فِيمَ يفكر الرئيس عزيز؟
اليوم تمر بنا الذكرى العاشرة لانقلاب الثالث من أغسطس، وقد تكون هذه مناسبة هامة للتأمل ولأخذ العبر، خاصة بالنسبة للمعارضة الموريتانية التي كانت قد أضاعت الكثير من الفرص الثمينة في هذا العقد الأخير، وهو العقد الذي كانت قد علقت عليه آمالا طوالا عراضا، فإذا بها تكتشف في آخر أيامه بأن لا أحوالها ولا أحوال البلاد قد تحسنت، وإنما على العكس من ذلك، فإن الأحوال كلها كانت قد ساءت شيئا كثيرا.
لقد أضاعت المعارضة الموريتانية فرصا كثيرة في هذا العقد الضائع، ولذلك فإن السؤال الأهم الذي يجب طرحه في مثل هذا اليوم هو : ما الذي على المعارضة أن تفعله الآن إذا ما أرادت أن توقف من حجم خسائرها، وإذا ما أرادت من بعد ذلك أن تمسك بزمام المبادرة؟
إن أول شيء على المعارضة الموريتانية أن تفعله الآن هو أن تحاول أن تجيب على السؤال: فيم يفكر الرئيس عزيز؟ وبعد الإجابة على هذا السؤال يكون من الضروري أن تعد خطة محكمة لوأد أفكار الرئيس في مهدها، ولإفشال خططه وهي لا تزال في بداية تشكلها.
إن أي حراك ستقوم به المعارضة الموريتانية مستقبلا، لن يختلف عن حراكها في الماضي، وهو سيبقى حراكا عبثيا وعديم الفاعلية إذا لم يسبقه أي جهد من أجل الإجابة على السؤال أعلاه. يقولون في التخطيط الاستراتيجي بأنه إذا لم تكن لديك خطة وأهداف واضحة تسعى إلى تحقيقها فأنت ستكون حتما ضمن خطط الآخرين.هكذا كانت المعارضة الموريتانية في السنوات الأخيرة، لقد كانت جزءا ـ من حيث تدري أو لا تدري ـ من خطط الرئيس محمد ولد عبد العزيز التي كان قد وضعها من أجل الوصول إلى السلطة ومن أجل البقاء فيها.
لقد كان الرئيس مسعود ولد بولخير ـ ودون أن يعلم بذلك ـ جزءا من خطة ولد عبد العزيز، وذلك عندما صوت في الشوط الثاني من رئاسيات 2007 للمرشح سيدي ولد الشيخ عبد الله، والذي كان هو المرشح الذي أراد له عضو المجلس العسكري العقيد محمد ولد عبد العزيز أن يفوز بالرئاسة، وخطط ببراعة لفوزه، ولذلك فقد وجد الكثير من السياسيين أنفسهم وهم يتحركون في صالح خطة العقيد محمد ولد عبد العزيز، وكان الرئيس مسعود هو من أبرز أولئك.
وبعد فوز الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله فسنجد بأنه سيخصص كل الفترة التي قضاها في السلطة في تنفيذ خطة قائد حرسه الجنرال عزيز، أي أنه ظل خلال تلك الفترة يزيد من نفوذ قائد حرسه الخاص، ومن نفوذ حلفائه المدنيين والعسكريين، ويبعد ويقصي خصوم قائد الحرس من مدنيين وعسكريين، وكان ذلك هو بالضبط هو كل ما كان يحتاجه الجنرال محمد ولد عبد العزيز ليمهد لخطوته القادمة، والتي كانت تتمثل في الاستيلاء على السلطة عندما يحين الوقت المناسب لذلك.
في تلك الفترة كانت جل أحزاب المعارضة التقليدية قد التحقت بشكل أو بآخر بنظام سيدي ولد الشيخ عبد الله (التحالف، اتحاد قوى التقدم، تواصل)، ولم يبق في المعارضة التقليدية إلا التكتل وحاتم، ومع ذلك فسنجد بأن رئيس المجلس الأعلى للدولة الجنرال محمد ولد عبد العزيز سيستخدم الحزبين اللذين صمدا في المعارضة (التكتل وحاتم) في تشريع وتسويق انقلابه، وكان تسويق الانقلاب من طرف الأحزاب الأكثر معارضة هو أهم شيء كان يحتاجه الجنرال ولد عبد العزيز في تلك الفترة الحرجة والعصيبة التي أعقبت انقلابه الجريء.
هكذا ظلت الأمور تسير، لقد كان الرئيس محمد ولد عبد العزيز يوظف الجميع في مشاريعه الخاصة، وكان الرئيس عزيز كلما انتهى من توظيف أحد معارضيه، وعلم بأن صلاحيته قد انتهت، لم يكن منه إلا أن يبدأ معه مرحلة ثانية، تتمثل في إضعاف ذلك المعارض وتحطيمه بعد أن يكون دوره في الخطة قد انتهى.
لقد تمكن الرئيس محمد ولد عبد العزيز من توظيف المعارضين في مشاريعه، وذلك لأنه لا أحد من المعارضين كان قد حاول أن يتعرف على ما كان يدور من أفكار وخطط في رأس الرئيس عزيز.
لم يكن الرئيس مسعود يعلم بأن العقيد محمد ولد عبد العزيز لم يرشح ولم يدعم سيدي ولد الشيخ عبد الله إلا ليمارس من ورائه السلطة، ولقد كان الرئيس سيدي هو المرشح الذي يصلح لذلك، فهو لم يكن من قبل ترشيحه يحلم بالرئاسة، ولم يكن معروفا بالقوة ولا بالصرامة، ولذلك فقد كان هو الشخص الأنسب لتنفيذ مشروع العقيد محمد ولد عبد العزيز المتمثل في تلك الفترة في إدارة شؤون البلاد من وراء ستار. ولما لعب الرئيس مسعود الدور المطلوب منه سنجد فيما بعد بأن الرئيس محمد ولد عبد العزيز سيبدأ العمل في إضعاف وتحطيم الرئيس مسعود. لقد كان الرئيس مسعود، وإلى وقت قريب، هو القائد الأول، وربما المرجع الأول في نضال لحراطين، ولكن سنجد بأن تلك المكانة ستهتز، وسنجد بأن الرئيس عزيز سيعمل بكل جهده من أجل خلق منافسين جدد للرجل، ويمكن أن أذكر هنا السيد بيرام الذي كان في غاية التطرف، والسيد بيجل الذي كان في غاية الاعتدال .
ولم يكن أيضا الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله يعلم بأن قائد حرسه كانت عينه على كرسي الرئاسة، ولذلك فقد ظل الرئيس سيدي ينفذ كل ما يطلبه منه رئيس حرسه من تمكين لحلفائه ومن إبعاد لخصومه إلى أن أصبح قائد الحرس هو الحاكم الفعلي الذي يسير أمور البلاد. وعندما حانت لحظة الجد أماط قائد الحرس اللثام عن وجهه، وحينها لم يكن بإمكان الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله أن يفعل شيئا سوى أن يكتب بيان إقالة من أربعة أسطر في الثلث الأخير من آخر ليلة قضاها بالقصر الرئاسي.
لقد ظل الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله ينفذ خلال الستة عشر شهرا التي قضاها في الرئاسة الخطة التي كان الجنرال محمد ولد عبد العزيز قد وضعها، ولما انتهت مهمة الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، فلم يكن من قائد الحرس إلا أن انقلب على الرئيس المنتخب، ولم يكن منه إلا أن ألقى به في السجن، بإحدى غرف قصر المؤتمرات، ذات صبيحة أربعاء، صادفت يوم السادس من أغسطس من العام 2008.
وسيتكرر شيء مشابه لهذا مع حليف آخر من غير المعارضة، إنه رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو الذي بذل من ماله وسمعته الشيء الكثير من أجل تشريع انقلاب الجنرال محمد ولد عبد العزيز، ومن أجل فوزه في انتخابات 2009. ولما انتهت مهمة رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو، فلم يكن من الرئيس عزيز إلا أن بدأ يضايق رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو في رزقه، وينافسه في مجال المال والأعمال، فما كان من الأخير إلا أن ترك البلاد ليستقر به المقام في المملكة المغربية. وحتى المملكة المغربية التي دعمت ورعت انقلاب الجنرال عزيز فسنجد بأن الرئيس عزيز سيتعامل معها بجفاء دبلوماسي كبير بعد أن انتهت مهمتها في تسويق وفي تشريع انقلابه.
وبالعودة إلى المعارضة الموريتانية فسنجد بأن حزبي التكتل وحاتم سيدعمان انقلاب السادس من أغسطس في مرحلة حرجة جدا، ولكن، وبعد أن يتمكن الرئيس عزيز من تجاوز تلك المرحة الصعبة، فإنه سينقلب على الحزبين، وسيتعامل معهما بعداء كبير لم يعامل به أي حزب معارض آخر.
لم يكن الرئيس أحمد ولد داداه على اطلاع بما كان يفكر فيه الرئيس عزيز، ولذلك فقد وقع هو أيضا في خطأ كبير، ووجد نفسه يتحرك وفق ما كان يخطط له الرئيس عزيز، ولما انتهت مهمة الرئيس أحمد فلم يكن من الرئيس عزيز إلا أن بدأ يكشف عن عداوته للرئيس أحمد. ولقد بذل الرئيس عزيز جهدا كبيرا من أجل تشويه تلك الصورة الأنيقة التي كان يتمتع بها الرئيس أحمد (ثمانية عشرة سنة من النضال، ومن السجون، ومن الإقصاء من أجل موريتانيا). لقد حاول الرئيس محمد ولد عبد العزيز أن يشوش على تلك الصورة، وأن يصور بأن نضال الرئيس أحمد لم يكن من أجل موريتانيا، وإنما كان من أجل تحقيق مصالح شخصية، ولذلك فسنجد بأن الرئيس عزيز سيصف فيما بعد الرئيس مسعود بأنه شخصية وطنية، وبأنه كان يأتيه في قضايا عامة، في حين أن الرئيس أحمد كان يأتيه دائما من أجل مطالب شخصية.
ولما تجاوز البرلمان الموريتاني والمجالس البلدية المأمورية المحددة لهما دستوريا، ولما أحس الرئيس عزيز بضرورة تنظيم انتخابات تشريعية وبلدية، ولما قرر حزب تواصل أن يكون هو الحزب الوحيد من منسقية المعارضة الذي يشارك في تلك الانتخابات، فلم يكن حينها من الرئيس عزيز إلا أن وجه ضربة قاسية لحزب تواصل الذي عمل على تشريع انتخابات 23 من نوفمبر، وقد تمثلت تلك الضربة في إغلاق جمعيات مقربة من هذا الحزب، وكانت من أبرزها جمعية المستقبل. وتم أيضا العمل على محاولة تشويه هذا الحزب، وعلى إظهاره بأنه حزب لا يحترم عهوده ولا مواثيقه.
نفس الشيء سنجده يتكرر مع حركة “إيرا” ومع زعيمها الذي قرر أن ينافس الرئيس عزيز في انتخاباته الرئاسية التي قاطعتها جميع الأحزاب المعارضة، هذا إذا ما استثنينا حزب الوئام إن كان يمكن تصنيف ذلك الحزب على أنه حزب معارض. لم يكن من الرئيس عزيز بعد انتهاء تلك الانتخابات إلا أن ألقى برئيس حركة “إيرا” وبنائبه في السجن، وذلك رغم أن قائد “إيرا” كان قد خصص كل حملته الانتخابية لانتقاد المعارضة الموريتانية بدلا من انتقاد منافسه المرشح محمد ولد عبد العزيز.
إن الأمثلة في هذا المجال كثيرة، ومع ذلك فإني سأكتفي بالأمثلة السابقة، والتي لم أوردها من أجل التذكير بأخطاء الماضي، وإنما أوردتها لنأخذ منها عبرة حتى لا نكرر نفس الأخطاء في المرحلة القادمة.
أكاد أجزم بأن البعض منكم سيقول الآن بأني أبالغ في الأمور، وبأن الرئيس عزيز ليس بكل هذا الدهاء، وبأنه ليست لديه أية خطط، وإنما هو مجرد ضابط عسكري يرتجل الأمور ارتجالا، ومن المستحيل أن يكون قد خطط لاستغلال المعارضة الموريتانية بهذا الشكل الذي تحدث عنه المقال.
بدءا لابد من القول بأنه ليس من الحكمة التقليل من شأن الخصوم، وليس من الحكمة أيضا أن نستهزئ بعقل الرئيس عزيز، خصوصا إذا ما تعلق الأمر بنقاش موضوع يتعلق بالرئاسة وبالبقاء فيها. إنه عليكم أن تتذكروا دائما بأن هذا الجنرال الذي تمكن وبمفرده من أن ينقلب على رئيس منتخب في أسوأ توقيت يمكن تخيله؛ وأن هذا الجنرال الذي تمكن من إقناع جزء كبير من الشعب الموريتاني بأنه لم ينقلب على الرئيس المنتخب انتصارا لوظيفة سلبت منه، وإنما انقلب عليه انتصارا للفقراء، وانتقاما من المفسدين، وتصحيحا للمسار الديمقراطي؛ وأن هذا الجنرال الذي تمكن من أن يسوق كل الطبقة السياسية، وكل الدول الكبرى لاتفاق داكار الذي شرع به انقلابه؛ وأن هذا الجنرال الذي استطاع أن يحول أخطر أزمة مر بها خلال رئاسته (إصابته بالرصاصات الصديقة) إلى أكبر انتصار سياسي له، وأكبر خسارة لمعارضيه. إن مثل هذا الجنرال الذي حقق كل ذلك، لن يكون من الحكمة أن نستهزئ بعقله، ولن يكون من الحكمة أن نعتبر بأن الحظ و الصدفة هما اللذان مكناه من تجاوز كل تلك الصعاب.
دعونا ننطلق من فرضية تقول بأنه كانت للرجل خطة، وبأن خصومه لم تكن لديهم خطة، ولذلك فلم يكن غريبا أن نجد بعض خصوم الرجل يتبادلون الأدوار ويتناوبون على مساعدته في تنفيذ خططه. وحتى لا يتكرر نفس الخطأ، دعونا نطرح السؤال التالي: فِيم يفكر الآن الرئيس عزيز، وما الذي يخطط له مستقبلا؟
لقد طرحت هذا السؤال على نفسي، ولقد تحصلت لدي إجابة من ثلاث فرضيات استبعدتُ منها اثنتين، واحتفظت بواحدة.
الفرضية الأولى: أن يكون الرئيس عزيز قد بدأ يفكر بشكل جاد في خروج آمن من السلطة، وذلك بعد أن يكمل مأموريته الثانية، وربما يكون ذلك هو الذي جعله يفاجئ الجميع، من خلال ما بات يعرف بوثيقة الوزير الأول للحوار، بالإعلان عن استعداده للحوار، وعن استعداده لتنظيم انتخابات تشريعية وبلدية وربما رئاسية سابقة لأوانها.
هذه الفرضية كانت وجيهة عند الإعلان عن وثيقة الوزير الأول للحوار، أما اليوم فلم تعد وجيهة، وذلك بعد أن أظهر الرئيس عزيز بأنه لم يعد متحمسا للحوار، من بعدما أظهرت المعارضة بأنها ليست متحمسة لتعديل الدستور خاصة في مادته المتعلقة بتحديد سن الترشح للرئاسة، وبتحديد عدد المأموريات.
الفرضية الثانية : أن يكون الرئيس عزيز يفكر في البقاء في السلطة من بعد مأموريته الثانية، وأنه يريد أن يشرع ذلك البقاء بتعديلات دستورية يمكن أن تتخذ واحدا من وجهين:
أولهما : أن يعدل المادة المتعلقة بعدد المأموريات، وهذه الفرضية لم تعد قائمة، وكنا قد استبعدناها، وذلك بعد أن أظهرت المعارضة وبوضوح رفضها لذلك التعديل، بل ورفضها للطعم الذي تقدم به الرئيس ( رفع سن الترشح) من أجل إغرائها بالقبول برفع عدد المأموريات الرئاسية. لم يعد هذا الاحتمال واردا، فالرئيس عزيز يعلم بأن أي تعديل للدستور من دون موافقة المعارضة قد يتسبب في زوال حكمه، وقد يفتح المجال لحراك قوي قد تشارك فيه قوى كثيرة لم تكن في الأصل معارضة. كما أن الرفض القوي والصريح لمأمورية ثالثة من طرف الرئيسين الفرنسي والأمريكي قد ساهم هو كذلك في استبعاد إقدام الرئيس عزيز على تعديل الدستور لزيادة عدد المأموريات، ومن دون موافقة المعارضة.
ثانيهما : أن يرشح الرئيس من يثق به كخليفة له إلى حين، وأن يعدل الدستور من أجل الحد من صلاحيات الرئيس القادم، على أن يتولى هو رئاسة البرلمان أو رئاسة الحكومة على الطريقة “البوتينية”. هذه الفرضية وإن كانت وجيهة، إلا أن هناك أسبابا شخصية ستجعل من الصعب جدا على الرئيس عزيز أن يفكر فيها كمخرج.
فالرئيس عزيز الذي يرى بأنه هو من أتى بالرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله إلى الرئاسة، ومع ذلك فقد أقاله من قيادة الحرس، وربما كان يفكر في إجراءات أخرى ضده، لابد وأنه قد شعر بالمرارة من تلك التجربة، ومن الصعب عليه أن يكررها مع شخص آخر، خاصة وأنه لن يجد شخصا بمواصفات الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، والذي كانت مواصفاته الشخصية مغرية، وتوحي بأنه قد يكون مؤتمنا على الرئاسة . ثم إن أي رئيس قادم سيمكنه الرئيس عزيز من الوصول إلى الرئاسة، لا بد وأنه سيحاول أن يستفيد من تجربة سيدي ولد الشيخ عبد الله، وأن يتجنب تكرار أخطائه، ولابد أن أول شيء سيفكر في فعله بعد جلوسه على الكرسي هو أنه سيحاول أن يقلم أظافر من كان قد أوصله لذلك الكرسي.
الفرضية الثالثة : وهذه هي الأكثر وجاهة بالنسبة لي، وهي أن يكون الرئيس عزيز يعمل الآن ـ وعن وعي ـ من أجل تفخيخ اللحمة الوطنية، ويخطط من أجل إلى إيصال البلاد إلى حافة حرب أهلية، وعندما يظهر للجميع بأن البلاد مقبلة لا محالة على حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، عندها يقرر الرئيس عزيز أن يضحي بالديمقراطية وأن يعلن عن حالة الطوارئ تجنبا لتلك الحرب الأهلية القادمة. وبالتأكيد فإن غالبية الشعب الموريتاني سترحب بالدكتاتورية عندما تجد أن البديل عنها سيكون دخول البلاد في حرب أهلية. إن ما يحدث في بعض الدول الشقيقة والمجاورة من فتن سيجعل الغالبية العظمى من الموريتانيين ترحب بالدكتاتورية إذا كانت هي الحل الوحيد لحماية البلاد من التفكك. لن يختلف الأمر كثيرا عند الشركاء الغربيين، والذين لا تهمهم الديمقراطية في غير بلدانهم، فهؤلاء عندما يجدون مبررا لدعم أي دكتاتورية، فلن يتأخروا في دعمها، ولاشك أن الوقوف في وجه تفكك بلد أخر في مثل هذا الوقت سيكون كافيا لجعل الشعوب الغربية تتقبل من حكوماتها بأن تدعم رئيسا دكتاتوريا في موريتانيا.
هذه الفرضية الثالثة قد تكون هي الأكثر وجاهة، وذلك لأنها تفسر الكثير من سلوك وتصرفات الرئيس عزيز، والذي كان قد عمل في السنوات الأخيرة على إضعاف الأحزاب السياسية، بما فيها تلك الداعمة له، وعلى تغييب أي خطاب وطني جامع، وعلى تشجيع كل الخطابات العرقية والشرائحية والقبلية والجهوية وحتى التكفيرية. وتظهر مباركة الرئيس عزيز لذلك من خلال استقباله في القصر الرئاسي لعدد كبير من أصحاب الخطابات المتطرفة، وفتح وسائل الإعلام الموالية له لأصحاب تلك الخطابات.
لقد أصبح المجتمع الموريتاني يتمايز ويتخندق على أساس عرقي وشرائحي، ولم يعد غريبا أن تجد الشاب الموريتاني الذي يحمل أسفارا من الشهادات الجامعية يعود إلى حضن قبيلته أو شريحته أو عرقه أو جهته، ولم يعد غريبا أن تسمع من ذلك الشاب خطابا قبليا أو شرائحيا أو عنصريا بغيضا.
لقد خلق الرئيس عزيز في السنوات الأخيرة بيئة ملائمة للاصطفاف العرقي، ولقد دمر كل ما من شأنه أن يساهم في بروز خطاب وطني جامع، أو يساهم في خلق تشكيلات وأطر سياسية معتدلة، سواء كانت موالية ومعارضة، تكون لها القدرة على استقطاب الموريتانيين على أساس فكري أو سياسي، لا على أساس قبلي أو شرائحي أو عرقي.
لقد أصبح الاصطفاف العرقي واضحا للعيان، ولقد أصبح الخطاب العنصري والمتطرف هو الخطاب المسموع والمحبوب عند أغلب الموريتانيين، وبمختلف أعراقهم، وإذا ما ظلت الأمور تسير في هذا الاتجاه فلن يكون من المستبعد أن تستيقظوا في يوم قادم على حدث جلل، يكون قد خُطِّط له رسميا، ليكون هو المبرر الذي سيتم اعتماده للإعلان عن حالة طوارئ سيباركها الكثير من الموريتانيين الذين يخافون ـ ولهم الحق في ذلك ـ من أن تنزلق بلادهم وتدخل في حرب أهلية، لا تبقي ولا تذر.
إن هذا التمايز والاصطفاف العرقي والشرائحي يمكن أن يظهر من خلال حراك الزنوج الموريتانيين المتشكل من خمسة أحزاب وعشر منظمات تدافع عن حقوق الزنوج في موريتانيا. اللافت في الأمر هو أن هذا التحالف كان قد جمع شخصيات من المعارضة وأخرى من الموالاة، أي أنه قد تشكل على أساس عرقي، وليس على أساس سياسي، بل إن وزراء من نظام ولد الطايع، وبما فيهم وزير داخليته في الثمانينيات قد انضموا لهذا الحراك، وهو ما يعني بأن المسألة لم تعد تعني تجمعا للدفاع عن مظالم الزنوج الموريتانيين، بقدر ما هي أصبحت تجمعا عرقيا خالصا يمكن لرجال ولد الطايع أن يصبحوا فيه شخصيات قيادية بشرط أن يكونوا زنوجا، أما رجال نفس النظام من غير الزنوج فأولئك سيخلدون في زمرة القتلة والعنصريين!!
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فسنجد بأن الرئيس عزيز (الراعي الرسمي للاصطفاف العرقي) سيستقبل في قصره الرئاسي ممثلا لمجموعة السنونكي وممثلا أو ناطقا رسميا باسم مجموعة الولوف، هكذا وصفتهما الوكالة الرسمية للأنباء في موقعها!!. ولقد استقبل الرئيس من قبل ذلك ومن بعده قيادات زنجية عرفت بخطابها المتطرف والعنصري كما هو الحال بالنسبة لرئيس حركة لا تلمس جنسيتي، ورئيس حركة أفلام الني سُمح لها في عهد الرئيس عزيز أن تجاهر بخطابها الانفصالي من قلب العاصمة نواكشوط.
نفس الشيء يمكن أن نقوله عن مجموعة البيظان التي بدأت تظهر فيها دعوات تطالب بتوحيد صفوف البيظان في شرق موريتانيا وفي غربها، في شمالها وفي جنوبها، وبأنه قد آن الأوان لاستعادة أمجاد البيظان!!
ويبقى مشروع حزب “نو”، والذي يقوده السيد داوود ولد أحمد عيشة، والذي كان قد استقبله الرئيس في القصر الرئاسي هو المشروع الأكثر تجسيدا لذلك الخطاب المتطرف المطالب باستعادة أمجاد البيظان. أيضا من الظواهر اللافتة هنا هو تصاعد الخطاب القبلي، والذي وصل إلى أن أصبحت تنشر البيانات باسم القبائل، ولعل آخر هذه البيانات هو ذلك البيان الذي نشرته مؤخرا إحدى القبائل، وتحدثت فيه عن تشكيل مكتب تنفيذي للقبيلة، ومكاتب جهوية، وعن انتخاب رئيس لتلك القبيلة. المقلق في الأمر أن اجتماعات تلك القبيلة كان يشارك فيها القائد الأعلى لواحدة من أهم المؤسسات الأمنية في البلاد.
ولا يختلف الأمر كثيرا عند لحراطين والذين يتميزون بأنهم أصحاب مظالم تاريخية لا لبس فيها، فهم يحاولون أيضا أن يتجمعوا في ميثاق لحراطين، وذلك بعد أن لم يجدوا مشروعا وطنيا جامعا يتولى الدفاع عن حقوقهم العادلة والمشروعة. المؤسف أن الصوت الأعلى في هذا الميثاق ما يزال هو صوت الحركات الأكثر تطرفا.
يضاف إلى هذا كله وجود جماعة يحظيه المعروفة بجرأة زعيمها على تكفير الناس، ومن المعروف بأن السيد يحظيه كانت قد فتحت له قنوات تلفزيونية مقربة من الرئاسة ليروج من خلالها لخطابه التكفيري المتطرف.
ويأتي من بعد هؤلاء، ومن قبلهم، السفير الأمريكي الذي يصول في بلادنا ويجول، دون حسيب أو رقيب، والذي يعمل هو أيضا، وبشكل مكشوف على تفخيخ اللحمة الاجتماعية، وعلى إثارة النعرات العرقية. لقد نشرت الصفحة الرسمية للسفارة الأمريكية في بلادنا في الأيام الماضية صورة للسفير وهو يتوسط مجموعة من الموريتانيين استقبلته في قرية موريتانية برفع المدافع وبدق الطبول، فهل في ذلك إشارة رمزية إلى أن هذا السفير قد بدأ فعلا يدق طبول الحرب في بلادنا؟
إن ما نشاهد من اصطفاف عرقي، وإن ما نسمع من خطابات عنصرية، لا يبشر بخير على مستقبل هذه البلاد، والمقلق في الأمر أن كل ذلك يحدث برعاية وبمباركة رسمية. فلماذا يبارك الرئيس عزيز هذا الاصطفاف العرقي، ولماذا يرعاه؟ ذلك سؤال على المعارضة الموريتانية أن تبحث له عن إجابة.
وتبقى كلمة
إنه على المعارضة الموريتانية أن تعلم بأن أي ضابط يقرر القيام بانقلاب إنما يقدم على عمل فيه مخاطرة كبيرة، وفيه تضحية كبيرة، قد يكون ثمنها حياته، إن فشل ذلك الانقلاب. وإن في الانقلاب الأخير للجنرال عزيز (انقلاب السادس من أغسطس 2008) لكثير من المخاطرة، ذلك أن الجنرال عزيز كان قد قرر أن يقدم على انقلابه ساعات بعد إقالته، وذلك في وقت كان صديقه الجنرال غزواني خارج العاصمة، ثم إن الرئيس الذي قرر أن ينقلب عليه كان أول رئيس مدني يصل إلى الرئاسة بعد انتخابات رئاسية تعد هي الانتخابات الرئاسية الأكثر شفافية في تاريخ البلاد، وقد تمت مباركتها بشكل واسع: وطنيا ودوليا.
لقد خاطر الجنرال عزيز مخاطرة كبيرة من أجل الوصول إلى الرئاسة، ولذلك فعلى المعارضة أن لا تتوقع منه أن يترك لها الرئاسة التي خاطر من أجلها بطيب خاطر.
على المعارضة أن تضحي من أجل إحداث تغيير في هذه البلاد، وعليها أن تبتعد عن البحث عن مصالح ومكاسب حزبية ضيقة، فالبحث عن تلك المكاسب والمصالح هو الذي أعاق التغيير، وهو الذي أضاع فرصا ثمينة من الصعب أن تتكرر، ولقد تناوبت كل الأحزاب المعارضة على إضاعة تلك الفرص الثمينة. ثم إن هناك لحظات من تاريخ الشعوب والأمم يكون البحث فيها عن مصالح شخصية أو حزبية ضيقة هو أكبر جريمة يمكن أن ترتكب في حق تلك الشعوب، وبالمناسبة فإن المكاسب الشخصية أو الحزبية ستضيع حتما، وستصبح بلا معنى عندما تتفكك لا قدر الله هذه البلاد، لذلك فإنه علينا أن نحمي ونحصن هذه البلاد من التفكك، ومن بعدها يكون من حقنا جميعا أن نتنافس ـ وبشكل شرس ـ على تحقيق مصالحنا الخاصة.
إن لكل تغيير كلفة، وكلفة التغيير يجب أن يتم دفعها من قبل حصول التغيير، وهذه الكلفة قد تقتصر في بعض الأحيان على الاستعداد للتنازل عن مصالحنا الشخصية والحزبية الضيقة من أجل مصلحة عامة. فهل المعارضة الموريتانية على استعداد لأن تدفع الآن كلفة التغيير من قبل حصوله غدا؟
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل