصات وظروف سلبيّة غير عادلة. لقد أدّت مليكة العاصميّ ? بمعاناة وإخلاص وجرأة ? شهادة إبداعيّة متميّزة نادرة عن مأساتنا ، عن امتعاضنا ، عن سخطنا. إنّها بهذه الشهادة قد اختارت الطريق الصعب في تلك الظروف العصيبة ، حيث عبّرت فيها عن خيبة ومرارة جيل بكامله. امتلأ صدرها غضباً وغيظاً، بل وازدادا في بعض نصوصها حدّة وجهارة وانعكس التأكيد من خلالهما على ارتباطها والتحامها الصادق بأكثر قضايانا صعوبة وأشدّ أحزاننا إيلاماً. هناك خاصيّة أخرى تميّز بها المنجز الشعريّ لشاعرتنا مليكة العاصميّ، يستطيع قارئه المتريّث الوقوف عندها، ألا وهي استـلهامها وتوظيفها الخلاّق للتراث القوميّ العربيّ، بكل تلاوينه وكائناته المختلفة التي زخرت بها متونها الشعريّة ، وبها بلغت من الغنى والتنوّع درجةً متميّزة . لقد كان هذا التراث بحقّ رافداً ثرّاً أصيلا أمدّ هذه المتون بأساليب جديدة ومتنوّعة نتيجة التفاعل الحيّ بين النصوص وحواراتها. رافد تحكّمت الشاعرة فيه بالطبع عبر رؤية معاصرة لها فرادتها وتميزها ومقصديّتها الواضحة الهدف والفكرة. لذلك حاورت الشاعرة هذا التراث من حيث تنوّع وتعدّد مصادره، بحيث يصعب علينا في هذه العجالة تقصِّي ما استمدّت الشاعرة من هذه المصادر . لذلك نكتفي هنا بالإشارة إلى أبرزها حضورا وهو القرآن الكريم والعهد القديم خاصة في أول أسفاره وهو سفر التكوين وبعض الأساطير والشعر العربيّ قديمه وحديثه والتاريخ المغربيّ/ العربيّ بأحداثهما وأزمنتهما وأمكنتهما وشخصيّاتهما، بالإضافة إلى ذخيرة الموروث الشعبيّ المغربيّ، ( الأمثال والقصص الشعبيّ) كلّ هذا دون أن يغيب عن بالنا في هذا المجال مخزون شاعرتنا اللغويّ البالغ الثراء، ذلك المخزون الذي مكّنها من الانتقاء والترجيح وهي تبحث عن المفردة اللغويّة المناسبة دون سواها. وهذا ما أكسب متونها مساحة لغويّة مُعْجَمُها فسيح الامتداد من الواقعيّ والصوفيّ والشعبيّ. هذا ونحن إذ نسجّل هذه الانطباعات عن توظيف شاعرتنا للتراث، نودّ توضيح ما يلي: أوّلاً : إنّ شاعرتنا كانت من بين شعرائنا المعاصرين الذين كانوا على وعي منذ البدء بما تتطلّبها المرحلة الشعريّة الجديدة من بعد نظر، ويكمن بعد النظر هذا في أن الاندماج في الأفق الشعريّ المعاصر يبتدئ أوَّلاً من استيعاب وفهم لتراثنا الشعريّ من قديمه إلى أحدث تجاربه، ذلك لأنّ عمليّة التجاوز إذا فقدت مبرّراتها ، فإنّها بالتالي تفقد موضوعيّتها حين تصبح مقطوعة الجذور أو حين يكون التواصل مع هذه الجذور مجرّد ادّعاء يقال في المناسبات. ثانيّاً : إن الغنى الفكريّ والثقافيّ الذي يفصح عنه منجز شاعرتنا تراثاً ومعاصرةً مكّنها من ذلك الإبحار النبيل الخلاّق في خضمّ العديد من الينابيع الزاخرة بالتجلّيّات الإبداعيّة على أكثر من صعيد، ممّا أثرى شعرها بما طرحته عبره من النماذج المتناميّة المنسجمة مع ما أرادته له من التأَلّق ، مع ما أرادته له من أبعاد تعكس تجربتها الحاليّة. لقد اعتقدت ولا أزال أعتقد بأنّ شعراءنا المهمّين هم الذين استفادوا من استحضار التراث في أعمالهم الإبداعيّة بتفاعل عميق مع عناصر ومعطيات هذا التراث، وذلك بغية تطويعهما واستغلال طاقاتهما الفنيّة للتعبير عن تجارب معاصرة. هؤلاء الشعراء هم الذين نجحوا في إيصال أبعادهم العامّة والخاصّة إلى المتلقّي . هم الذين تجاوزوا الحدود الذاتيّة الضيّقة وتمكنوا من الوصول إلى الآفاق