“تقاسيم الفلسطينيّ” للدّكتورة سناء الشّعلان :سادنة الحلم الفلسطينيّ وكاتبة تاريخه
بقلم الأديب الناقد/ عباس داخل حسن – Tampere-Finland صدر عن دار أمواج الأردنيّة للنّشر والتوزيع “تقاسيم الفلسطينيّ” مجموعة قصص قصيرة جداً للدكتورة سناء الشّعلان, تقع في 182 صفحة, وتتكون من 174 قصة موزّعة على ثمانية تقاسيم: تقاسم الوطن, تقاسيم المعتقل, تقاسم المخيّم, تقاسيم الشّتات, تقاسيم العرب, تقاسيم العدو, وتقاسيم البعث.
ولكلّ من يعرف “الدّكتورة سناء الشّعلان” يعرف روحها الإبداعيّة المتمرّدة والمبتكرة فهي” تبغض النّص اليسير، وتكره الطّرق المطروقة التي يسلكها كلّ إنسان، ولا تشرب من الحوض المباح, وتعاف ما تبذله الدّهماء”، هذا قول الشّاعر اليونانيّ “كلّيماك” ينطبق على منجزها الإبداعيّ المتعدّد الصّنوف والضّروب بتمكن ووعي لما تقوم به دون ادّعاء بكلّ تواضع، حسبها البذل والتّفاني من أجل إشاعة العدل والجمال. ولم تخلق شهرتها من فراغ, حصادها للجوائز إلاّ من خلال إبداعها ومعرفتها العلميّة الأكاديميّة العالية، فهي حاصلة على درجة الدّكتوراة في الأدب الحديث، وحصدت أعمالها نحو 50 جائزة دوليّة وعربيّة،لها أكثر من 50 عمل إبداعيّ صدر لها لحد الآن.علاوة على ذلك نشاطها الإعلاميّ ومناصرتها لحقوق المرأة والطّفل في المحافل المحليّة والدّوليّة بقوة ودأب . لها مفاجآتها المتميّزة في السّرد والقصّة القصيرة التي تكتبها بلغة صافية طيفيّة، وبأفكار غير مسبوقة كما روايتها الأخيرة “أعشقني” التي أُعيد طبعها للمرة الثّالثة خلال فترة وجيزة، إذ جاءت نصوصها مكتنزة ومتفرّدة على مستوى الشكلّ والمضمون . ولأنّها صيّاد ماهر للجوائز التي تستحقها بجدارة ولأنّها صاحبة حضور طاغي, لا تناكف في معارك خارجة عن الهمّ الإنسانيّ والإبداعيّ، كثر من يغبطوها، وفي الوقت ذاته كثر من يحسدونها, وهذه ضريبة النّجاح، تاركة لهم الظّلّ والفشل دون أن تتخلّى عن مبادئها وأمنياتها فهي من تقول في حوار أجراه معها الصّحفيّ المصريّ المعروف:” أمنيتي لكلّ إنسان في كلّ مكان أن يأتي يوم تغيب شمسه على بشريّة ليس فيها عين دامعة أو قلوب كسيرة أو حق مهدور”. وهذا ما نلمسه في أعمالها جميعاً التي تسلّط الضّوء فيها على محنة الإنسان ومتاهاته وأحلامه وانكساراته, دون أن تنسى قضيتها الأم وجذورها الفلسطينيّة وحلمها الفلسطينيّ التي تتشبث به ولا ترضى بديلا غير العودة, فجاءت هذه المجموعة محمّلة مثل روح كاتبتها بدموع الجدات والأجداد ومحنة الأحفاد والشّهداء والشّتات في طول وعرض المعمورة دون وجه حق بما جرى ويجري ليومنا هذا من قتل ووحشية وتهجير واعتقال لشعب بأسره أطلقت على من يقوم بهذا الفعل الشّنيع الصّهاينة وأعوانهم:” مستدمرون لا مستعمرون لأنّهم لا يعمرون بل يهدمون ” هامش قصة المؤذن،ص17/تقاسيم الفلسطينيّ. وهذا ابتكار اصطلاحيّ صحيح علينا استخدامه من الآن فصاعداً؛ لأنّه ينطبق على أفعال ما يُسمى دولة إسرائيل التي لم توفر باطل وظلم واضطهاد إلاّ واستخدمته ضدّ شعب أعزل وبمساعدة قوى متغطرسة وسط تصفيق هذا العالم المختلّ الغاشم غير المتوازن “كلّه العالم صفق طوعاً أو كرهاً ” قصة الأشجار ص11/تقاسيم الفلسطينيّ. رغم جرائمه كلّها التي يعترف بها أو يرتكبها وتُسجل ضدّ مجهول كما هو ديدنه في قتل الأطفال والكبار واقتلاع الشّجر والحجر بوحشية مفرطة لم يشهدها التّاريخ من قبل “قذيفة صهيونية انهالت على سوق الملابس على حين غرة فأحالته إلى جحيم مستعر….شرعت تلمّ اللّحم المتناثر, وتحوشه في صدرها بعد أن عجزت لأوّل مرة في حياتها – عن التّميز بين بناتها التّوائم الأربع” قصة التّوائم الأربع ص 14-15/تقاسيم الفلسطينيّ. هذه المشاهد والصّور عرضت على شاشات فضائيّات العالم الآلاف المرات، استطاعت أن تحفرها سناء الشّعلان بسرد حكائيّ له تأثير مختلف حفظه الفلسطينيّ شفاهيّة من الأجداد إلى الأحفاد، فدونته قصص هذه النّصوص القصيرة جداً بحجمها كبيرة برسائلها السّياسيّة والتّاريخيّة والمستقبليّة. ورغم أن قصص مجموعة ” تقاسيم الفلسطينيّ” تبدو أقرب إلى أنّها قصص تسجيليّة تقوم على رؤيّة سياسيّة – اجتماعيّة. وكما معروف أن القصّ التّسجيليّ هو نتاج مبدأ الاختيار والانتخاب بما يتوائم وأفكار الكاتب الذي يرصد، ويتتبّع المضمون على حساب الشكلّ إلاّ أن حذاقة ومعرفة القاصة بأدواتها استطاعت أن توظّف الإيحاء والتّركيز والرّمز خدمة لديناميّة القصّة، فبدأت بشكلّ مختلف, وارتقت بالقصة التّسجيليّة إلى منطقة أخرى” قصص قصيرة جداً مدهشة ” غير ما هو متعارف عليه خاضعة أدواتها المرنة جميعها لوظيفة أكثر إمتاعاً وإبهاراً في المحكي, استطاعت أن تخاطب وجدان القارئ من خلال لغة شاعريّة ممشوقة رغم المأساة والفجائع التي تُعدّ السّمة الأساسيّة لهذه القصص المستلّة من الواقع مئة في المئة. هذا نجاح وتفرّد قدمته الدّكتورة سناء الشّعلان في التّجريب على الرّغم من أنّها نقلت من واقع معاش ولازال قائم ليومنا هذا. عملت بنقله كما هو بعين وأداة مختلفة ليس بآلة كاميرا، فكانت صور حيّة ورؤيّة فكريّة وسيلتها سحر اللّغة والمحكي مرتبطاً بالتّجريب الخاضع لقواعد فنيّة وجماليّة عالية الدّقة ومعرفة دقيقة باستخدام الضّوء والظّل في الصّورة السّرديّة أو المشهديّة إن جاز هذا التّعبير، وكذلك من خلال الحوارات المقتضبة والقليلة لما يتطلّبه هذا الجنس الأدبي ” القصة القصيرة جداً ” من اقتصاد واختزال شديد: “تحدق في وجوههم،لا تستطيع أن تجد حدثا فلسطينيّاً مرتبطاً بهذه الولادة, تصمت قليلا, ثم تبتسم لهم بأسى وانكسار، وتقول: أنا أحفظ متى استشهدوا أولادي، وأنتم عليكم أن تحفظوا متى وُلد أبناؤكم” قصة تواريخ ص21/تقاسيم الفلسطينيّ إنّ معجزة النّضال الفلسطينيّ هي الذاكرة الحيّة التي يُستلهم منها صمودها عبر الأجيال؛ لأنّ الفلسطينيين أصحاب حق ووجود لا يسقط مهما تقادم الزّمن واختلطت الأوراق وتتالت الخطوب والمحن والعلل. “ستون سنة لم تستطع أن تزحزه قيد أنملة عن إيمانه العميق بحقه, لم تمض ليلة لم يناضل فيها متمسّكاً بأرضه، لم يفتّ في عضد عزيمته تآمر العالم كلّه مع عدوه الصّهيونيّ” قصة زهايمر ص38 /تقاسيم الفلسطينيّ. إنّ ما يجري على أرض فلسطين هو أفعال مشينة وجرائم بمنتهى الغرائبيّة لا تعرفها قوانين الطّبيعة والمنطق. وقد نجحت الشّعلان في تدوينها برؤية واقعيّة تحدث كلّ يوم في سجون النّازيين الجدد أو “المستدمرين “،فهي قصص أقلّ ما يقال عنها أنّها أغرب من الخيال ونحن نعيش في الألفيّة الثّالثة بعد الميلاد:” لا يعرف بأيّ جناية هو مسجون في هذا المعتقل حيث الرّطوبة والازدحام ،والجوع والوجوه حوله كئيبة, لكنها تصمّم على الحياة … منذ وُلد وجد الضّيق والضّنك أمامه, لم يخرج بسهولة من بطن أمّه؛ لأنّها لا تزم فخذيها بسبب سلاسل تكبل قدميها ” قصة الأسير الرّضيع ص79/تقاسيم الفلسطينيّ. هكذا يولد الفلسطينيّ، ويبقى على الوجود وسط عالم مخادع ازدواجي دون أن يستسلم له. منحت قصص المجموعة أقنيم آخر للحكايا من خلال التّضاد بين الضّحيّة والجلاد , الحقّ والباطل حتى في محاولة الجلاد انتهاك آدميّة الإنسان بتعريته، فيصبح هو العاري أخلاقيّاً وإنسانيّاً وشرعياً، وهذا حدث آلاف المرات على مرأى ومسمع العالم الذي يدّعي التّحضر والمدنيّة وتبنّي الدّفاع عن حقوق الإنسان . “وقفت أمامهم عارية من الملابس مكتسية بكبريائها, وما أبهت لعيونهم الخنزيريّة التي تأكلّ جسدها إمعاناً في تعذيبها, فهي لا تخجل من عريها أمام خنازير بشريّة ترعى في أرض غير أرضها ” قصة عري ص85/تقاسيم الفلسطينيّ. إنّ قصص هذه المجموعة أسّست من خلال خطابها السّرديّ رؤية مضادّة في استنطاقها لمكان التّواجد الفلسطينيّ في الشّتات والمنافي والوطن بكلّ ما يحمله من تناقضات الإنسان الفلسطينيّ من خلال نماذج إنسانيّة تعيش في التّمني والحزن والصّمود والتّذكر من خلال لغة إيحائيّة عميقة الفهم للحدث القصصيّ المحكم للتّعبير عن هواجس الإنسان الفلسطينيّ الذي يعاني من شهيق الجوع والتّهميش والعذاب اليوميّ والعنصريّة بكلّ أجياله وشرائحه . لقد نجحت الشّعلان في اختيار زوايا المكان والشخوص والزّمن بشكلّ مغاير،فجاءت بقوالب وحلل جديدة :”أدار ظهره لهم، وما عاد يأبه بوجودهم أويردّ على سبابهم , أو يخجل من لكنته الفلسطينيّة، وكتب على سبورة الحائط حنظلة غاضب الآن ” تقاسيم المخيّم قصة حنظلة ص92/تقاسيم الفلسطينيّ. الفلسطينيّ على الرّغم من تعامل العالم معه الشّاذ إلاّ أنّه يبقى مكافحاً وصامداً بوصلته الوحيد في هذا الكون هي فلسطين كما توضح قصة “عقوبة ص100″ غير مكترثاً بصراعات الآخرين العبثيّة على الرّغم من أنّه يكون أحد ضحاياها في أحايين كثيرة، وهذا نراه جليّاً في قصة ” نهر البارد ص103″ .وتاجر آخرون بالقضية الفلسطينيّة من حكام ودهاقنة العرب وجامعتهم العربية المزعومة:”رصدوا ميزانيّة عملاقة من التّبرعات العربية كي يرفّهوا عن أنفسهم بالنّساء والخمور والملذات كي تتفق ذواتهم المظلمة عن فكرة منيرة لدعم الفلسطينيين, وطال اجتماعهم وطال انتظار الفلسطينيين ” قصة دعم ص127/تقاسيم الفلسطينيّ. ولم يك الفلسطينيّ مغيب وعي أو مسطح عقل لما يدور من حوله حتى العجائز الأميّات الأبجديّة ينعمن بإدراك فطري ووعي خارق، وهذه تقسيمة من تقاسيم الفلسطينيّ الحية :” العربي شريف لا يُضام , ولا يهان كتبت معلمة محو الأميّة على السّبورة , استدارت لتقابل وجوه نساء المخيّم اللواتي أتين لمحو أميتهن، سرت همهمة في الصّف، سألت المعلّمة صغيرة السّن على استحياء وبحرج بادٍ: هل قلتُ شيئاً يدعو للضّحك؟! أجابت أم محمود زعيمة نساء الصّف:هذا كان زمان,والله جبر،انظري إلى حالنا الآن : أين العرب مما يحدث؟ أضافت امرأة أخرى باستهزاء:”العرب الشّرفاء موجودون فقط على السّبورة ” قصة شرف ص130/تقاسيم الفلسطينيّ. هذه سخرية سوداء من واقع أشّد سواد وحلكة وظّفتها القاصّة بأكثر من قصّة على امتداد هذه المجموعة توظيفاً موفّقاً، ورسمت شخوص كاريكاترية كما هم في جوهر حقيقتهم يثيرون السّخرية والمرارة من خلال واقع هزيل ومرير، ولم تغفل عين القاريء قصديتها، فهم يعيشون بيننا ومنا وفينا من نفس الأرومة، وبعضهم من أبناء جلدتنا وعمومتنا “مطّ الثّري العربيّ كرشه الذي يتدلّى ليهرس عضوه التّناسليّ القزم الذي أغدق عليه دون انقطاع بالجواري والحسان اللواتي ما استطعن لكسره جبراً، ولا لعطبه دواء. يحبّ أن يظهر مبتسماً في الصّحف، وهو يفيض بماله صداقات وعطايا على الغرباء المنكوبين والحيوانات الآيلة للانقراض والمباني الأثريّة في مجاهل بلاد العالم والنّساء الجميلات التي يستدرجهنّ إلى قصر حريمه. يحبّ لقب المحسن العربيّ، ويكثر من التّزيّن بالدّمقس والحرير والمعصفر والمفضّض والمذهب والمألمس من فاخر الثّياب ونادر الأحذية ونفيس الجلود والفراء زعم في لقاء صحفيّ أنّ معاناة الشّعب الفلسطينيّ قد أحرقتْ قلبه الملبّد بالدّهون، وحرص على أن تبرز الوسائل الإعلاميّة دموعه الثّرة التي أهداها بسخاء للشّعب الفلسطينيّ، وفرض على نفسه عمرة للدّعاء لهم، وعند الكعبة سأل الله إلحافاً أن يعينهم، وأن يهبهم من يكون في عونهم، ومطّ شفتيه طويلاً بالدّعاء لهم إلى حين تلتقط عدسات كاميرات التّصوير صورة مناسبة له تسجّل دعمه المؤزّر للقضيّة الفلسطينيّة!” قصة عروبة ص131/تقاسيم الفلسطينيّ. ” يدرك من أعماقه كم هو مجرد من الأخلاق والقيم والنّبل” قصة السوط ص139/تقاسيم الفلسطينيّ. هذه المجموعة لاشيء يغني عن قراءتها عبر174 قصة موزّعة على مدونات فصولها السّبع لتكتمل صورة لمأساة قضية بدأت منذ عقود، ولم تنته فصولها بعد على الرّغم من كلّ تآمر الكون عليها، إلاّ أنّها بقيت متّقدة مثل تقاسيم الفلسطينيّ صاحب الأرض وحارس المقدّسات بشرف وأمانة, مهما اشتدّ نباح الآخرين وهبّت رياح التّهجير والاعتقال والقتل . يٌبعث الفلسطينيّ مثل العنقاء من رماد الفجائع والانكسارات والخسارات الكبيرة:” استطاعوا أن يقتلوا عدداً عملاقاً من الفلسطينيين، مثّلوا بأجسادهم، أحرقوا جماجمهم، طحنوا عظامهم، نثروا رمادهم في مهبّ الرّيح كي يرتاحوا من ذلك الشّبح الذي اسمه عودة الشّعب الفلسطينيّ إلى وطنه” قصّة الرّيح والكلاب،ص155/تقاسيم الفلسطينيّ. هذا الإصرار على تجدّد الحياة هو ما تفعله قصص الدّكتورة سناء الشّعلان من أجل الانعتاق من إسار الوعي الزّائف والرّاكد من حولها بأسلوب جماليّ متّقد يحرّك ديناميات الإبداع وإعادة الحياة إلى بهجتها على الرّغم من كلّ ما يجري من تناقضات وكيد من القريب والبعيد. إذا كانت الكتب المقدسة تبرز قصص الأنبياء حيث يقول الله عزّ وجلّ في محكم تنزيله ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ﴾ [ يوسف:الآية 3]،كانت تقاسيم الفلسطينيّ هي أحسن القصص الإنسانيّة التي لابد من التّذكير بها،وهذا ما فعلته الدّكتورة سناء الشّعلان , وبصدق إنّها قصص تسجيلية متفرّدة ومغايرة تؤثّر في الضّمير الإنسانيّة، وتهزّ وعيه، أو بعبارة أخرى قالها يوسف إدريس إنّ كلّ قصة قصيرة قراءتها وهزتني تماماً كانت دائماً لحظة تركيب كونيّ متعدّد المكونات,يؤدّي إلى خلق مادة جديدة تماماً عن كلّ المواد العضوية وغير العضوية .. مادة جديدة اسمها الحياة” وبأمانة القاريء المحايد هذا مفعول وتركيب قصص تقاسيم الفلسطينيّ للمبدعة الدّكتورة سناء الشّعلان عليّ،ولسان حالها يردد ما قاله الشّاعر التّركي “ناظم حكمت ” : “لو وضعوا الشّاعر في الجنة، لصرخ آآآه يا وطني”.