الموضوعية الأكثر غنىً وخصوبة ، الأكثر شموليّةً وإحاطة. وعلى العموم فإنّ العودة إلى التراث تعني استغلاله في فهم اللحظة الحديثة باختيّار مواقف وشخصيّات ونصوص منه، تصلح لأن تكون نقطة انطلاق نحو الحاضر وزاوية جديدة لرؤية الواقع واستكناه دلالاته. إنه أسلوب فنيّ حققت به قصائدنا العربيّة المعاصرة انطلاقة كبيرة. لم يتعارض الوعي الفنّي الصارم عند شاعرتنا منذ البدايات مع القضايا التي سعت إلى التعبير عنها. لقد حرصت عبر منجزها الشعريّ على أن توازن بين رؤاها ومواقفها الذاتيّة والوطنيّة والقوميّة. أن توازن بين رؤاها وبين البرهنة على أنّها صاحبة قضيّة إبداعيّة فنّيّة جماليّة. لقد غدت متونها الشعريّة مختبراً فعَّالا لتجريب وتوظيف مجموعة من الأساليب والتقنيّات والصوّر والأشكال البالغة الغنى والتنوّع. كما حقّقت لكلّ ذلك أكثر من قيمة فنّيّة وموضوعيّة. لذلك، سيكون من الصعب علينا في هذا المقام عدم الالتفات ولو بإيجاز شديد إلى أهمّها ، وهي كالآتي: أولا ? اتّخذ توظيف الشاعرة للتراث بكلّ معطياته عدّة طرائق وأساليب من الاقتباس والتضمين والمعارضة والتحوير والإحالات. ثانيّاً – ثراء الجوهر الغنائيّ لمتونها الشعريّة تمّ باصطناع العديد من العناصر الدراميّة المقتبسة من أجناس أدبيّة متنوّعة ، كالأقنعة وتوظيف عنصر السرد وتعدّد الأصوات والصراع والتوتّر والحوار بنوعيه. ثالثا ? سطوة الإيقاع العموديّ والتفعيليّ على منجزها الشعريّ بشكل لافت أبانت عن عنايتها البالغة بهذا العنصر الجوهريّ، وذلك من خلال توظيفها للعديد من عناصره ومقوّماته من أجل ضمان ثراء موسيقيّ لا فيما يخص التفاعيل فقطّ، بل حتّى فيما يخصّ القافيّة ودورها الصوتيّ والدلاليّ والإيقاعيّ . إنّها تفنّنت في تشكيلة هذه الروافد الإيقاعيّة عبر سيّاحتها في أنماطها المختلفة. أمّا التكرار بمختلف صوره فقد هيمن على معظم متونها إلى درجة أصبحت الإحاطة بمظاهره متعذّرة في مثل هذه الشهادة. كذلك اعتمدت شاعرتنا بشكل واضح على بعض أشكال التوازي وعلى عنصري التضمين والتدوير بنوعيه، الجزئيّ والكلّيّ، وعلى التجنيس والترصيع والترديد باعتبارها عناصر صوتيّة إيقاعيّة . وباختصار فإنّ شاعرتنا ما تركت أيّة إمكانيّة إيقاعيّة إلاّ وجرّبتها. رابعا ? أمّا على مستوى تشكّلات هندسة النصّ التفعيليّ ، فإنّ شاعرتنا لم يستقرّ منجزها الشعريّ على نمط واحد عبر مراحله المختلفة. ذلك أنّ إدراكها الفني لشتّى مسوّغات وحوافز وضرورات تجاربها الشعريّة المختلفة ، هو الذي حدَا بها إلى الانفتاح على العديد من الأنماط والأشكال، بحيث يستطيع قارئ شعرها أن يلمس قدرتها على التجريب والمراوحة بين كتابة القصيدة الطويلة ذات المقاطع المتعدّدة التي تفصل بينها ببياض أو أرقام أو عناوين أو علامات هندسيّة، أو بين قصائد متوسّطة الطول تحاول الشاعرة أن تسبغ عليها مزيداً من التركيز، أو بين قصائد شديدة القصر خاليّة من كلّ الشوائب والنتوءات. هذا ودون أن يغيب عن بالنا أن نشير إلى لجوء شاعرتنا في بعض الحالات إلى كتابة القصيدة العموديّة المتعدّدة المقاطع ( الفقرات) المتنوّعة القوافي، أو كتابة القصيدة الواحدة الجامعة بين الشكلين العموديّ والتفعيليّ. (*) كتبت هذه الشهادة بمناسبة صدور المجلّد الأوّل من أعمال مليكة العاصميّ. المصدر : جريد العلم المغربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى